14 بشنس: القديس الأنبا باخوميوس (السنكسار طبعة مكتبة المحبة)

في مثل هذا اليوم من سنة 64 ش ( 348م) تنيح الأب القديس الأنبا باخوميوس أب الشركة الروحانية.

ولد هذا الأب في طيبه ( الأقصر ) من والدين وثنين أجبراه علي عبادة الأصنام فهزأ بهذه العبادة ثم ترهب عند القديس بلامون ومكث تحت طاعته عدة سنين أتقن فيها أمور الرهبنة جيدا. وبعد ذلك ظهر له ملاك الرب، وأمره أن يؤسس شركة رهبانية مقدسة. فاجتمع عنده عدد وفير من الرهبان، فشيد لهم جملة أديرة، وجعلهم تحت نظام واحد في شغل اليد وأوقات الطعام والصلوات، وكان هو أب عليهم جميعا، وجعل لكل دير رئيسا. وكان يمر عليهم جميعا من أقصي أسوان وأدفو ودوناسة إلى أخر الصعيد من الجهة البحرية ولم يكن يسمح لأحد من أولاده أن يصير قسا، حتى لا يتزاحموا علي الكهنوت وتضيع الغاية المقصودة من العبادة والبعد عن العالم، وكان يدعو لكل دير كاهنا علمانيا يقدس به. ولما أراد البابا أثناسيوس أن يرسمه قسا هرب منه. فقال لأولاده: "قولوا لأبيكم الذي بنى بيته علي الصخرة التى لا تتزعزع وهرب من المجد الباطل طوباك وطوبى لأولادك."

وقد اشتهى مرة أن يرى الجحيم، فرأي في رؤيا الليل منازل  الخطاة ومواضع العذاب.

وأقام رئيسا علي الشركة أربعين سنة. ولما دنا وقت نياحته ثبتهم وعين لهم من يتولى تدبيرهم من بعده وتنيح بسلام.

صلاته تكون معنا. أمين.

 

النص الكامل لسيرة القديس باخوميوس أب الشركة

كتاب حياة الشركة الباخومية ـ دير الأنبا باخوميوس حاجر أدفو ـ تعريب القمص أشعياء ميخائيل عن كتاب PACHOMIAN KOINONIA   البحيرى إصدار     ARMAND VEILLEUX وقد أورد السيرة من المخطوط البحيرى والمخطوط الصعيدى والترجمة اليونانية. وفى الترجمة اكتفى المترجم بترجمة السيرة حسب المخطوط البحيرى.

 

1. إن كلمة الله، خالق كل الأشياء، قد ظهر لأبينا إبراهيم، وأمره أن يقدم ابنه الوحيد اسحق ذبيحة. فلما أطاعه وقال له: "من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك، أباركك مباركة، وأكثر نسلك تكثيراً، كنجوم السماء، كالرمل الذى على شاطئ البحر. ويرث نسلك باب أعدائه ويتبارك فى نسلك جميع أمم الأرض، من أجل أنك سمعت لقولى."

وبعد أن تحدث الله مع أبينا إبراهيم، تحدث أيضاً مع موسى النبى كليمه، وكذلك مع باقى الأنبياء. وأخيراً تحدث إلينا فى ابنه يسوع المسيح ربنا، الذى هو من نسل إبراهيم وذريته إذ سبق الله فوعد إبراهيم أن يكون بركة لكل الأمم. وقد تحقق هذا فى قوله لتلاميذه: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس."

وبعد أن انتشر الإنجيل فى العالم أجمع، دخل الإيمان بالله فى بوتقة التجارب، وذلك عندما أعلن الأباطرة الوثنيون اضطهاد المسيحيين وإبادتهم أينما وجدوا.وعلى أثر ذلك، قدم المسيحيون أنفسهم شهداء لذاك الذى مات لأجلهم، بعد أن ذاقوا صنوف العذاب والآلام، فنال كل منهم إكليل المجد والفخار الذى لايفنى. وكان آخر هؤلاء الشهداء هو القديس بطرس بطريرك الاسكندرية الملقب بخاتم الشهداء.

