الأب بولس المعروف بالواضح ابن الرجاء

عن كتاب الخريدة النفيسة فى تاريخ الكنيسة جـ 2. قام بطبعه القمص عطا الله أرسانيوس المحرقى أحد رهبان دير العذراء مريم المحرق عن النسخة الأصلية للأسقف الأنبا ايسيذوروس وذلك فى عهد البابا كيؤلس السادس 1964م.. وقد حدثت هذه القصة فى عهد البابا زخارياس الأول (996-1024) قصة الكنيسة القبطية لإيريس حبيب المصرى جـ 3

 ومن أمره أنه كان ابن أحد أشراف المسلمين واسمه "الواضح" واهتدى إلى الدين المسيحى وتفصيل ذلك أن شاباً آخر مسلماً كان قد تنصر فشكاه ذووه إلى الوالى فأمر بحرقه بعد أن اجتهد بكل وسيلة ليرده إلى الإسلام فأخذه الجند ومضوا به إلى خارج المدينة ليمثلوا بـه أشنع تمثيل وفى أثناء ما كانوا يعدون لـه الحطب ليضعوه فوقه ويضرموا بـه النار؛ أن تقدم "الواضح" وجعل ينصحه كثيراً ليعدل عن رأيه ويرتد إلى الإسلام كما كان واعداً إياه بالهبات والعطايا ومن قوله: "إنك مزمع أن تقاسى عذاب نارين؛ نار هنا تزهق روحك من جسمك وتفنى وجودك وهناك تقاسى عذاب نار جهنم دائماً وذلك جزاء كفرك وشركك بالله لأنك تعتقد بثلاثة آلهة." فرد عليه بجواب فند بـه زعمه وأثبت أن النصارى باعتقادهم بالآب والابن والروح القدس لا يعتقدون بثلاثة آلهة وإن التوراة التى بأيدى أعدائهم اليهود والقرآن الذى بأيدى المسلمين يشهدان بتوحيدهم وإيمانهم الصحيح بعبارات صريحة. ثم بسط يديه وصلى داعياً الروح القدس لكى يكشف لـه أسرار ديانة الإنجيل ويمس قلبه بنعمة الإيمان ثم ختم صلاته والتفت إليه وقال لـه: "إنى أتمنى من عمق قلبى أن تصبح عما قليل مسيحياً وتقاسى العذاب مثلى. فـأسخط هذا الكلام "الواضح" وشرع يلكمه ويضربه على رأسه بحذائه ويشتمه بقولـه: "تتمنى لى أيها الكافر الكفر مثلك؟ حاشا لى ثم حاشا. فلم يتعربس من ضربه ولا من شتيمته بل جعل يتفرس فيه مبتسماً، أما "الواضح" فاشتد بـه الغيظ وقاد الشهيد إلى السياف بعنف وأمره أن يقطع رأسه، فحياه الشهيد وودعه كصديق لـه ومد رقبته للسياف فقطعها بين أصوات تسابيحه الصاعدة إلى السماء. ثم وضعت جثته على كوم الحطب واضرمت النار فيه فلم تؤثر فى الجسد المقدس وبعد تفرق الجمع جاء شبان النصارى وحملوه إلى حيث دفنوه بإكرام جزيل.

