29 بؤونة: شيشوى الكبير

عن كتاب: الرهبنة القبطية الأب متى المسكين 

القديس شيشوى الكبير هو من شيهيت وعاش فى منطقة بترا (شمال البراموس، المنطقة التى عاش فيها سابقاً القديسين مكسيموس ودوماديوس والأنبا موسى الأسود) ثم انتقل من شيهيت فى حياة القديس مقاريوس سنة 356م إلى جبل أنطونيوس، وعاش هناك فى مغارته.

القديس شيشوى يُذكر دائماً فى أقوال الآباء مع أبا أور، وثيئوذور (تلميذ آمون الكبير) ومعروف أن أبا أور من أوائل تلاميذ القديس آمون الكبير، الذى رافقه فى بدء حياته فى نتريا سنة 315م، فهو من أقدم آباء نتريا. ونستدل من القصة التى رواها شيشوى عن نفسه، لما سُئل لماذا ترك شيهيت والحياة مع القديس مقاريوس وجاء إلى الصعيد (جبل أنطونيوس فى بسبير)، أجاب: "لما ابتدأت شيهيت تمتلئ بالجموع وسمعت أن أنبا أنطونيوس رقد، وأتيت إلى هذا الجبل، ولما وجدته هادئاً مكثت هنا قليلاً، وهوذا لى الآن هنا سبعين سنة"، وكان هذا الرحيل سنة 356م. نستدل من ذلك على أن شيشوى التجأ إلى شيهيت فى زمن مبكر جداً عن سنة 356م.، وعندما كان عدد  المتوحدين قليلاً والحياة هناك هادئة، حيث لم يكن عددهم يزيد على سبعة!! هذا يتحقق لنا من قصة أخرى ندرك منها أنه كان مرافقاً لأنبا مقار منذ الصغر، متتلمذاً على يديه، أيام كانوا ينزلون إلى الريف ويعملون كأُجراء فى الحقول، وذلك فى بدء حياتهم فى شيهيت: "لما كنت فى شيهيت مع مقاريوس ذهبنا معه ـ للريف ـ لنحصد القمح وكنا سبعة"، وهذا يشير إلى زمن مبكر جداً ـ ربما منذ سنة 340م.

كل هذا يشير إلى أن رهبنة شيشوى بدأت مبكرة جداً ومعاصرة للآباء الأوائل، والمعروف أنه التجأ إلى شيهيت سنة 340م. وهو ابن عشرين سنة، وبقى فى شيهيت حتى سنة 356م.، حيث غادرها وتغرب فى جبل أنطونيوس مدة أكثر من سبعين سنة، أى حتى سنة 426م. أو يزيد، حيث رجع إلى شيهيت ودخل المجمع، وتنيح بين أخوته. وكان آمون الذى من شيهيت تلميذ أنبا بامو حاضراً نياحته. وتُقدر سنو حياته المباركة بأنها ليست أقل من مائة وعشر سنين.

ويحتفظ لنا كتاب أقوال ألاباء بمشهد بديع لأواخر أيام شيشوى، حينما بطلت عافيته وأدخلوه المجمع عنوة سنة 430م. تقريباً ليعيش تحت رعاية الأخوة: [مرة جاء أنبا آمون ليزور أنبا شيشوى، وكان موسم الشتاء، ولاحظ أن شيشوى كان متأثراً جداً وحزيناً، بسبب تركه الوحدة فى الصحراء، فقال لـه: "لماذا أنت حزين هكذا يا أبانا؟ ماذا كنت تستطيع أن تعمله فى البرية وحدك فى شيخوختك وأنت هكذا كبير السن؟". فإذا بشيشوى ينظر إليه نظرة شديدة وصعبة ثم أجابه: "ماهذا الذى تقوله يا آمون؟ أليس مجرد الإحساس بالحرية فى الصحراء أفضل لنا من كل شئ؟"].