فما كان من الإيمان إلا أن تقوى وازداد فى كل الكنائس فى المسكونة بأكملها. وظهرت الحركة الرهبانية والنهضة الديرية، كثمرة طبيعية، لشجرة الاستشهاد، التى ظلت صورتها بكل ما تحمله من ضروب العذابات المختلفة، ماثلة أمام أعين آبائنا الرهبان الأوائل، يعبق ذاكرتهم بأريج رائحتها العطرة، كقوة دافعة للسلوك فى طريق إيليا النبى. متممين قول بولس الرسول: "مكروبين، مذلين تائهين فى برارى وجبال ومغاير وشقوق الأرض."

فقدموا حياتهم وأجسادهم لله. فى حياة النسك وشظف العيش كفعل إرادى لممارسة التقوى والعبادة اللائقة بالله، مثبتين أنظارهم فى الصليب كل حين، سائرين على درب الشهداء فى جهادهم وتقديم ذواتهم ذبائح حية مرضية لله.

2. كانت حياة الفضيلة التى سلك فيها القديسون أنطونيوس وآمون و باخوميوس و تادرس تلميذه شبيهة بتلك الحياة التى عاشها كل من إيليا وإليشع ويوحنا المعمدان فتم قول الكتاب: "ومفديو الرب يرجعون، ويأتون إلى صهيون بترنم وفرح أبدى على رؤوسهم. ابتهاج وفرح يدركانهم، ويهرب الحزن والتنهد." وكذلك قول المزمور: "انسكبت النعمة على شفتيك." وأيضاً ما ورد على لسان بولس الرسول: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذى باركنا بكل بركة روحية فى السماويات فى المسيح. فقد افتقد الله الأرض كما جاء فى الوحى الإلهى: "تعهدت الأرض وجعلتها تفيض. تغنيها جداً. سواقى الله ملآنة ماء.تهيئ طعامهم لأنك هكذا تعدها." فلما شربت الأرض (أى البشرية) من ماء النعمة، امتلأت المسكونة فى كل مكان بالآباء الرهبان القديسين الذين "أسماؤهم مكتوبة فى سفر الحياة." وخير شاهد على ذلك هى طيبة بمصر، التى لم يكن بها أحد من الآباء الرهبان، ولكن بعد الاضطهاد الذى شنه دقلديانوس ومكسيميان، تحول الكثير من ظلام الوثنية إلى نور الإيمان بالمسيح.فازداد عددهم جداً فى الكنائس تحت إرشاد الأساقفة الذين قادوهم فى طريق تعاليم الرسل إلى حياة الفضيلة وثمار الروح ومحبة المسيح.

3. ولد باخوميوس فى ابروشية إسنا من أبويين وثنيين. وبعد أن افتقدته نعمة الرب، تعمد وصار مسيحياً فى ابروشية ديوسبولوس فى قرية تدعى صانسيت. ولما تقدم فى الفضيلة صار مجاهداً كل أيام حياته.

4. مرة أخذه أبواه وذهبوا جميعاً لتقديم العبادة للأصنام، وكانت هذه الأصنام عبارة عن مخلوقات نهرية تعيش فى النهر. فحدث أنه حينما رفعت تلك المخلوقات عينيها ورأت الصبى، أنها هربت للحال. عندئذ صرخ مقدم الذبائح قائلاً: "ابعدوا عدو الآلهة من ها هنا، حتى تكف الآلهة عن غضبها علينا لأنها بسببه لا تريد أن تظهر." فبكته أبواه وكانا يسألانه دائماً: "لماذا تغضب الآلهة منك." وفى يوم آخر أخذوه معهم إلى المعبد، وبعد تقديم الذبيحة صبوا كأساً من الخمر ليشرب، باسم الشياطين لكنه لم يلبث أن تقيأه فى الحال وأفرغ كل ما فى معدته فتضايق أبواه، لأن آلهتهم قد صارت فى عداوة معه.

