18 أبيب: الشهيدة بلاندينا

عن كتاب: تاريخ الكنيسة ليوسابيوس القيصرى ترجمة القمص مرقس داود الفصل الخامس الباب الأول 

يقول يوسابيوس القيصرى فى كتابه تاريخ الكنيسة 5: 1

كانت بلاد الغال هى المملكة التى أعد لهم فيها مسرح المصارعات. وأهم بلادها ليون وفينا، اللتان يخترقهما نهر الرون، وهو نهر متسع يخترق كل تلك المنطقة. وقد أرسلت كنائس آسيا وفريجية وصفاً للشهود ودونت ما كان يجرى بينها فى الكلمات التالية. وهاك كلماتها:

"خدام المسيح المقيمون فى فينا وليون ببلاد الغال إلى الأخوة فى آسيا وفريجية، الذين يعتنقون نفس الإيمان ورجاء الفداء، سلام ونعمة ومجد من الله الآب ويسوع المسيح ربنا... إن شدة الضيق فى هذه البلاد، وهياج الوثنيين على القديسين، وآلام الشهود المباركين هذه لا نستطيع وصفها وبدقة، كما لا يمكن تدوينها. فالخصم هجم علينا بكل قوته، مقدماً إلينا عينة من نشاطه الذى لا يحد، الذى سيظهره عند هجومه علينا مستقبلاً، وقد بذل كل ما فى وسعه لاستخدام أعوانه ضد خدام الله. ولم يكتف بإبعادنا عن البيوت والحمامات والأسواق، بل حرم علينا الظهور فى أى مكان. ولكن نعمة الله حولت الصراع ضده، وخلصت الضعفاء، وجعلتهم كأعمدة ثابتة، قادرين بالصبر على تحمل كل غضب الشرير، واشتبكوا فى الحرب معه، متحملين كل صنوف العار والأذى وإذ استهانوا بآلامهم أسرعوا إلى المسيح، مظهرين حقاً: أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا...

على أن كل غضب الغوغاء والوالى والجند انصب فوق هامة سانكتوس، وهو شماس من فينا، وماتوروس، وهو متنصر حديثاً ولكنه مجاهد وشجاع، وأتالوس وهو من أهالى برغامس حيث كان بصفة مستمرة عموداً حياً وأساساً متيناً، وبلاندينا التى أظهر المسيح فيها أن ما يبدو فى نظر البشر حقيراً ودنيئاً ووضيعاً هو فى نظر الله مجيد بسبب المحبة التى نكنها لـه التى تظهر فى قوة الافتخار بالمظاهر. لأننا كلنا كنا مرتعبين، وكانت سيدتها الأرضية ـ وهى نفسها كانت ضمن الشهود ـ خائفة لئلا يعوقها ضعف جسدها عن الاعتراف بجسارة، امتلأت بلاندينا قوة لدرجة أنها صمدت أمام معذبيها الذين كانوا يتناوبون تعذيبها من الصباح حتى المساء بكل أنواع التعذيب، حتى اضطرتهم إلى الاعتراف بأنهم قد غلبوا على أمرهم ولم يستطيعوا أن يفعلوا لها شيئاً أكثر. وذهلوا من قوة احتمالها إذ كان كل جسدها قد تهرأ، واعترفوا بأنه كان يكفى نوع واحد من هذه الآلام لإزهاق الروح، فكم بالأولى كل هذه الآلام المتنوعة العنيفة. على أن المرأة المباركة جددت قوتها فى اعترافها كمصارعة صنديدة، وقد وجدت تعزية وانتعاشاً وتخفيفاً لآلامها فى ان تصرخ: أنا مسيحية ونحن لم نفعل شراً...