وشيشوى شخصية ظلت مهيبة جداً بين الآباء، فى حياته وبعد نياحته. وخير وصف لشخصية شيشوى جاء على لسان بيمن الذى كان معاصراً لـه: [كان أحد الشيوخ جالساً مع أبا بيمن وكان يستعرضان سير الآباء وأوصافهم، فلما جاءت سيرة شيشوى، قال أنبا بيمن: "أترك شيشوى وحده فقد فاق كل الحدود وتجاوز كل السير"].

ومحبة الوحدة كانت ملتصقة بجلده وعظمه، حتى أنه كان لا يحتمل انتهاء الكنيسة حتى يكون أول الذين يخرجون كالسهم إلى قلايته. أما البقاء فى القلاية فكان لذته العظمى، وكان يركز عليها فى كل تعاليمه: "إنه جيد للراهب أن يبقى فى قلايته. فإذا احتمل البقاء فيها، بصبر، فهو سينال بركة من كل صنف".

وظل شيشوى طيلة حياته نافراً من العالم والسكنى الآهلة بالناس، حتى أن تلميذه أبرآم توسل إليه مرة أن يسكنا بالقرب من الريف، بسبب تقدم سنه جداً. فرد عليه: "أرنى مكاناً لا توجد فيه إمرأة لنسكن فيه!" فرد عليه تلميذه: "وأى مكان لا توجد فيه إمرأة إلا هذه الصحراء (شيهيت). فقال شيشوى: "إذن فإلى الصحراء يا أبرآم!".

ولم يمل شيشوى من الوحدة طول حياته أبداً، لأنه كان يستمتع بحياة التوبة، وكل يوم كان يطلبها مجدداً حتى آخر لحظة من حياته: "يُحكى أنه لما دنت وفاة أنبا شيشوى وقد رقد مريضاً، والشيوخ حوله جالسون، أن سمعوه يتكلم كأنه مع أُناس غير منظورين، فسألوه: ماذا ترى يا أبانا؟ فقال: إنى أرى جماعة قادمة لتأخذنى، وأنا أتوسل إليهم أن يمهلونى قليلاً حتى أتوب! فقال له أحد الشيوخ: وهل لديك قوة تتوب بها؟ قال: وإن كان ليس فىَّ قوة، فأنا أتنهد وأبكى على نفسى، وهذا يكفى". وفى البستان العربى يكمل هذا القول هكذا: "فقال لـه الشيوخ: إن توبتك قد كملت يا أبانا. فقال لهم: "صدقونى إنى لست أعرف من ذاتى إن كنت قد بدأت إلى الآن!". ولما قال هذا أشرق وجهه كالشمس، ففزع الذين كانوا حوله، وسمعوه يقول: الرب يقول أئتونى بتائب البرية. ولوقته أسلم الروح، فامتلأت القلاية من رائحة زكية".

ولم يكن شيشوى فى القلاية هذه السنين الطويلة عبثاً، بل كان كل وقته مصلياً بالروح، وعقله مرتبط بالصلاة: "بينما كان شيشوى جالساً مع أخ جاء ليزوره، أخذ يتأوه ويتنهد دون أن يلتفت إلى وجود أحد معه، لأن عقله أُخذ منه فى تأمل إنجيل الساعة السادسة، فلما انتبه أخذ يعتذر للأخ قائلاً: سامحنى يا أخى أنى تأوهت أمامك، فهذا دليل على عدم تأدبى الرهبانى".

"مرة بينما كان جالساً مع الأخوة، صرخ بصوت عالٍ: يالضعفى! فنبهه تلميذه أبرآم: ماذا جرى؟ فقال لـه: كنت أريد أن أتكلم مع واحد (مع أحد الأرواح التى كانت تتحدث معه) ولم أستطع".

كان معروفاً عن الأب شيشوى أنه سريع الانتقال بالروح إلى السماء، حتى أنه بمجرد أن يبدأ الصلاة برفع يديه، يَدهش عقله فى الحال: "كان يُحكى عن أبا شيشوى أنه إذا لم يخفض يديه بسرعة أثناء البدء فى الصلاة، فإن عقله يُحمل بعيداً عنه عالياً، لذلك كان يحترس أثناء وجود أحد معه أثناء الصلاة أنه بمجرد أن يرفع يديه فى بدء الصلاة يخفضها بسرعة، لئلا يخطف عقله فيبقى من معه واقفاً وحده".

