12 أبيب: حياة القديسة ماكرينا 

اسم العذراء التى نتحدث عنها هو ماكرينا. وقد دعاها والداها بهذا الاسم لتذكار ماكرينا والدة أبى، الشخصية الجديرة بالاعتبار للعائلة قبلاً، حيث اعترفت بالسيد المسيح فى وقت الاضطهاد، وهذا كان اسمها الرسمى الذى استخدمه أقاربها.

ولكنها أعطيت أسم آخر سرى مرتبط برؤيا ظهرت قبل مجيئها للنور، ففى أثناء الحمل بها رأت أمها كأنها تحمل على يديها طفل رضيع، ووقف أمامها إنسان عظيم ونادى الطفل الرضيع باسم "تكلا"واستحضرها كشاهد ثلاث مرات، وبعد ذلك اختفى عن نظرها وأعطاها راحة من ألم الولادة. عندئذ استيقظت من النوم ورأت أن الحلم قد تحقق، لذا كان "تكلا" هو اسمها الغير معلن. ولكن يبدو لى أن الشخص الذى ظهر لم يكن يقصد تسمية الطفلة ولكن ليبلغ أنها يجب أن تختار حياة مماثلة لمن تسمت بإسمها.

ورغم أن الطفلة ماكرينا كان لها مربية إلا أنها نمت فى حضانة أمها، وحينما نمت كانت سريعة التعليم فيما يخص الأطفال من تعليم، واشتهت الأم أن تعلم الطفلة الوصايا التى لا تخص المنهج العالمى، و كان هذا من خلال تعلم الشعر، ولم تعلمها موضوعات الدراما العاطفية، أو الألفاظ الفكاهية الغير اللائقة، أو الأعمال المخجلة فى الشخصيات الخليعة فى الألياذة حتى لا تتدنس طبيعة الطفلة بالقصص المتدنسة عن بعض السيدات. لذا وجدت الأم أن يكون التعليم من خلال الأسفار المقدسة الموحى بها. وما كان مناسباً من هذه الأسفار للسنين الأولى للطفلة كان باختيار الأم للطفلة ماكرينا، وبخاصة حكمة سليمان وكل ما يقودها لحياة الحكمة، وتعلمت أيضاً المزامير مستخدمة المزامير كى تتخلل برنامج حياتها عندما تستيقظ أو تنهى واجبها اليومى أو تستريح أو تجلس لتأكل أو تقوم من على المائدة، أو تذهب لتنام أو تستيقظ للصلاة، ففى كل وقت كانت تحمل كتاب المزامير كرفيق صالح ومخلص.

وهكذا نمت ماكرينا تدريجياً، وأصبحت ماهرة فى غزل الصوف وانتاجه إلى أن وصلت إلى سن الثانية عشرة وتفتحت زهرة شبابها. وكان جمالها واضحاً ومعلناً. ولأن والدها كان رجلاً حكيماً قادراً على البت فى إقرار ما هو خير، اختار رجلاً معتدلاً من عائلة معروفة وكان قد إنتهى من الدراسة حديثاً وقرر إعطاؤه ابنته عندما تبلغ السن المناسب. وقدم الرجل عهداً عظيماً وأحضر لوالد الفتاة هديةوكانت له سمعة طيبة كخطيب متفاخراً بنبوغه فى الوصول إلى هدفه وهو الدفاع عن المظلومين.

ولكن لم يكتمل هذا العهد المتألق نظراً لاختطافه من الحياة وهو بعد فى ريعان شبابه، ومع علم الفتاة بقرار والدها ولكن عندما كسر موت الشاب ما قد خطط لها، فإنها قررت أن هذا الإرتباط (مع كونه مجرد خطبه) أنه زواج على أساس أن ما كان قد دبر قد تم فعلاً وقررت أن تبقى باقى حياتها بمفردها، وكان هذا قراراً ثابتاً رغم حداثة سنها.

