16 مسرى: نياحة البابا القديس متاؤس الرابع البطريرك الثانى بعد المائة

وفى مثل هذا اليوم من سنة 1391ش ( 15 أغسطس سنة 1675م ) تنيح البابا متاؤس الرابع البطريرك ال 102. وهو يعرف باسم متى الميرى. ولد هذا الأب من أبوين مسيحيين تقيين، كانا من الأبرار الصالحين يعملان الصدقات والحسنات. وهما من أغنياء أهل مير من أقليم الأشمونين بكرسى قسقام المعروف بالمحرق وكانت لهما أراضى زراعية متسعة ومواشى. وقد رزقا ثلاثة أولاد ذكور، أحدهم هذا الأب الفاضل، وكان أحب أخوته عند والديه وكان اسمه أولاً جرجس. وقد اعتنيا بتربيته وهذباه بكل أدب ووقار. ولم يكلفاه كأخويه بالعمل فى الحقل والزراعة، ولا برعى المواشى، بل جعلاه ينصرف إلى القراءة والتعليم، حتى صار عالما بالكتب المقدسة أكثر من أهل جيله، وأصبح قادرا على تفسير معانيها لمن أشكل عليه أمرها. ولما كبر زهد هذا العالم الزائل، ومضى الى دير السيدة العذراء المعروف بالبرموس فى برية شيهيت وأقام به ست سنوات، فتراءى له فى حلم أن أبويه حزينان عليه، وعرف عنه أنه مات لأنهما لم يهتديا إلى مكانه. فقام لوقته وأعلم اخوته فى الدير، فأشاروا عليه بالتوجه إلى بلده لرؤية والديه. فمضى الى مير وسلم عليهما. فلما وقع نظرهما عليه، فرحا فرحاً عظيماً، وبعد ذلك أرادا أن يزوجاه، فلما علم القديس من أخ صديق له بما اعتزما عليه، هرب وعاد إلى ديره ثانيا، فتلقاه اخوته الرهبان بالترحاب والسرور وسكن مع هؤلاء القديسين، وسلك معهم سبيل المحبة والإخلاص، وخدمهم الخدمات الصادقة، فزكوه للرهبنة. وبعد ذلك رسم قسا على الدير. وبعد أيام من ذلك لبس الإسكيم، وصار يجهد نفسه بالسهر والصلاة والعبادة والسجود، أكثر مما فرض على غيره من الرهبان، فكان يصوم من الليل إلى الليل، وفى زمن الشتاء كان يصوم يومين يومين. واستمر على هذا المنوال مدة حياته، حتى اكتسب رضاء الرب بأعماله الصالحة وعبادته المرضية وتقشفه التقوى.

ولما انتقل الى رحمة الله البابا مرقس السادس البطريرك ال 101 وطلب الآباء والكهنة والأراخنة أن يقيموا لهم راعيا صالحا عوضا عنه، فسألوا رهبان البرارى والأديرة عمن يصلح لهذا المركز السامى، فأرشدوهم الى هذا الأب، فطلبوا إليه الحضور إلى مصر، فرفض إجابة الطلب، فاضطروا أن يرسلوا جنديا من قبل الدولة فقبض عليه، وأتى به مقيداً.

وأما أهل مصر فأمسكوا قسا آخر من الرجال القديسين يسمى يوحنا، وأرادوا أن يرسموه بطريركا، فوقع خلاف بسبب ذلك، فقبض الوالى على المرشحين الاثنين، وحبسهما عنده مدة أربعين يوما، ولما طال الأمر، اجتمع الأساقفة وأشاروا بعمل قرعة هيكلية، فعملت القرعة أمام الجمهور، كما عمل الجند أيضا قرعة فيما بينهم بدار الولاية، وفى كل مرة كان يسحب اسم جرجس فى القرعة، وفى بعض الليالى كان يشاهد جند الوالى شبه قنديل مضىء فوق رأس الأب جرجس، أثناء وجوده فى السجن، فوقع عليه الاختيار بعد الاختلاف الكبير، ورضى به الشعب، فرسم فى يوم الاحد 30 هاتور سنة 1377 ش ( 6 ديسمبر سنة 1660 م ) فى عهد السلطان محمد الرابع العثمانى.