5. حدث فى يوم، أن أعطاه أبواه إناءاً به لحم، ليوصله للعمال فى أحد الأماكن وبينما هو ذاهب فى طريقه، ظهرت له الشياطين على هيئة مجموعة من الكلاب تحاول الفتك به. فرفع الصبى عينيه إلى السماء وبكى. فللحال تشتتوا وتبدد شملهم. بعدها ظهر الشيطان لباخوميوس فى هيئة رجل عجوز وقال له: "إن كنا قد ضايقناك فى الطريق، فذلك من أجل عدم طاعتك لوالديك." ولكن باخوميوس نفخ فى وجهه فاختفى فى الحال.

ولما وصل باخوميوس إلى مكان العمال، وأعطاهم اللحم، كان عليه أن يبيت تلك الليلة فى ذلك الموضع وكان لصاحب المكان الذى سيبيت فيه فتاتان جميلتان فأرادت إحداهما أن ترتكب معه الخطية، لكنه ارتعب جداً، إذ كان يعتبر الزنا نوعاً من النجاسة والشر. وقال لها: "كيف يمكننى أن أفعل هذا الدنس؟ وهل أنا كلب حتى أصنع هذا الشر مع أختى؟" وعندئذ أنقذه الله من يديها فهرب ورجع إلى بيته.

6. ولما صار باخوميوس راهباً. قص تلك الأمور على الأخوة، بعد أن فسرها لهم ليتعلموا منها. وقال لهم: "لا تظنوا أن الشياطين ـ عديمى الصلاح ـ قد طردتنى من ذلك المكان (أى معبد الأصنام ) لأنهم عرفوا إننى سأقبل الإيمان مستقبلاً، ولكن لأنهم رأوا أنني أكره الشر، لأن الله صنع الإنسان مستقيماً." لذلك حركوا خدامهم لكى يطردوني، وذلك مثل أى إنسان يرى حقلاً قد تنقى من الزوان، فلا شك سيقول لابد أن هذا الحقل سوف يزرع بالبذار الجيدة."

7. بعد الاضطهاد الذى جازته الكنيسة، تبوأ قسطنطين عرش الإمبراطورية وكان أول إمبراطور مسيحى بين أباطرة الرومان. وفى أثناء إحدى المعارك الحربية مع خصومه. أصدر أمراً إلى جميع تخوم الإمبراطورية لتجنيد أبنائها. وكان هذا التجنيد عاماً وإلزامياً. شمل كل البلاد والقرى، ومع أن باخوميوس لم يكن قوى البنية، إلا أنه جند ضمن العديدين الذين انخرطوا فى سلك الجندية بناءً على الأوامر الإمبراطورية. وكان له من العمر ما يقرب من العشرين عاماً. فأقلعت بهم المركب شمالاً وعند مدينة إسنا. وقع أسيراً مع آخرين وتم حبسهم فى السجن. وفى المساء جاء بعض من مواطني هذه البلدة وقدموا لهم طعاماً فى السجن وأجبروهم على الأكل، إذ كانوا غرقى فى حزنهم ويأسهم فلما رأى باخوميوس صنيعهم هذا ، سأل الذين معه عن أولئك الذين أكرموهم دون سابق معرفة. فأجابوه أنهم مسيحيون وقد أظهروا لهم كل هذا الحب من أجل المسيح إله السماء. عندئذ انفرد باخوميوس إلى أحد الأماكن وصلى قائلاً: "أيها المسيح إله السماء ليت صلاحك يدركنى سريعاً. أنقذني من هذه المحنة. وأنا أخدم كل الجنس البشرى طيلة أيام حياتى."

وفى يوم ما، لما أبحروا إلى مدينة أنتينوى، ذهب باخوميوس مع رفقائه لشراء طعام، فأراد رفقائه أن يستميلوه ليذهب معهم إلى أماكن الدنس للتلذذ بمسرات الجسد، فانتهرهم بشدة، ولم يقبل لأنه كان يحب الطهارة التى يحبها الله وتحبها الملائكة أيضاً.