وعندما كان والداها يتحدثان معها عن الزواج كانت تقول إن هذا الزواج فى غير مكانه لأنها اعتبرت نفسها قد ارتبطت بالفعل بالزيجة التى اختارها لها والدها ولا يصح أن يضغط عليها أحد لكى تنظر لآخر، وبما أن الزواج واحد بالطبيعة مثل الميلاد والوفاة، فإنها قررت أن الشاب الذى ارتبط بها بقرار والديها كأنه لم يمت ولكنه يحيا فى الرب بسبب رجاء القيامة وأنه مُطوب فى رحيله وليس جسداً ميتاً، وهى كعروس يجب أن تبقى على عهد مع زوجها الغائب. وتمسكت بقوة ووقفت ضد الاعتراضات على قرارها النبيل بعقد النية على ألا تنفصل عن والديها، لقد اعتنت الفتاة الصغيرة بالمرأة الكبيرة واهتمت الأم بابنتها من حيث الأمور الجسدية، وكانت ماكرينا تقوم بكل الخدمات المنزلية وتكملها، كانت والدتها لديها أربعة أولاد وخمس بنات ، وكانت تدفع ضرائب لثلاثة حكام لأن ممتلكاتها كانت مبعثرة فى مقاطعات كثيرة، ولقد كانت الأم مرتبكة بأعمال كثيرة (حيث كان الأب قد فارق الحياة) وفى كل هذه الأمور كانت ماكرينا تشارك أمها فى كل أمورها. وكانت حياة ماكرينا الخاصة لها التأثير فى قيادة الأم لنفس الهدف. وأنا أتكلم عن هذه الحكمة حيث قادتها شيئاً فشيئاً إلى الحياة البسيطة الغير مادية وذلك بعد أن قادت الأم أخوات ماكرينا إلى الحياة الفضلى.

كان الأخ الأكبر يتقن علم البلاغة ويمارسه لوقت طويل وقد برع فى ذلك مما جعل له سمعة طيبة فاقت كل حد، واعتبر نفسه أفضل من قادة المقاطعة، ولما سمعت ماكرينا بذلك أسرعت إلى قيادته إلى هدف الحكمة التى تنادى بترك الأمور الدنيوية فبدأ ينظر إلى ما هو أفضل، وقادته إلى حياة النسك والفقر والعمل بالأعمال اليدوية التى يقوم بها الإنسان بنفسه ، وبدأ فى هذا النمط من الحياة الذى يقود إلى الفضيلة، وعندئذ ذاع صيته فى كل مكان تحت الشمس.

وعندما لم يعد هناك أى أهمية أن تكمل أسرة ماكرينا حياتها بشكل دنيوي، عندئذ أقنعت ماكرينا والدتها أن تترك أسلوب حياتها التقليدى حيث الرفاهية والخدم وأن تضع نفسها فى نفس مستوى من يخدمونها ، وأن تجعل الخدم أخوة لها ومتساوون معها أكثر من كونهم عبيداً وخداماً.

الثانى من الأخوة ـ الذكور الأربعة ـ اسمه نيوكراتيوس وقد عاش واختار الحياة الرهبانية الفقيرة، وعاش فى بقعة مغطاة بغابة ومختبئة فى تجويف فى صخرة فى رأس جبل. واختار أن يخدم العجائز والصيد وبهاتين الطريقتين رسم تدبيراً لحياته متحكماً فى شباب رجولته بالعمل وتحمل احتياجات والدته، وفجأة حدثت التجربة المحزنة للأم، فقد اختطف الموت نيوكراتيوس فجأة من الحياة بدون توقع. وأصبحت الأم تحت وطأة الحزن المؤلم وكانت الصدمة عليها شديدة. وهنا ظهرت براعة ماكرينا للتغلب على الألم، فتمالكت نفسها وأصبحت حصناً لضعف أمها، فأقامتها من هوة الحزن، فكان ثبات ماكرينا وعدم استسلام روحها بمثابة الحصن للأم، فدربتها لكى تكون شجاعة الروح مثلها. ولقد تألمت نفس العذراء ـ ماكرينا ـ لأنها واجهت نفس التجربة لأن أخاها الذى اختطفه الموت كان عزيزاً عليها جداً، ولكنها لم تدع طبيعتها البشرية تتغلب عليها قط، وهى بذلك رفعت روح أمها المعنوية بأسلوبها المقنع وجعلتها فوق الأحداث.

ولقد قادت ماكرينا أمها فى طريق الحكمة ونقلتها إلى حياة غير دنيوية لتغيير كل ما كانت قد تعودت عليه، وذلك بعد أن انتهت الأم من مسئولية تربية الأطفال وتعليمهم وتنشئتهم فى الحياة. ولقد قادت ماكرينا أمها إلى مستواها فى البساطة، فأعدتها للاستقرار النفسى فى وسط جماعة العذارى (التى كانت ماكرينا تعيش وسطهم ) ولم يكن هناك أى فرق بين حياة أم ماكرينا وحياة بقية العذارى، التى كانت العفة هى رفاهيتهن، وإنكار الذات هو شهوة قلبهن، والفقر كان غناهن، كان اهتمامهن الوحيد هو حياة القداسة.

