18 أبيب: الشماسة أولمبياس

المرجع : القديس يوحنا الذهبى الفم ـ للقمص تادرس يعقوب ملطى

تنتمى أولمبياس إلى عائلة غنية؛ فقد استطاع جدها أبلافيوس Ablavius أن يكون والياً على القسطنطينية؛ مقرباً من الملك ثيئودوسيوس، كما  كان والدها سيليكوس Seleucus والياً . ولدت حوالى عام 368م وتيتمت وهى بعد صبية صغيرة. فتكفل برعايتها عمها بروكوبيوس Procopius صديق القديس غريغوريوس النزينزى، وقامت بتعليمها ثيؤدوسيا Theodosia أخت القديس أمفلوكيوس  Amphilocus أسقف أيقونية Iconium، كما تأثرت بالقديسة ميلانية الكبرى Milania the Elder .

اشتهرت بجمالها الفائق وغناها فتزوجت فى سن السادسة عشر من نيبريدوس Nebridies والى القسطنطينية؛ لكنه سرعان ما توفى، فأراد الملك ثيئودوسيوس أن يزوجها بقريبه ألبيدوس Alpidius، فرفضت بشدة قائلة: "لو كان الله يريدنى أن أعيش زوجة لما أخذ منى نيبريدوس!" وإذ ضغط عليها استمرت فى الرفض، فأمر أن توضع ممتلكاتها تحت الوصاية حتى تبلغ الثلاثين من عمرها. أما والى المدينة فأراد أن يشدد الضغط عليها لعلها ترضخ لطلب الإمبراطور، فمنعها من رؤية الآباء الأساقفة أو الاشتراك فى العبادة الكنسية، أما هى "فمثل غزال قفزت متخطية فخ الزواج الثانى." فكتبت إلى الإمبراطور ثيؤدوسيوس تشكره أنه رفع عنها نير تدبير أموالها، وأنه بالأحرى يكمل سرورها بالأكثر لو أمر بتوزيع أموالها على الفقراء. تأثر الملك برسالتها؛ خاصة أنها انطلقت إلى الشرق تمارس الحياة النسكية فى غيرة متقدة لمدة أربع أعوام، فأعاد إليها ممتلكاتها عام 391م ووهبها حرية التصرف. فتقدمت للقديس نكتاريوس أسقف القسطنطينية تطلب تقديم كل حياتها لخدمة الله، فرسمها شماسة وهى بعد صغيرة فى السن. فقامت بإنشاء بيت للعذارى. تجمع فيه العذارى والأرامل اللواتى يردن خدمة الله.

تلألأت حياة الشماسة أولمبياس، إذ فتحت قلبها لمحبة الفقراء بصورة أدهشت الكثيرين، فقيل فى مدحها: "تسمع الإمبراطورة أفدوكسا آيات الإكرام والتبجيل من كل بقاع العالم، أما أولمبياس فتسمع تنهدات العالم كله ودعواته." صارت محبوبة من الشعب ومكرمة أيضاً من الأب البطريرك.وقد لخص بالاديوس حياتها بقوله: "وزعت كل مقتنياتها على المحتاجين. صارعت من أجل الحق، هذبت نسوة كثيرات، تناقشت مع كهنة فى وقار، كرمت أساقفة، واستحقت أن تكون"معترفة" فى سبيل الحق، فإن الذين يعيشون فى القسطنطينية يحسبونها ضمن "المعترفات والمعترفين" ، إذ ماتت ورحلت إلى الرب فى كفاحها من أجل الله."

عندما أصبح القديس يوحنا ذهبى الفم بطريركاً على القسطنطينية التقى بها كأسقف مع شماسته التى تخدم أخوة الرب الأصاغر. وجد فى أولمبياس قلباً لا يعرف للعطاء حداً حتى اضطر أن ينصحها بتقديم العطاء فى حكمة واعتدال.

قامت صداقة قوية بين القديس يوحنا الأسقف و شماسته أولمبياس التى تخدم أخوة الرب الأصاغر فكان يكتب لها بلقبها الكنسى :"سيدتى الشماسة أولمبياس ، جزيلة الاحترام، المحبوبة جداً من الرب. من يوحنا الأسقف، سلام فى الرب…"

وعند نفى القديس يوحنا جاءت رسائله إليها تكشف لنا سر هذه الصداقة القوية التى قامت بينهما خلال الخدمة فى الرب، أنها تقوم على أسس ثلاث: محبته لها، وإعجابه بها، وثقته فيها.