لذلك لا يصعب علينا الآن فهم سر نسيان شيشوى دائماً لطعامه وعدم إحساسه بالجوع: "كان أبرآم تلميذ شيشوى دائماً يلح على معلمه أن يقوم ليأكل، فكان يرد عليه: ألم نأكل يا أبنى؟ فيقول أبرآم: لم نأكل بعد ياأبى، فكان رده دائماً: إذا لم نكن قد أكلنا فهات الطعام لنأكل".

كذلك نستطيع الآن فهم سر النور الذى كان ينبعث من وجه شيشوى، هذا الذى شاهده الآباء وأذاعوا خبره: "كان من المعروف أن وجه كل من الأب بامو وسلوانس وشيشوى كان أحياناً يضئ كالبرق مثل موسى، وكان الواحد منهم يبدو مثل ملك جالس على عرشه".

ولم تكن قداسة شيشوى ظاهرية أو مخفية، فقد كان خبر إقامته ميتاً أمراً معروفاً لدى جميع الآباء. وقد حدث هذا أثناء وجوده فى جبل أنطونيوس. تقول القصة باختصار: "ذهب رجل، حاملاً ابنه المريض، إلى جبل أنطونيوس، ليقدمه لأنبا شيشوى ليصلى عليه ويشفيه، ولكن الولد مات فى الطريق. فحمله أبوه حتى وصل إلى شيشوى، ووضعه أمام الباب، وقرع الباب، وذهب تاركاً الولد (مكفياً على وجهه كأنه ساجد)، فلما فتح شيشوى الباب ورأى الولد ظنه يطلب بركة، فقال لـه: قم انهض. فقام الميت ولحق بأبيه.."

ولكن بالرغم من ذلك فقد كان شيشوى متضعاً بالحق، ولم يكن يساوى نفسه بمن سبقه: "مرة جاءه إخوة وزاروه وهو ساكن فى مغارة أنبا أنطونيوس (بعد نياحة هذا الأب الكبير)، فأشار شيشوى إلى المغارة قائلاً: هنا كان يسكن أسد والآن يعيش فيها ثعلب!!".

"مرة سأله أحد الأخوة: ألم تصل بعد إلى درجة أنبا أنطونيوس يا أبانا؟ فأجاب: لو كان لى فكر واحد من أفكار أبا أنطونيوس، لكنت قد صرت كلى نار، ولكنى أعرف إنساناً قد صار قادراً بعد جهد كبير أن يحمل كل أفكار أنطونيوس (وكان غالباً يقصد أنبا مقار).

كان شيشوى معجباً بأنبا بامو، وكان يقول عنه أنه "كان عظيماً فى حياته وأعماله". وكان أنبا شيشوى كريماً مضيافاً متسع النفس والصدر، شجاعاً فى تدبيره، يقابل ضيوفه بترحاب، ويقدم لهم أفخر ما عنده، ويكسر قانون صومه جهاراً وإكراماً لقانون المحبة: "فقد حُكى عنه أنه زاره أنبا ألونيس أسقف فيلوأبولاوس بإقليم البهنسا. وكان وقتها يسكن فى برية أنطونيوس (بالقرب من بنى سويف الآن)، ولما هم الأسقف فى الانصراف، قدم لـه شيشوى المائدة، وكان صوماً. وإذ قوم يقرعون الباب، فقال لتلميذه: قدم لهم من الطبيخ. فرد الأسقف: لا، دعهم الآن لئلا يقولون إن شيشوى يأكل باكراً. فتأمله الشيخ وقال لتلميذه: اذهب اعطهم ليأكلوا. فلما أبصروا الطبيخ قالوا للأخ: يا ترى هل عندكم ضيوف والشيخ يأكل معهم؟ فقال لهم: نعم. فحزنوا قائلين: لماذا تركتم الشيخ يأكل فى مثل هذا الوقت؟ أما تعلمون أن الشيخ سوف يُعذب نفسه أياماً كثيرة بسبب هذه الأكلة؟ فلما سمع الأسقف هذا الكلام صنع ميطانية قائلاً: إغفر لى يا أبتِ، لأنى تفكرت فكراً بشرياً أما أنت فأكملت أمر الوصية. فرد عليه: إذ لم يزكى الله الإنسان فتزكية الإنسان لنفسه باطلة".