لقد كان لماكرينا أخ يساعدها كثيرا فى هذا الهدف الأسمى (حياة النسك) وكان اسمه بطرس، وهو كان أصغرنا، وبعد ولادته مات والدنا. ولقد أخذته أخته الكبرى ماكرينا بعد فطامه ودربته بنفسها وقادته إلى كل التعليم الصالح ، مدربة إياه منذ نعومة أظافره على التعاليم المقدسة حتى لا تعطيه فرصة تتعلق فيها نفسه بالأباطيل. ولقد أصبحت ماكرينا كل شئ بالنسبة لبطرس فهى الأم والأب والمعلمة والمربية والمشيرة لكل خير. وكان دائماً ينظر إلى أخته كمصدر كل خير، وأصبح حينئذ رئيساً لكل أفراد الأسرة مع أخته وأمه فى كل أوجه نشاطهم الملائكى (حياة النسك).

وعندما حدثت المجاعة البشعة، وافتقر غالبية الناس فى المقاطعة، وبسبب شهرة وغنى ورفاهية هذه الأسرة، وفدت الجموع على المكان ؛ فأصبح بطرس يقوم بتدبير الغذاء خلال فترة المجاعة لكل المحتاجين.

وفى هذا الوقت وبعد أن بلغت أمنا شيخوخة صالحة، وصلت إلى الرب وتركت الحياة وهى بين أثنين من أبنائها بطرس و ماكرينا. وقد أعطت البركة قبل وفاتها لكل أبناءها حتى الغائبين حتى لا يحرم أحد من البركة. أما بطرس و ماكرينا فكانا يجاهدان باستمرار فى حياتهما الخاصة ونجاحهما الدائم.

فى هذا الوقت تمت سيامة باسيليوس أسقفاً على قيصرية ، فقاد بطرس إلى التكريس المقدس فى الكهنوت وكرسه معه للخدمة الروحية. وبعد ثمانية سنوات بلغت شهرة باسيليوس أقصى العالم وترك العالم البشرى ورجع إلى الله. ولقد تركت وفاته حزناً لبلدان العالم أجمع ، وعندما سمعت ماكرينا نبأ وفاته القاسى اضطربت اضطراباً عظيماً لهذه الخسارة، ولقد جاهدت ـ أحزانهاـ مثل مصارع صامد لا يتفوق عليه أى هجوم من البلايا.

بعد تسعة أشهر من تجربة انتقال القديس باسيليوس، كان هناك مجمع للآباء فى مدينة أنطاكية، اشتركت فيه بنفسى، وعندما بدأ كل منا فى الانصراف والرجوع إلى إيبارشيته قبل نهاية السنة فكرت فى زيارة أختى ماكرينا، لأنه كان قد انقضى وقت طويل دون أن نتقابل مع بعضنا البعض، وعندما حسبت الوقت الذى منعنى من مقابلتها بسبب اضطرابات وجدته ثمانية أعوام. وعندما كدت أنتهى من الرحلة ولم يبق سوى يوم واحد، رأيت رؤيا أيقظتني … إذ رأيت إنني أحمل ذخائر الشهداء بيدى وإذ بنور يخرج من هذه الأجساد، وهذا النور كان مثل انعكاس نور الشمس أمام مرآة صافية، حتى إن العين تنبهر من لمعانها، ولقد رأيت هذه الرؤيا فى نفس الليلة ثلاث مرات، ولم أفسر معناها بوضوح، ولكن رأيت أحزان نفسى وكنت أنظر ما يحدث ليوضح لى معنى الرؤيا، وعندما قربت من المكان الذى تقيم فيه السيدة ( ماكرينا ) حيث الحياة الروحية والملائكية، وعندما سألت عن الرئيسة ( ماكرينا ) وعندما قيل لى أنها مريضة زاد اشتياقى عن كل مرة لأكمل الرحلة، إذ داخلنى خوف معين ، وتشاؤم من المستقبل، ولقد خرجت جماعة من عذارى المنسك لتنتظرنا فى مدخل الكنيسة، وعندما انتهت الصلاة والبركة والعذارى قبلن البركة بخفض رؤوسهن تركونا ورجعوا إلى أماكنهم، وعندما لم تنتظر معى ولا واحدة عرفت أن رئيستهن بحق ليست معهن.