1.محبته لها

فيكتب إليها قائلاً: "ولا يمكن أن يضايقنى إلا شئ واحد ، هو أن أكون غير متأكد تماماً أنك فى حالة طيبة."، "إذ لم استلم من سموك تألمت كثيراً."، "ابعثى إلى أخبار صحتك دائماً، فإنك تعرفين بالحقيقة إن تعزيتى تكون كبيرة جداً فى وحدتى عندما أعرف عنك أنك دائماً فى أحسن حال."

كان القلبان مرتبطين معاً فى انطلاقهما نحو الأبدية، لكنها كإنسانة تخشى على [أبديتها] فوق كل اعتبار يبدو أنها أرسلت تسأله لئلا يكون حزنها على فراقه ، واهتمامها بحالته الصحية والظروف المحيطة به ، فيها ضعف روحى.ربما سر هذا التساؤل الأقاويل الكثيرة التى أثارها بعض الأعداء ضدها بسبب التصاقها به، فأرسل إليها فى شئ من الإطالة يقول: "سيرونك شريكة فى الميراث السعيد، مكللة ، ومترنمة مع الملائكة، تملكين مع المسيح! أما هم فيصرخون كثيراُ ويولولون نادمين على كلام الطيش الذى أطلقوه ضدك. سيتضرعون إليك ويلجأون إلى تقواك ومحبتك …أنا أعرف أنك تتألمين ، لا بسبب هذا فحسب، بل لأنك انفصلت عن العدم الذى هو "أنا" وأنك تنتحبين بغير توقف ، قائلة للجميع:" لم نعد نسمع هذا الصوت، ولا ننعم بتعاليمه التى اعتدنا عليها…بماذا أجيب؟ فى إمكانك أن تعيشى مع كتبنا أثناء غيابنا. وسأبذل كل الجهد .. أن أرسل لك رسائل مطولة. أما إذا رغبت فى سماع صوتنا، فربما يحين الوقت لتحقيق ذلك وتريننا أيضاً بمعونة الله…حقاً إن النضال فى احتمال فرقة إنسان عزيز علينا ليس بالأمر الهين، بل يتطلب نفساً مملوءة شهامة ، وفهماً وحكمة! من يقول هذا ؟ إن كان الإنسان يعرف كيف يحب حباً عميقاً، إن وجد الإنسان الذى يعرف قوة الحب، مثل هذا يفهم ما أريد أن أقوله. ولكى لا نتأخر فى البحث عن أناس محبين بالحقيقة، إذ هم حقاً نادرون فإنني أسرع إلى بولس الطوباوى….بولس هذا العجيب ، الذى بذل لحمه ، الذى جال فى كل الأرض … وقطن فى الأرض كما فى السماء وارتفع مع الشاروبيم، واشترك فى التسبيح السماوى واحتمل الآلام…..بولس هذا عندما ابتعد عن نفس عزيزة عليه اضطرب وتكدر، حتى هرب من المدينة التى لم يجد فيها من كان يتوقع أن يراه.. لقد عرفت ترواس هذا الأمر…  [ولكن لما جئت إلى ترواس لأجل إنجيل المسيح و انفتح لي باب في الرب.  لم تكن لي راحة في روحي لاني لم أجد تيطس أخي لكن ودعتهم فخرجت إلى مكدونية…] (2كو 2:12) ما هذا يا بولس ؟ أنت الذى قيدت.. ودخلت السجن، وحملت آثار السياط…أنت الذى لم يحتقر إنساناً واحداً يحب أن يخلص، عندما بلغت ترواس ورأيت الأرض صالحة للزرع، ومستعدة للبذر، والصيد كثير وسهل، ألقيت من بين يديك هذا المكسب الهام الذى من أجله أتيت. نعم ، بالتأكيد لقد سقطت تحت سطوة الحزن، فإن غياب تيطس قد آلمنى كثيراً. غلبنى الحزن وسيطر علىَّ حتى وجدت نفسى مضطراً لهذا. لقد شعر بذلك بسبب حزنه. ولسنا نقول هذا توهماً من أنفسنا إنما هو يعلمنا ذلك إذ كشف سر خروجه بقوله: "لم تكن لى راحة فى روحى لأنى لم أجد تيطس أخى ، لكن ودعتهم فخرجت." هل نظرت صعوبة التجربة حينما نضطر أن نحتمل بهدوء الانفصال عن من نحبهم؟… هذا هو نضالك الحالى! ولكن كلما اشتدت الحرب زادت المكافأة، وتلألأت الأكاليل! ليكن هذا هو تعزيتك فى انتظارك!… الذين يحبون بعضهم بعضاً لا يكفيهم الارتباط بالنفس لتعزيتهم بل هم محتاجون إلى وجودهم معاً بالجسد. وإن لم يوهبوا ذلك ينقصهم الكثير من سعادتهم. ماذا تقول يا بولس ، أنت الإنسان الكبير والعظيم؟ أنت الذى صلب العالم لك وأنت للعالم، أنت الذى تركت كل ما هو جسدى… بلغت هذه الدرجة من العبودية فى الحب ….يجيب : نعم ، إنى لا أخجل من أن أعترف بذلك ، بل أفتخر ، إذ أحمل فى داخلى محبة عظيمة هى أم كل الفضائل. هذا ما أبحث عنه، .."أن نرى وجوهكم.." نعم يقول إذ فى الوجه تتجمع أعضاء الحس. فالنفس وحدها إذا ما ارتبطت بنفس أخرى لا تقدر أن تنطق بشئ ولا تسمع شيئاً . أما إذا تمتعت بالوجود الجسدى،  فإنى أتكلم بشئ وأسمع من أحبهم. لهذا أشتهى رؤية وجوههم. فباللسان ينقل الصوت الذى يعبر عن المشاعر الداخلية. والأذنان تستقبلان الكلمات، وبالعينين تترجم حركات النفس. بفضل هذا كله أستطيع أن أستمتع بالنفس المحبوبة بطريقة أعظم باللقاء الجسدى…"