أما "الواضح" الذى أهان الشهيد تلك الإهانة فقد ذهب إلى منزله مذهولاً من ذلك الثبات الذى أظهره الشهيد والسرور الذى كان يبدو على محياه المتألق بالجمال الفائق ثم جعل يتأمل فى ثباته وحسن صبره وتجلده بدون تذمر ولا عربسة وبالأكثر استغرق فى تأمله بتلك العبارات الرقيقة التى فاه بها وخاطبه عند تلفظه النفس الأخير لا سيما قولـه لـه أنه يتمنى أن يصبح مسيحياً ويقاسى العذاب على اسم المسيح مثلـه. فقلق "الواضح" لهذا النبأ الأخير بزيادة وزادت بـه الندامة على ما فرط منه من الضرب واللطم وألفاظ السباب ولم يعد يهنأ بأكل وشرب ولا يجد راحة، واستمر قلقاً وطار النوم من عينيه وأثر ذلك على صحته وبدأ جسمه يضعف وجعل يطلب راحة ورياضة وتسلية وتسكيناً لهواجسه فلا يجــد. وزاد بـه القلق على أثر رؤيا رآها فى الليل وهى أن طيفاً بشكل راهب وقف قدامه أمامه وناداه قائلاً اتبعنى لكى تستريح من قلق فكرك. وقد رأى هذا المنظر ثلاث دفوع متوالية فانشغل بالـه بالوقوف على معنى الحلم والمراد منه. وكان أوان الحج بعد ذلك فقصد أن يحج بأمل أن يجد تسلية وراحة واتفق مع جماعة على ذلك.

وحدث عند العودة من الحج أن نزل القوم فى ذات مساء ليشربوا ويسقوا جمالهم. فضل عنهم "الواضح" خاصة وأن الظلام كان قد أسدل أستاره. وفيما هو قلق ومتحير ماذا يعمل لينجو بنفسه من هذا القفر المترامى الذى غطاه الظلام إذا بفارس يرتدى الملابس الرسمية ويمتطى صهوة جواده يقف أمامه ويسأله: "ماذا حدث لك؟" فلما أخبره بما هو فيه من مأزق قال لـه الفارس: "ما دمت قد فقدت جمالك وضللت عن القافلة التى كنت معها فاركب خلفى على جوادى." وتنفس "الواضح" الصعداء وركب خلف الفارس ولم يعرف من هو ولا ماذا فعل به ولكنه وجد نفسه بعد دقائق داخل بناء فسيح. وكان البناء هو كنيسة أبى السيفين ببابليون ولو لم يعرفها طبعاً. ولكنه رأى القناديل موقدة ورأى على ضوئها أيقونات القديسين فأدرك أنه داخل كنيسة ما. ونام مطمئناً إلى الصباح. وعندما دخل بواب الكنيسة كعادته لينظفها ورآه؛ ظنه لص وكاد يستغيث ولكن الواضح أشار إليه بالسكوت وروى لـه كل ما أصابه. ولم يصدقه البواب فعاد الواضح يسأل عن القديس شفيع الكنيسة التى هو بها فأعلمه أنه أبو سيفين. فرجا منه أن يريه صورته إن كان ذلك ممكناً. وحينما وقف أما الأيقونة هتف: "حقاً هذا هو الفارس الذى أنقذنى من الموت فى الصحراء. فهذا لباسه وهذه منطقته وهذا حصانه وهذان سيفاه!" ذهل البواب وزعم أن الرجل قد جُن. ولكن "الواضح" طلب إليه أن يأخذه إلى قص شيخ يفهم الحقائق الروحية فأجابه إلى طلبه. وحينما سمع الرجل الروحانى بما جرى، صدقه ولبى طلب الواضح فى أن يقرأ الكتاب المقدس وكتب الآباء. وانكب "الواضح" على القراءة وتفتح قلبه فرجا من القمص أن يعمده. وتردد القمص فى بادئ الأمر واقترح عليه أن يذهب إلى برية شيهيت كى يكون بعيداً عن أهله ومعارفه. ولكن "الواضح" ألح عليه قائلاً: "إن الطريق بعيد وقد يفترسنى وحش أو موت بسبب من الأسباب قبل أن أصل إلى الوادى المقدس وأنال نعمة المعمودية." وعندها صبغه القمص بالصبغة المقدسة باسم "بولس" ثم عاد يطلب إليه أن يذهب إلى البرية فلبى طلبه وترك كنيسة أبى السيفين التى ظل مقيماً بها منذ أن أحضره شفيعها إليها.

ووصلت القافلة التى كان "الواضح" أحد أعضائها وذهب صديق أبى الرجاء ليعلمه أن ابنه ضل عنهم ولم يقفوا لـه على أثر. فظنت العائلة أنه قد توفى وعملت عليه مناحة.

