14 بؤونة: نياحة البابا يؤنس التاسع عشر البطريرك المائة والثالث عشر

 في هذا اليوم من سنة 1658 للشهداء (1942م) تنيح البابا يؤنس التاسع عشر وهو الثالث عشر بعد المائة من باباوات الإسكندرية. ولد بدير تاسا التابعة لمركز البدارى بمديرية أسيوط في سنة 1571 للشهداء(1855م) من والدين تقيين فنشأ علي البر والتقوى، وتشرب حب الفضيلة وشغف منذ صغره بقراءة سير القديسين. ثم تاقت نفسه إلى الإقتداء بهم فقصد دير السيدة العذراء بالبراموس بوادي النطرون في شهر برمودة سنة 1591للشهداء. وهناك قضى مدة الاختبارـ التي يقضيها عادة طالب الترهب ـ علي الوجه الأكمل. وبذا اندمج في سلك الرهبنة في 3 كيهك سنة 1952 للشهداء(1876م). ونظرا لما اتصف به من حدة الذهن والذكاء المتوقد والعبادة الحارة، فقد استقر رأى الأباء علي تزكيته قسا. فرسمه السعيد الذكر المتنيح البابا كيرلس الخامس البطريرك (112) قسا في سنة 1593ش ثم قمصا في برمهات سنة 1594ش. وفي اليوم نفسه أسندت إليه رئاسة الدير، فمكث في الرئاسة عشر سنوات، كان فيها مثال الهمة والحزم والأمانة وطهارة السلوك والتقوى وحسن التدبير.

وعندما خلا كرسي أبرشية البحيرة، اختاره الشعب مطرانا لهذا الكرسي فرسم في 12 برمهات سنة 1603 للشهداء (1887م) وعين أيضا وكيلا للكرازة المرقسية. وبعد نياحة الأنبا يؤنس مطران المنوفية في ذلك العهد زكاه شعب الأبرشية لرعايته فضمت إليه في سنة 1610 للشهداء (1894م) وأصبح مطرانا للبحيرة والمنوفية ووكيلا للكرازة المرقسية.

ولما كانت الإسكندرية هى مقر كرسيه، فقد أنشأ بها مدرسة لاهوتية لتعليم الرهبان. كما أرسل من طلبتها بعثة إلى أثينا للاستزادة من دراسة العلوم اللاهوتية.

وكان إيراد أوقاف الإسكندرية ضئيلا، ولكن بحسن تصرفه وغيرته زاد الإيراد سنة بعد الأخرى بفضل ما شيده من العمارات الشاهقة وما جدده من المباني القديمة، كما يرجع إليه الفضل الأكبر في النهوض بالمدارس المرقسية، إذ بذل عناية كبيرة واهتم بأمرها حتى وصلت في قسميها الابتدائي والثانوي، إلى مستوى أرقي المدارس.

ونظرا لما امتاز به من بعد النظر وصائب الرأي فقد اختارته الحكومة ممثلا للأقباط في عدة مجالس نيابية كمجلس شورى القوانين، والجمعية العمومية، ولجنه وضع الدستور، وغيرها.

وقضى في المطرانية اثنين وأربعين عاما حفلت بجلائل الأعمال، إذ ساهم في إنشاء جملة مدارس وبناء وتجديد أغلب كنائس أبرشيته. وكان له أوفر نصيب في تعضيد المشروعات النافعة. كذلك وجه عناية خاصة إلى الأديرة البحرية، فارتقت شؤونها بحسن إشرافه عليها ورعايته لها .

ولما تنيح البابا البار طيب الذكر الأنبا كيرلس الخامس في أول مسرى سنة 1643 للشهداء (أغسطس سنة 1927م) اجتمع المجمع الاكليركى في (4مسرى سنة 1643ش / 10 أغسطس سنة 1927م) من الآباء المطارنة والأساقفة بالدار البطريركية. واستقر الرأي علي اختياره قائما مقام البطريرك لإدارة شئون الأمة والكنيسة لحين رسامة بطريرك. وعلي أثر ذلك تلقى المجمع تزكيات من عموم الابرشيات  والمجالس الملية بالموافقة علي هذا الاختيار. ولبث قائما بأعمال البطريركية سنة واحدة وأربعة أشهر وعشرة أيام، دبر في أثنائها شؤون الكرازة المرقسية أحسن تدبير وفي خلالها أصدر المجمع الاكليركي برياسته قانونا لتنظيم شؤون الأديرة والرهبان. أما الأوقاف القبطية فقد رأى بصائب فكره أن تؤلف لجنة برئاسته وعضوية اثنين من المطارنة وأربعة من أعضاء المجلس الملى العام لمراجعة حسابات أوقاف الأديرة. وقد صدر قرار بذلك من وزير الداخلية.