2.أعجابه بها

لقد أعجب بها أشد الإعجاب كما شهدت بذلك رسائله لها، أما سر مديحه لها فهو ظروفها القاسية : فقد ذاقت الاضطهادات المتلاحقة بسببه والإهانات والشتائم، كما حملت جسداً امتلأ بالأمراض، أما إحساسها بالظلم الواقع ضد أبيها القديس المنفى فهذا ما جعلها فى حزن عظيم وأنين مستمر كاد أن يهلكها. فشجعا ذهبى الفم وقال مادحاً إياها … "لست أخطئ التفكير إن أحصيتك فى مصاف العذارى الحكيمات مع أنك أرملة..ليس من يقدر أن يمنعك عن المثول فى مصاف العذارى، لا بل فقتيهن كثيراً … كيف أصف صبرك فى أوجهه المختلفة، وأشكاله المتباينة، وصوره المتعددة؟ .. أى مقال يمكن أن يكفى للحديث عن هذا كله؟ فإنه يطول بنا الحديث عن آلامك منذ نعومة أظافرك حتى الآن: آلام من الأقارب وآلام من الغرباء ، آلام من الأعداء ، آلام من الذين ترتبطين بهم منذ ميلادك، وآلام من الحكام ، وآلام من المسئولين، وآلام من رجال الإكليروس … إن الحديث عن كل تجربة من هذه التجارب بالتفصيل يكفى لتسجيل تاريخ كامل.

إن أردنا ، فلننظر إلى هذه الفضيلة [الصبر] من جانب آخر، وهو احتمال آلام فرضتيها على نفسك ..لقد حاصرت جسدك الرقيق المشاعر، الذى تربى فى يسر من كل جانب، بآلام مختلفة الأشكال ، حتى لم يعد أكثر من جثة هامدة… أى لغة يمكن أن يعبر بها من يود أن يسجل حزمك وسيطرتك على نفسك أما المائدة والنوم؟… لقد دربتى معدتك على الإكتفاء فى المأكل والمشرب بكمية تكاد تكون كافية فقط لمجرد عدم موتك.. إذ أختار بعض التفاصيل الخاصة بمظهرك وملابسك، فإنك تظهرين بساطة بغير تأنق. .. إنى أعجب بهذه البساطة ، لا تحملين ما يلفت النظر، لا فى ثيابك، ولا فى حذاءك ولا فى مشيتك.. من أجل هذا ندعوكى [مطوبة] نعجب لابتعادك عن كل هذه الأمور (الزينة الخارجية). صرت مثلاً للنسك بغير تزين…"

3.ثقته فيها

كشفت رسائل القديس يوحنا لها عن مدى ثقته فيها أكثر من أفضل أصدقائه، فهو يتحدث معها فى أدق أموره الشخصية، كما يوكل إليها المهام المتنوعة لأنها قادرة على تحمل المسئولية

هذه لمحات بسيطة عن هذه النفس المجاهدة والمشتاقة إلى عريسها السماوى التى أحبت أعضاء جسد المسيح وكانت حنونة عليهم ، فاستحقت محبة الكثيرين ونعمت بالأمجاد السمائية

تعيد لها الكنيسة الغربية فى 25 يوليو الذى يوافق 18 أبيب.

ولربنا المجد الدائم. أمين.