ثم قادنى خادم إلى المنزل حيث كانت السيدة الرئيسة وفتح لى الباب ودخلت حيث كانت ماكرينا ترقد وهى مريضة جداً. وعندما رأتنى واقفاً بقرب الباب رفعت نفسها على كوعيها بعد أن أنهكت الحمى كل قواها ومنعتها القدرة أن تقترب إلىَّ فثبتت يداها على الأرض ممتدة إلى أقصى ما تستطيع حانية رأسها محيية ومكرمة إياى، فجريت ورفعت رأسها المنحنية وأرجعتها لوضعها المعتاد، لكنها رفعت يداها للرب قائلة: أشكرك يا الله لأنك منحتنى هذه الهبة ولم تحرمنى طلبى لأنك دفعت خادمك لزيارة عمل يديك، وحتى لا تقلقنى حاولت أن تخفى ألمها وتأوهها وصعوبة تنفسها بطريقة ما.

وخلال كل هذا أعدت ماكرينا نفسها للأمور الأكثر إشراقاً، وانتقت المواضيع المناسبة للحوار وعندما تحدثنا تذكرنا باسيليوس العظيم، فاغتمت نفسى وسقط وجهى وانسكبت دموعى، أما هى فكانت بعيدة جداً عن كسرة النفس أو الحزن، حتى أنها جعلت ذكر هذا القديس نقطة بداية تجاه الحكمة العليا، وأخذت تسرد الأقوال التى تشرح فيها مكانة الإنسان خلال المبادئ الطبيعية، وقمة التدبير الإلهى المخبأ فى التجارب، وتحدثت عن أمور تخص مستقبل الحياة، وكأنها تتحدث بوحى من الروح القدس حتى إننى شعرت أن نفسى قد ارتفعت من المستوى البشرى بتأثير أقوالها وإرشادها، وقد سمت بحديثها عن النفس ، وشرحت سبب الحياة فى الجسد ، ولماذا الإنسان الكائن، وكيف هو بشرى و التالى يأتى إلى الموت، وما هو العتق من الموت والعودة للحياة مرة أخرى.

وعندما انتهى الحوار قالت : الآن يا أخى لقد حان وقت راحة جسدك لفترة، لأن الرحلة كانت مرهقة جداً. بالنسبة لى كان مجرد رؤيتها وسماع كلماتها النبيلة مصدراً عظيماً للراحة، ولكن بما أن هذا كان رغبتها ومسرتها، وحتى أبدو مطيعاً لها فى كل شئ ، وجت مكاناً مريحاً ولطيفاً فى أحد الحدائق المجاورة وهناك استرخيت تحت ظل تكعيبة عنب ولكن لم أستطع الراحة لأن نفسى قد اكتنفها نوع من الأحزان، حيث أن الرؤيا التى رأيتها بدأت تتضح أمامى.

ثم أرسلت ماكرينا رسالة توصينا فيها أن نبتهج ونكون أكثر امتلاءَ بالرجاء بخصوص حالتها لأنها بدأت تشعر بتحسن، وهى لم تقل هذا لكى تخدعنا ولكنه كان الحقيقة فعلاً، لأنه بمجرد أن يصل المتسابق إلى النهاية ويقترب من الحكام، يقف وينظر تاج الغلبة وكأنه أخذ الجائزة. إن فرح المتسابق الداخلى وإعلان انتصاره وبهجة الناظرين هو الذى جعل ماكرينا تقودنا لرجاء الخير الأعظم لنفسها لأنها كانت ناظرة إلى جائزة سمو دعوتها وكانت كلماتها هى صدى لكلمات الرسول"  قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الأيمان و أخيرا قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل و ليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضا"  ( 2 تى 4 : 7 – 8 ).