8. وبينما هم فى أنتينوى، انتصر الإمبراطور قسطنطين على أعدائه فأصدر أمراً عاماً بتسريح جميع المجندين. فرجع كل واحد إلى مدينته بفرح.وكذلك رجع باخوميوس جنوباً إلى بلدة تدعى صانسيت. وأخذ يفكر فى الإقامة فى مكان غير آهل بالسكان، فتوجه إلى قرب النهر وذهب إلى بقايا معبد قديم "معبد سيرابيس". فوقف وصلى، وحينئذ حركه روح الرب أن يستقر ويجاهد فى هذا المكان. وفعلاً استقر هناك وكانت توجد فى ذلك المكان بعض الخضروات المزروعة وأشجار النخيل، فظل يقتات منها ويقوت الفقراء والغرباء العابرين، سواء العابرين براً أو عن طريق المراكب فى النهر، أما الذين تركوا منازلهم وجاءوا ليعيشوا بجواره فكان يشجعهم ويشد من أزرهم، وكانت هذه عادته فى التعامل معهم مما دفع الكثيرين إلى الالتفاف حوله والاقامة معه.

وبعد أن قضى فترة فى ذلك المعبد ذهب إلى الكنيسة، ونال المعمودية المقدسة. ثم تقرب من الأسرار المقدسة، وأكل من جسد الرب ودمه. وكان باخوميوس قد رأى فى ليلة عماده رؤيا، وهى أن ندى الليل ينزل على رأسه ثم يتجمع فى يده اليمنى، فتحول إلى شهد عسل، وفيما هو متأمل فى ذلك إذ بهذا العسل ينزل على الأرض، وينتشر على كل وجهها وبينما هو متحير لذلك، إذ بصوت من السماء يقول له: "افهم هذا يا باخوميوس لأن ذلك سوف يحدث معك بعد وقت قصير."

ومن خلال إقامته فى ذاك الموضع، وممارسته عمل الرحمة تجاه كل إنسان، نما جداً فى قامته الروحية، وكان يطيب نفس كل من يأتى إليه، حتى سمع به كثيرون، فجاءوا ليعيشوا معه فى تلك القرية.

9. وحدث أن تفشى وباء الطاعون فى تلك القرية، مما أودى بحياة الكثيرين. فذهب باخوميوس لكى يخدم المرضى،فكان يقدم لهم كميات من خشب السنط. يكون قد جمعها من الغابات الموجودة بقرب القرية، وكان يقوم على خدمتهم إلى أن يشفوا. وبعد أن ترك الوباء تلك القرية، قال باخوميوس فى نفسه: "إن هذا العمل الخاص بخدمة المرضى، ليس هو عمل الراهب، بل عمل الكهنة والشيوخ الأتقياء. ومنذ الآن لن أقوم به، حتى لا يسير خلفى كثيرون فى هذا العمل ويعثرون، ويتم فىَّ قول الكتاب: "إن حصلت أذية تعطى نفساً بنفس."