ومرة أخرى نجد هذا القديس متسعاً فى تفكيره، نيراً فى تدبيره، كريماً مفضالاً: "ذهبنا مرة إلى زيارة الأب شيشوى، وهو ساكن فى برية الأب أنطونيوس (بالقرب من الريف). وبينما نحن نجلس لنتناول طعامنا قرع الباب أخ غريب يطلب حسنة، فقال الأب شيشوى: إسألوا هذا الأخ إن كان يريد أن يدخل ليأكل معنا. فلما سألوه، احتشم، ولم يُرد الدخول. فقال الأب للأخوة: كل ما يتبقى أعطوه لهذا الأخ، ليأكل وحده فى الخارج. ودخل الأب وأحضر إبريقاً من خمر الأباركا المستعملة للتقدمة، ومزج لنا كل واحد كأساً، أما الأخ الغريب فأعطاه كأسين. فابتسمت وقلت لـه: وأنا أيضاً أذهب إلى الخارج لآخذ كأسين. فقال الأب شيشوى: لو أنه دخل وأكل معنا لأعطيته كأساً واحداً مثلنا، ولكن لئلا يظن أننا ميزنا أنفسنا عنه أعطيته أكثر، حتى لا يلومنا ضميرنا".

والعجيب فى هذا الأب الفاضل القديس العالم، أنه كان يقتنى كتب اللاهوت التى ألفها الآباء، وبالأخص القديس أثناسيوس، والتى كانت تبحث فى العقيدة وترد على المبتدعين، فالأب شيشوى حُسب بين المناضلين من أجل العقيدة ومن أشد أعداء الأريوسية. وكان شيشوى كثير القراءة فى كتب اللاهوت، وكان يحتفظ بها فى قلايته، كما كان شديد التمسك بالعقيدة. ويُحكى أنه: "جاء مرة جماعة أريوسيين لزيارته وهو فى جبل أنطونيوس، وبدأوا يتكلمون ضد العقيدة الأرثوذكسية، فنادى شيشوى على تلميذه أبرآم: "أبرآم، أحضر لى كتاب القديس أثناسيوس وأقرأ أمامى". فصمت الأريوسيون لما افتضحت هرطقتهم. كان هذا حوالى سنة 356م. وقد اشتهر شيشوى بأنه مناضل قوى ضد الريوسيين.

وللأب شيشوى منهج سليم فى دراسة الكتاب المقدس، كان هو المنهج الأبائى المسلم بالتقليد من الشيوخ. وأساسه أن تكون قراءة الكتاب المقدس، لا لزيادة المعرفة ولا لمحاولة الرد على أسئلة الناس ولا لإقناع العقل بأمور اللاهوت، ولكن لطهارة القلب أمام الله وتنقية الضمير. أما الرد على المبتدعين فيكون من كتب الآباء المتخصصة فى ذلك.

[سأل أنبا آمون (وكان عالماً لاهوتياً) الأب شيشوى قائلاً: "حينما أقرأ الكتاب المقدس يحثنى عقلى على أن أرتب الآيات، حتى تصلح ردوداً على الأسئلة"، فقال لـه الأب شيشوى: "نحن لسنا فى حاجة إلى هذا، ولكن حاجتنا هى فى طهارة القلب. ولهذا ينبغى أن نهتم كثيراً لا بما نقوله، بل بما نعيشه"].

وفى نهاية هذه السيرة العطرة لهذا العملاق الروحانى، لا يسعنا إلا أن نحنى رأسنا أمام ذكرى الأب شيشوى، طالبين أن ينفعنا الله بصلواته، ويفتح بصيرتنا لنتعلم منه هذا الاتساع القلبى، وهذا الإفراز فى التدبير، وهذه النعمة المضيئة التى أضاءت عقله ووجهه.

بركة صلواته تكون معنا أمين.