لقد توطد تأكدى بهذه الرسالة وبدأنا نبتهج بسبب البركات السعيدة والمتنوعة الموضوعة أمامنا. وبما أن السيدة العظيمة كانت متفكرة جداً بمثل هذه الأمور، وعندما رجعنا إليها لم تتركنا نمضى الوقت ويحضروننا بعد ذلك، ولقد سردت علينا قصة حياتها منذ الطفولة وكأنها تستودعنا إياها فى رسالة. وقد ركزت فى حديثها على شكر الرب وقد أكدت فى حديثها عن حياة أبائنا، ليس عن نجاحهم ورفاهيتهم ولكن تعاظمهم فى حياة القداسة، وحينما تحدثت معها عن الشدائد التى أصابتنى، حين نفانى الإمبراطور فالنس بسبب الإيمان ، ثم الإلتباسات والتشويش فى الكنائس التى قادتنى للدفاع والنزاع، قالت لى ماكرينا:ألا تكف عن إنكار خيرات الله عليك؟ ألا تتوقف عن عدم شكرك لله؟ قارن بين نصيبك ونصيب والديك! إننا حقيقة مولودون من أسرة كريمة حيث كان لأبينا فى الماضى مركز مرموق بسبب عمله واشتهرت سمعته فى المحاكم الأهلية. بينما أنت معروف فى المدن بين الناس والقبائل جميعاً، والكنائس ترسل لك من بعيد وتستدعيك كنصير ومدافع (عن الأيمان) ألا ترى أى كرامة لك فى ذلك؟ ألا تستنتج من أين لك كل هذه الكرامة؟ إن صلوات والديك هى التى رفعتك للأعالى، لأن مالديك ضئيل أو لا شئ لتصل إلى كل هذا (المجد).

ولما أكملت ماكرينا حديثها، تمنيت أن يطول النهار حتى أتمكن من التمتع بحلاوة كلماتها، ولكن صوت الخورس نادانا لصلوات الغروب، وأرسلتنى إلى الكنيسة، وعادت (ماكرينا) الرئيسة للصلاة وتكريس الليل للصلاة، وعندما لاح الفجر كان واضحاً لى أنه اليوم الأخير للرئيسة فى حياة الجسد، إذ أن الحمى كانت قد استنفذت كل قواها الطبيعية، ولما رأت اهتمامنا بمرضها، حاولت أن تخفف عنا برفع أفكارنا المتشائمة بمخاطبتها لنا بعذوبة كلامها، لترفع عنا آلام نفوسنا مع آخر أضعف أنفاسها المتعبة، ولقد كانت نفسى فى اضطراب بسبب ما تواجهه ماكرينا. ولقد كنت مكتئباً بسبب توقعى عدم سماع هذا الصوت مرة أخرى، ولكن الحقيقة أننى لم أتقبل فكرة تركها لهذه الحياة الفانية، ولكن نفسى تهللت بألفاظها التى فكرت فيها بأنها سمت على الطبيعة العادية. لأنها لم تشعر بأى خوف تجاه الرحيل من الحياة ثم تحدثت بذكاء عما يجول بخاطرنا نحوها بخصوص هذه الحياة التى عاشتها من أولها حتى النفس الأخير، وقد ظهرت كأنها لا تنتمى بعد لعالم البشر. ولقد كانت كأنها ملاك اتخذ هيئة إنسان بسبب بعض الأحداث. إنها كملاك ليس له صلة بالحياة الجسدية التى نحياها نحن، ولذلك كان لابد لها أن ترجع لأن الجسد ليس جزءاً من خبرتها. ولهذا السبب كانت تبدو لى أنها توضح للموجودين الحب الطاهر المعزى للعريس الغير منظور الذى يحيا سراً فى أعماق نفسها. وبدت أنها تشتاق فى قلبها إليه، حتى أنها حين تتحرر من قيود الجسد بسرعة سوف تكون معه، حقاً كان ثباتها نحو المحبوب أكيداً ولم يتحول انتباهها قط نحو مباهج الحياة. 