10. أمضى باخوميوس ثلاث سنوات فى تلك القرية، بعدها لاحظ أن الناس تزدحم حوله، مما أثر على سلامه وهدوءه، حتى لم يكن يجد وقتاً للعبادة والرياضة الروحية. فقرر أن يمارس حياة الرهبنة تقشفاً ونسكاً وانفراداً. وبينما هو يفكر فى هذا الأمر علم بوجود أب ناسك يدعى بلامون، يعيش فى تلك القرية، وهو شيخ قد بلغ فى التقوى مبلغاً، وأصبح نموذجاً ومثالاً يحتذي به، وكان كثيرون يقصدونه ويقيمون بالقرب منه حتى صار أباً ومدبراً لهم. فترك باخوميوس زراعة الخضروات. وأسند مسئوليتها إلى أخ آخر كبير فى السن، ثم قام وتوجه إلى الشيخ القديس بلامون. فلما قرع الباب، وأطل عليه القديس من النافذة وسأله بجفاء عن سبب مجيئه، فقال له باخوميوس: "يا أبى إنني أريد أن أصير راهباً تحت إرشادك." فرد عليه الشيخ: "إن الأمر الذى تطلبه ليس هيناً، لأن كثيرين جاءوا إلى هنا لنفس الغرض، ولكنهم لم يكملوا لعدم احتمالهم، ورجعوا إلى الوراء فى خزى لأنهم لم يصبروا على الجهاد فى الصوم والسهر والصلاة كل حين حتى نتمم خلاصنا. فاذهب أنت وعش فى مكانك، ثابتاً فيما أدركته، وعندئذ ستكون مكرماً عند الله. وإلا فعليك أن تذهب وتختبر نفسك جيداً، لتعرف مدى قدرتك على الثبات فى هذا الطريق، وبعدها يمكنك المجئ إلى هنا. وحينما ترجع سنكون مستعدين لأن نجاهد معك، حتى تعرف ذاتك وسوف نعرفك أعماق الحياة النسكية، لكن الآن ارجع واختبر نفسك جيداً. لأن قوانين الرهبنة التى سلمها لنا الآباء الأوائل الذين سبقونا فى هذا الطريق تتضمن السهر الدائم إلى منتصف الليل وأحياناً كثيرة الليل كله حتى الصباح، وقراءة كلمة الله على الدوام، بالإضافة إلى شغل اليدين مثل غزل الصوف أو صنع القفف، حتى لا ننام وحتى لا نوفى حاجات الجسد، وما يزيد عن حاجتنا نتصدق به على الفقراء، كقول الرسول: "فقط ان نذكر الفقراء." علاوة على ذلك فإننا لا نعرف لأكل الزيت أو شرب الخمر طريقاً، مع ملاحظة الصوم الدائم إلى المساء، ثم الأكل دفعة واحدة فى اليوم خلال الصيف، وكل يومين أو ثلاثة فى الشتاء. كما توجد ست صلوات نهارية وخمس ليلية، ونحن لا نعد الصلوات. بل نحرص على المثول أمام الحضرة الإلهية. لأنه مطلوب منا "أن نصلى بلا انقطاع." كما يوصينا الكتاب أيضاً: "أعلى أحد بينكم مشقات فليصل." وقد أمر الرب يسوع تلاميذه قائلاً: "صلوا لكى لا تدخلوا فى تجربة." لأن الصلاة فى الحقيقة هى أم كل الفضائل.

فالآن بعد أن أخبرتك بقانون النسك، اذهب وامتحن ذاتك أولاً فى كل ما قلته لك، فإذا وجدت نفسك قادراً على ممارسة ذلك، فتعالى، وإلا فلا تتردد فى الرجوع. ونحن على كل حال سنكون سعداء بك فى أى طريق تسلك." فلما سمع باخوميوس هذا الكلام من فم الشيخ، قال له باتضاع: "لقد اختبرت نفسى فى كل شئ، لأيام كثيرة، قبل المجئ إلى محبتك."

عندئذ فتح أبا بلامون له الباب وسلم عليه، وقبله قبله مقدسة، وقال له: "لا تظن يا ابنى أن كل ما قلته لك عن النسك والصلاة والسهر، هو بدافع حب الظهور، والمجد الباطل، ولكن فقط من أجل خلاصك فلا يكون فيك أى فكر من نحونا، فإن كل فعل صالح، إنما هو لفائدتنا، لأنك متى عاملت نفسك بقسوة، معتمداً على نعمة الله، فإنك يقيناً سترث الملكوت، ومع ذلك فأنا أريدك أن ترجع إلى مكانك، الذى كنت فيه قبلاً، وتختبر ذاتك ثانية، لعدة أيام أخرى، لأن ما تبتغيه ليس سهلاً." فأجابه باخوميوس: "يا أبى لقد اختبرت نفسى فعلاً، وفى كل شئ، وأنا أثق أنه بمعونة الرب وبصلواتك سيستريح قلبك من جهتى." عندئذ قبله آبا بلامون فرحاً، وتركه يقيم معه، لعدة أيام حتى يختبره فى الصلوات والسهر والصوم. على أن آبا بلامون، بعد أن أكل معه الخبز لأول مرة، تركه ليأكل بمفرده، وبعد أن اختبره لمدة ثلاثة أشهر كاملة وجد فيه من العزم والشجاعة الشيء الكثير فقام حينئذ وأخذ الزى الرهبانى مع المنطقة، ووضعهما على المذبح، وقضيا الليل كله فى الصلاة على الملابس ولما طلع النهار، ألبسه إياها، وهما يمجدان الله فرحين.