أُخذ إلى المسرح ماتوروس وسانكتوس وبلادينا وأتالوس، لكى يعرضوا للوحوش الضارية، ولكى يقدم للشعب الوثنى منظر من مناظر القسوة، وحدد لشعبنا يوم خاص للصراع مع الوحوش. جاز كل من ماتوروس وسانكتوس مرة اخرى كل أنواع العذاب فى المسرح، كأنهما لم يكابدا شيئاً من الآلام من قبل، أو بالأحرى كأنهما الآن، وقد انتصرا على عدوهما فى عدة مواقع، يجاهدان من أجل الإكليل نفسه، وتحملا ثانية القصاص المعتاد وهو المرور بين صفين من الجند فيضربهما كل منهما بدوره، ثم قسوة الوحوش المفترسة، وكل ما طلبه الشعب الثائر أو أرادوه، وأخيراً الكرسى الحديدى الذى شوى جسداهما.

أما بلاندينا فقد عُلقت على خشبة وعرضت لابتلاع الوحوش المفترسة التى تهجم عليها. ولأنها ظهرت كأنها معلقة على صليب، وبسبب صلواتها الحارة، فقد ألهبت المجاهدين بنار الغيرة، لأنهم نظروا إليها فى جهادها، ونظروا بأعينهم الخارجية ذاك الذى صلب لأجلهم، فى هيئة أختهم، وذلك لإقناع المؤمنين باسمه ان كل من يتألم لأجل مجد المسيح تكون لـه على الدوام شركة مع الإله الحى. ولأنه لم يمسها وقتئذ أى واحد من الوحوش المفترسة فقد أُنزلت عن الخشبة وأودعت السجن ثانية. وهكذا حفظت لصراع آخر، حتى إذا ما انتصرت فى الجهاد دفعات أخرى جعلت قصاص الحية الملتوية بلا شفاء. ومع انها كانت صغيرة السن، ضعيفة ومحتقرة، إلا أنها إذ لبست المسيح الغالب المقتدر، استطاعت أن تثير حمية الأخوة، ونالت بجهادها الإكليل غير الفاسد بعد أن غلبت الخصم مراراً عديدة.

بعد كل هذا أُحضرت بلادينا، فى آخر يوم من أيام الصراع العنيف، مع بونتيكوس وهو صبى يبلغ عمره الخامسة عشر سنة. وقد كان يؤتى بهما كل يوم ليشهدا آلام الآخرين، ويضغط عليهما ليحلفا بالأوثان. ولكن لأنهما ظلا ثابتين محتقرين إياهما، اشتد هياج الجمهور حتى أنهم لم يشفقوا على حداثة سن الصبى، ولم يراعوا رقة جنس المرأة، لذلك عرضوهما لأقسى أنواع العذاب، وطلبوا منهما مراراً أن يحلفا، ولكنهم فشلوا. لأن بونتيكوس كانت تشجعه أخته حتى أن الوثنيين كانوا يرونها تثبته وتقويه، وبعد أن تحمل التعذيب بكل ثبات أسلم الروح.

أما المغبوطة بلادينا فإنها أخيراً، إذ شجعت أبناءها كأم نبيلة، وأرسلتهم قبلها ظافرين منتصرين إلى الملك السماوى، تحملت هى نفسها كل صراع، وأسرعت للحاق بهم، فرحة ومغتبطة برحيلها، كأنها قد دُعيت إلى وليمة عرس، لا إلى الطرح للوحوش المفترسة.

وبعد الجلد، وبعد الوحوش المفترسة، وبعد الشى بالنار على الكرسى الحديدى، وضعت أخيراً فى شبكة وطرحت أمام ثور، وهذا قذف بها هنا وهناك، ولكنها لم تشعر بشئ مما كان يحدث لها بسبب رجاءها، وتمسكها التام الذى أؤتمنت عليه، وشركتها مع المسيح، وأخيراً فاضت روحها. وقد اعترف الوثنيون أنفسهم أنه لم توجد بينهم إمرأة تحملت مثل هذه الآلام المروعة".

 

بركة صلواتها تكون معنا إلى النفس الأخير آمين.

 

2 يقصد بكلمة "الشهود" هنا جميع الذين تكبدوا المحن والآلام أثناء الاضطهاد سواء استشهدوا أو لم يستشهدوا

3 أنظر (أش 27: 1) في ذلك اليوم يعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم الشديد لوياثان الحية الهاربة لوياثان الحية المتحوية و يقتل التنين الذي في البحر