وبعد أن انتهى اليوم تقريباً، وتقاربت الشمس من الغروب. ولكن لم تضعف عزيمتها لاقترابها بالتأكيد من النهاية ورؤيتها جمال العريس بأكثر وضوح، مما جعلها تقترب بشدة إلى الواحد الذى طلبته، ولم تعد تتكلم بعد معنا نحن الحاضرون ولكنها كانت تتحدث مع ذاك الذى كانت تنظر إليه بعينين ثابتتين، واتجهت بوجهها نحو الشرق وتوقفت فى حديثها معنا، وبدأت تصلى متحدثة مع الرب فى الصلاة، وتتضرع إليه بيديها وتتكلم معه بصوت منخفض رقيق، حتى إننا بصعوبة نسمع ما تقوله. وهذه كانت صلاتها التى وصلت إلى الرب واستمع لها حين قالت:"آه يارب لقد حررتنا من خوف الموتوجعلت نهاية الحياة هنا بداية الحياة الحقيقية لنا . إنك تعطى راحة لأجسادنا فى الموت ثم توقظنا مرة أخرى عند البوق الأخير. التراب الذى كونتنا منه بيديك ترجعه إلى تراب الأرض للحفظ، وأنت الذى تركت التراب ، فيرجع إلى أصله سوف تناديه بعد أن تغير تشكيله بعدم الفساد والمجد من موادنا الفانية الحقيرة. أنت افتديتنا من اللعنةومن الخطية بأخذهما كلاهما على عاتقك، أنت سحقت رأس الحيةالتى اغتصبتنا بأنيابها فى هوة عدم الطاعة محطماً أبواب الجحيموغلبت مَن مَلك على الموتوفتحت لنا طريقاً للحياة الأبدية، لأنك أعطيت للذين يخافونك علامة الصليب المقدس ليحطموا العدو والخلاص لحياتنا.أه يا الله الأزلى الذى وجهت إليه نفسى من رحم أمى الذى أحبته نفسى بكل قوة ومن كرست له نفسى وجسدى منذ طفولتى حتى الآن، ولقد حضر لى ملاك لامع ليقودنى لموضع الإنتعاش حيث ماء الراحةبقرب قلب الآب القدوسأنت الذى كسرت لهيب السيف المتقلبوبرحمتك أعطيت الفردوس مرة أخرى للص الذى صلب معكأذكرنى أيضاً فى ملكوتك لأننى أيضاً صلبت بصليب جسدى خلال مخافتك وأحكامك، لا تجعل الحية الرهيبة تفصلنى عن مختاريكلا تجعل القتال يقف فى طريقى، أو تظهر خطاياى أمام عينيك، وإذ كنت قد سقطت وأخطأت فى العالم بالفعل أو بالفكر بسبب ضعف طبيعتنا فأنت الذى لك القوة على الأرض لمحو خطايانافأغفر لى حتى أنتعش وأوجد أمامك بلا خطيةعندما أخلع جسدى وتكون نفسى نقية بلا خطية، وتستلم نفسى بيديك كذبيحة أمامك."

وعندما قالت هذا رشمت علامة الصليب على عينيها وفمها وشيئاً فشيئاً جففت الحمى لسانها ولم تستطع الكلام بوضوح،ولم يعد صوتها يخرج ويسمع، ولكن من تحركات يديها وشفتيها كنا نعرف أنها تكمل الصلاة.وعندما حل المساء جاءت ـ العذارى ـ بالمصابيح فحولت ماكرينا عينيها نحو ضياء النور، وأوضحت أنها تشتاق أن تقول صلاة نصف الليل بشفتيها رغم أن صوتها قد خانها، لكن بقلبها وبحركات يديها أكملت رغبتها وحركت شفتيها استجابة للدافع الذى بداخلها، وعندما أكملت الشكر وأشارت أن الصلاة قد انتهت بعلامة الصليب ، أخذت نفساً عميقاً ومع الصلاة جاءت نهاية حياتها.وعندئذ تذكرت وصيتها لى عندما حضرت قائلة بأنها تريد أن تغلق عينيها بيدىَّ، وأننى أقوم ببقية العناية التقليدية بالجسد ، فوضعت يدى على وجهها المقدس حتى لا أتجاهل طلبها، ولكن الحقيقة أن عينيها لم تكن تحتاج لعناية لأنها كانت تبدو كأنها نائمة وأجفانها مغلقة، وشفتيها كانتا فى وضع طبيعى ويداها وضعتا على صدرها بشكل طبيعى، فكان كل وضع جسدها متناسقاً ولا يحتاج إلى يد تعدل فيه.

ولقد انزعجت لسببين، أولاً: لسبب ما رأيت وثانياً: بسبب سماعى نحيب العذارى، فقد كررن بصوت عالِ إن مصباح حياتنا قد انطفأ، والنور الذى كان يوجه طريق نفوسنا قد أخذ بعيداً، لقد دمر أمان حياتنا، وقد زال ختم عدم فسادنا، قد هدم رباط اتحادنا، وقد حطم سند الضعيف، فقد أخذت منا راعية الضعيفات لتكون معك. إن ليالينا التى كانت مضيئة مثل النهار بالحياة النقية قد تحولت الآن إلى ظلام، وعندما استرددت نفسى من أعماق أحزانها، أخذت أحملق بإمعان فى رأسها المقدس، وكأنها قد أنتهرتنى لسلوك العذارى المضطرب، فقلت لهن: أنظرن لها، وكنت أصيح فى العذارى بصوت عالٍ فخضعن وتعقلن للأوامر التى أعطيتها لهن فأطعن النظام والتوجيهات الإلهية. إن نفسها المقدسة قد قبلت لبرهة دموعنا، وكأنها تأمرنا أن نبكى فى الصلاة وبدأن طاعة الأمر بتغيير رثاء فجيعتنا إلى ترنيمة مزمور، وهذا ما طلبته منهن بصوت عالٍ طارداً للضجيج المنبعث من النحيب.