على أن الرهبان قالوا للواضح بأن عليه أن يشهد بمسيحيته أمام عارفيه.. فترك البرية وعاد إلى كنيسة أبى السيفين. ورآه أحد عارفيه فذهب إلى اسرته يقول: "لقد رأيت اليوم شاباً نصرانياً شديد الشبه بابنكم." فذهب اخوته إلى منطقة الكنيسة يراقبونه عن بعد فلما رأوه تيقنوا أنه هو فأمسكوا بـه وأخذوه إلى البيت واشتد معه أبوه وأساء معاملته فقبلها فى رضى. واشتكى أمره للخليفة العزيز فلما استوضح الخليفة الحقيقة أمر بتركه حراً وهيأ لـه فرصة للمناظرة الدينية فى قصره أمام المسلمين والقبط. فاستمتع بولس إذ ذاك بالحرية.

على أنه لما آل الحكم إلى الحاكم بأمر الله عاد أبو الواضح إلى التضييق عليه فحبسه واستبد بـه ومنع عنه الطعام والشراب عدة أيام. ثم أخرجه فوجده فى صحة ونضرة.. وعند ذاك ضاعف استبداده وأخيراً ذهب يشتكى منه إلى الحاكم بأمر الله. ولكن شاءت المراحم الإلهية أن تكون هذه الشكوى فى فترة من فترات الصفاء. فأمر الحاكم بأن يأتى المشتكون والمشتكى عليه أمامه. فلما مثلوا بين يديه أمرهم أن يتحاجوا أمامه. وبعد أن استمع إلى الطرفين أعجبه كلام الواضح فأمر بتركه وشأنه فلما أخلى سبيله للمرة الثانية ذهب إلى البرية حيث ترهب بدير الأنبا مكاريوس الكبير.

وفى تلك الأثناء تعرف بالأنبا ساويرس أسقف الأشمونين ووضع نفسه تحت خدمته بأن جمع لـه كل السير التى وجدها فى الدير. كذلك وضع كتابين سمى أحدهما "الواضح" لأنه ضمه توضيحاً صريحاً للعقيدة التى اعتنقها، وأما الكتاب الثانى فدعاه "نوادر المفسرين". فلما رأى الرهبان ما تحلى به من الفضل والعلم أمسكوا به قسراً وقدموه إلى البطريرك الذى كان يزور البرية آنذاك فرسمه قساً. فتعرض بهذه الرسامة لغضب العربان بتلك الجهات وخاف عليه الرهبان من القتل فقالوا لـه: "لقد شهدت لإيمانك وسط العالم فلا تعرض نفسك للموت الآن بل امض إلى الريف وعش هناك." فمضى إلى بلدة صندفا حيث صار قيماً لكنيسة الشهيد ثيئودوروس يخدمها ليلاً ونهاراً مدة سنتين. واتفق أن جاء شماس من أهل منوف اسمه تيدرا بن مينا إلى هذه الكنيسة فوجد هذا القديس محموماً. ولقد قال لـه بولس حين رآه: "مطانوه أن لا تفارقنى لأنى لم يبق لى غير يومين على هذه الأرض. فمتى استرد الآب السماوى وديعته فادفنى قبل أن يعلم أحد." ولما تنيح هذا الرجل البار تحيَّر الشماس فى أمره قليلاً إذ كان بعض الغوغاء قد سمعوا بالخبر رغم الحرص الذى أبداه الشماس. فبدأوا يتجمعون حول الكنيسة. وفيما هو يروح ويغدو فى داخلها مصلياً مفكراً انزلقت رجله تحت العتبة وإذ به يجد مطمورة حسنة نظيفة فأنزل بها جسد القديس وردم فوقها وأصلح موضع العتبة. ثم فتح باب الكنيسة، فلما دخلها الغوغاء لم يجدوا شيئاً فتركوا الكنيسة لأصحابها فى سلام.

بركة القديس بولس تكون معنا آمين.