ونظرا لما يعرفه الجميع عنه من طهارة السيرة والخصال الحميدة والنسك والزهد وكمال الأخلاق، فقد انتهى الإجماع على اختياره بطريركا بتزكيات من الآباء المطارنة والأساقفة والكهنة وأعيان الشعب والمجالس الملية، فرسم بطريركا في صباح الأحد 7 كيهك سنة 1645 للشهداء (16 ديسمبر سنة 1928م) بالكاتدرائية المرقسية الكبرى بمصر باحتفال عظيم حضره نائب الملك والأمراء والوزراء وكبار رجال الدولة وعظماء المصريين من مختلف الطوائف ومطارنة الطوائف الشرقية والغربية ووزراء الدول المفوضون.

وبعد رسامته وجه عنايته إلى الاهتمام بشئون الأمة والكنيسة. وكان أول مظهر لهذه العناية، إنشاء مدرسة لاهوتية عليا للرهبان في مدينة حلوان. كما رسم  للملكة الأثيوبية مطرانا قبطيا وأربعة أساقفة من علماء الأثيوبيين.

وتوثيقا لعرى الاتحاد بين الكنيستين القبطية والأثيوبية، سافر إلى البلاد الأثيوبية ومكث هناك ثلاثة عشر يوما، كان فيها موضع الاحتفاء العظيم. ورسم في أديس أبابا رئيس رهبان الأحباش (خليفة القديس تكلاهيمانوت الحبشي) أسقفا. 

وشاءت العناية الربانية أن يتولى عمل الميرون المقدس، فعمله في سنة 1648 للشهداء (1930م) وكان قد مضى على عمله مائة وعشر سنين منذ عهد المتنيح البابا بطرس المائة والتاسع من باباوات الإسكندرية، كما عمله مرة ثانية خصيصا للملكة الأثيوبية بحضور الأنبا كيرلس مطران أثيوبيا والأنبا بطرس أحد الأساقفة الأثيوبيين.

ويضيق المجال عن تعداد فضائله التى تجلت من حين لآخر في السهر على مصلحة الكنيسة، والعطف علي المحتاجين، ومؤازرة ومعاونة الجمعيات الخيرية، ومعاهد التعليم ماديا وأدبيا. وتعضديد المشروعات النافعة التى عادت علي الأقباط بالخير والبركات.

وفي أثناء رئاسته الكرسي المرقسي، نشبت الحرب بين مملكة أثيوبيا والمملكة الإيطالية ومات أثنائها أغلب الأساقفة الأثيوبيين عدا الأنبا ابرآم وأسقف آخر.

ولما استولت إيطاليا علي إثيوبيا غادرها الإمبراطور، ونفى الأنبا كيرلس مطران أثيوبيا إلى الديار المصرية لأنه لم يوافق  إيطاليا علي انفصال الكنيسة الأثيوبية عن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.

وفي 27 نوفمبر 1937، قرر نائب ملك إيطاليا استقلال كنيسة إثيوبيا، وانفصالها عن الكرسي الإسكندري. وعين الأنبا ابرآم الأسقف الأثيوبي بطريركا علي إثيوبيا، ولكن الله عاقبه على هذه الخيانة فأصيب بالعمى ومات . ثم قرر المجمع المقدس الإسكندرى حرم ابرآم المذكور وعدم الاعتراف. به ولا بالأساقفة الذين رسمهم.

ولكن هذا الحال لم يدم كثيرا . إذ قامت الحرب العظمى في سنة 1939 ودخلت إيطاليا الحرب ضد إنجلترا وفرنسا  وفي سنة 1941م استرد إمبراطور أثيوبيا مملكته من إيطاليا، وعاد الأنبا كيرلس مطران الإمبراطورية الأثيوبية إلى كرسيه مكرما في 30 مايو سنة 1942م، مصحوبا بوفد بطريركي مكون من سعادة صادق وهبه باشا ومريت بك غالى وفرج بك موسى قنصل مصر بأثيوبيا سابقا.

وبعد أن اطمأن البابا يؤنس علي عودة أثيوبيا إلى حظيرة أمها الكنيسة القبطية كان قد اعتراه مرض الشيخوخة فأسلم الروح في الساعة الثانية من صبيحة الأحد 14 بؤونة سنة 1658ش (21 يونية سنة 1942م).

بركة صلاته تكون معنا. آمين.