وعندما جاء وقت تغطية الجسد بالتراب، وبحسب وصية ماكرينا العظيمة التزمت أن أقوم أنا بهذا بنفسى.

وعندما قررت ذلك وبدأت المسير، ذهبت أنا لناحية النعش وطلبت من الأب الأسقف أن يقف فى الناحية الأخرى، واثنان آخران مميزان فى رتبة الكهنوت يقفان فى الناحية المقابلة، والجمع كان يحمل الشموع كنوع من الخدمة مع ترتيل المزامير من البداية بإيقاع موزون كتسبحة الثلاثة فتية. ودفنت بجوار أمنا وذلك تنفيذاً للطلب المقدس المشترك بينهما، لأن هذا هو ما طلباه من الرب خلال حياتهما أن يبقى جسداهما معاً بعد الوفاة، ولا ينفصلان فى مماتهما حسب الوصية التى كانت لهما وقت حياتهما.وعندما تم كل شئ وكان من الضرورى العودة، جثوت تجاه القبر وقبلت التراب، وتابعت خطواتى حزيناً باكياً متفكراً فى الخير الذى نُزع من حياتى. 

وكانت نياحتها فى 19 يوليو الذى يوافق فى التقويم القبطى  12 أبيب

بركة صلواتها فلتكن معنا. أمين.

عن كتاب حياة القديسة ماكرينا للقديس اغريغوريوس أسقف نيصص . أعداد وتقديم القمص أشعياء ميخائيل

The Life Of St. Macrina By Gregory Of Nyssa - The Fathers of the Church - Vol.58 P.161- 191

كانت هناك العذراء تكلا المشهورة جداً.

لتأكيد الارتباط كما كان العرف متبعاً

بعد وفاة أحد الأولاد.

  و يعتق اولئك الذين خوفا من الموت كانوا جميعا كل حياتهم تحت العبودية  (العبرانيين  2 : 15)

  في لحظة في طرفة عين عند البوق الاخير فانه سيبوق فيقام الاموات عديمي فساد و نحن نتغير  (كورنثوس الأولى  15 : 52)

  المسيح افتدانا من لعنة الناموس اذ صار لعنة لاجلنا لانه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة  (غلاطية  3 : 13)

انت شققت البحر بقوتك كسرت رؤوس التنانين على المياه  (مزمور  74 : 13)

  و انا اقول لك ايضا انت بطرس و على هذه الصخرة ابني كنيستي و ابواب الجحيم لن تقوى عليها  (متى  16 : 18)

  فاذ قد تشارك الاولاد في اللحم و الدم اشترك هو ايضا كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت اي ابليس  (العبرانيين  2 : 14)

  اخبرني يا من تحبه نفسي اين ترعى اين تربض عند الظهيرة لماذا انا اكون كمقنعة عند قطعان اصحابك (نش 1 : 7)

  يرد نفسي يهديني الى سبل البر من اجل اسمه  (مزمور  23 : 3)

  فمات المسكين و حملته الملائكة الى حضن ابراهيم و مات الغني ايضا و دفن  (لوقا  16 : 22)

  فطرد الانسان و اقام شرقي جنة عدن الكروبيم و لهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة  (التكوين  3 : 24)

  ثم قال ليسوع اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك  (لوقا  23 : 42)

  و فوق هذا كله بيننا و بينكم هوة عظيمة قد اثبتت حتى ان الذين يريدون العبور من ههنا اليكم لا يقدرون و لا الذين من هناك يجتازون الينا  (لوقا  16 : 26)

  و لكن لكي تعلموا ان لابن الانسان سلطانا على الارض ان يغفر الخطايا قال للمفلوج لك اقول قم و احمل فراشك و اذهب الى بيتك  (لوقا  5 : 24)