وكان الاحتفال برسامته فخما عظيما حضره كثيرون من طوائف المسيحيين على اختلاف مذاهبهم، ولما اعتلى الكرسى البطريركى فى القلاية البطريركية بحارة زويلة، نظر فى الأحكام الشرعية والأمور الكنسية بلا هوادة ولا محاباة، وكان متواضعا وديعا لا يحب الظهور والعظمة، فما كان يجلس على كرسى فى الكنيسة بل كان يقف بجانبه إلى انتهاء الصلاة. ومن فضائله أنه كان يفتقد الأرامل والأيتام، وكان يزور المحبوسين فى السجون وينظر إلى الرهبان المنقطعين بالأديرة ويعتنى بأمرهم ويقضى ما يحتاجون إليه. وكان محبا للأديرة والكنائس، وكانت معيشته بسيطة كعيشة الرهبان فى البرية. وساد فى أيامه الهدوء والطمأنينة. وقد استنارت الكنيسة بغبطته مدة رئاسته. وفى سنة 1387 ش ( 1671 م ) حصل وباء عظيم فى مصر أفنى الكثير.

وقام برسامة مطرانين على التعاقب لمملكة أثيوبيا بعد وفاة مطرانها يؤنس الثالث عشر، الأول: الأنبا خرستوذللو الثانى، وأقام هذا المطران على الكرسى من سنة 1665 م إلى سنة 1672 م فى مدة الملك واسيلدس، والثانى: الأنبا شنودة الأول، وأقام على الكرسى من سنة 1672 إلى 1694 م فى أيام يوحنا الاول.

والبابا متاؤس الرابع كان آخر من سكن القلاية البطريركية فى حارة زويلة، لأنه نقل كرسيه إلى حارة الروم فى سنة 660 م أول أيام رسامته.

وقد قاسى بعض الشدائد، إذ دخل الشيطان فى قلب رجل مسيحى، فصار يمضى إلى بيت جامع الضرائب ويغرم المسيحيين فاشتد بهم الحال، فشكوه إلى البابا فأرسل إليه وأحضره، ونهاه فلم يرتدع عن غيه، فحرمه ومات شر ميتة، ومرة أخرى أتت إليه امرأة تشكو له بعلها  بأنه طلقها وتزوج بأخرى، فأرسل وأحضره ومعه امرأته الثانية، وأمر بالتفرقة بينهما، فامتنعت المرأة وقالت: "كيف يكون هذا وأنا قد حملت منه؟" فقال لها البابا البطريرك : "إن السيد المسيح يفصل بين الشرعين." (بينك وبينهما) ولم تكد المرأة تخرج من القلاية حتى نزل الجنين من بطنها. فحصل خوف عظيم بسبب هذا الحادث، وانفصل الرجل عنها وعاد إلى امرأته الأولى، وصار هذا البابا محترما مكرما مهابا من شعبه.

وفى مرة أخرى أراد المخالفين أن يهدموا كنيسة القديس مرقريوس أبى سيفين بمصر القديمة ودخلوا الديوان وعينوا رئيسا لهذا الأمر، فبلغ الخبر مسامع البابا، فأغتم كثيرا، وقضى تلك الليلة ساهرا متضرعا إلى الله تعالى، متشفعا بالشهيد مرقريوس كى يحبط مؤامرة الأشرار وينجى الكنيسة من الهدم. فحدث والجند نيام أن سقط عليهم حائط فماتوا جميعا، وشاع هذا الخبر فى المدينة كلها، وبطلت تلك المؤامرة الرديئة، فمجدوا الله تعالى.

وفى أيامه كان عدو الخير يهيج غير المؤمنين على المسيحيين، وكان المسيح عز شأنه يبدد مشورتهم ويهلكهم ببركة صلواته، لأنه كان يرعى رعية المسيح الرعاية الصالحة.

ولما دنا وقت نياحته مضى إلى المقبرة التى تحوى أجساد البطاركة بمصر وقال لها: "انفتحي واقبلينى لأسكن بين أخوتي الأبرار." ولما عاد إلى مكانه، مرض مرض الموت، فأرسل إلى الأساقفة والكهنة وأحضرهم وأوصاهم على رعية المسيح، كما أحضر الرئيسة من الدير وأعطاها كل ما عنده وأوصاها أن تسلمه لمن يأتى بعده لأنه وقف القيامة. ثم تنيح بسلام فى شيخوخة صالحة بعد أن أقام على الكرسى المرقسى مدة أربع عشرة سنة وثمانية شهور وتسعة أيام. وكانت مدة حياته خمسة وسبعين سنة، ودفن فى مقبرة البطاركة بكنيسة القديس مرقريوس بمصر القديمة، وخلا الكرسى بعده سبعة أشهر.

صلاته تكون معنا. ولربنا المجد دائما. آمين.