ومنذ ذلك الوقت، عاشا كلاهما كرجل واحد، يمارسان النسك بقسوة فائقة. وكان القديس بلامون يدربه على السهر من الليل حتى الصباح، عاكفاً على ممارسة النسك دون ملل. وحينما كان النهار يميل للغروب كانا يتناولان شيئاً يسيراً من طعام زهيد، ثم يقول له الشيخ: "أعد لنا بعضاً من الخوص والحبال حتى نشتغل فى العمل اليدوى لأن ذلك يحفظ لنا قانون السهر، طيلة الأسبوع وكان باخوميوس مطيعاً لمعلمه فى كل شئ وكانا فى كل يوم عندما تميل الشمس للغروب يقومان ويستمران فى السهر، وتمجيد الله دون توقف، أثناء العمل اليدوى، فإذا هاجمهما النعاس، فإنهما كانا يغيران نوع العمل اليدوى، فيهربان منه، وإذا وجد أن النوم ما زال يحاربهما، كانا يتركان القلاية ويخرجان إلى الجبل ينقلان الرمل فى قفف من مكان لآخر. وذلك كله حتى يحفظا جسديهما ساهرين، فيستطيعان أن يستمرا فى الصلاة.

وحينما كان الشيخ يرى الشاب باخوميوس، يترنح فى النوم، كان يقويه قائلاً: "استيقظ يا باخوميوس لئلا يجربك الشيطان، لأن كثيرين ينامون وقت التجربة." وكان حينما يراه قد احتمل السهر حتى وقت صلاة المجمع، كان يفرح بسبب طاعته وتقدمه فى الحياة الروحية.

11. لما جاء يوم عيد القيامة، قال بلامون لتلميذه باخوميوس: "يا ابنى أعد لنا طعاماً لنأكل، لأن هذا هو يوم قيامة الرب يسوع المسيح من الأموات، وهو يوم عظيم، فنأكل مرة فى منتصف النهار ومرة أخرى فى الليل." فقام باخوميوس وأعد الطعام، وبعد أن صليا، جلسا ليأكلا. فلما نظر أبا بلامون، ووجد أن باخوميوس قد أضاف إلى الطعام زيتاً لطم على وجهه، وقال: "إن الرب قد صُلب من أجلى وأنا آكل زيتاً لأعطى جسدى قوة. دعنا نأكل بعض الخضروات دون زيت، أو لنضع بعضاً من الرماد على الملح قبل أن ،اكل حتى لا نتخلى عن قوانين آبائنا، ولا نأكل شيئاً يعطى أجسادنا قوة." ثم رفض أن يأكل شيئاً حتى اليوم التالى فما كان من باخوميوس إلا أن أضاف رماداً على الملح، وأخذ يتوسل إلى الشيخ فى اتضاع، أن يسامحه ويغفر له، طالباً منه أن يقوم ليأكل. فإذ بالشيخ يشترط عليه ألا يدخل ذلك الزيت إلى قلايته قط. فأطاع باخوميوس قائلاً له: "اغفر لى يا أبى." حينئذ قام الشيخ وأكل خبزاً وملحاً مع باخوميوس والدموع تنساب على خديهما.

12. اعتاد باخوميوس أن يذهب إلى قبور الموتى، بتشجيع من آبا بلامون. قاضياً الليل كله فى الصلاة للرب يسوع حتى الصباح. فكانت الأرض تحت قدميه تتحول إلى طين من كثرة العرق والدموع المتصبب منه وبعد أربعة سنوات من الإقامة مع آبا بلامون، رأى باخوميوس الرؤيا التى رآها من قبل، وهى ندى من السماء يتساقط عليه ثم يملأ كل الأرض. ورأى أيضاً بعض المفاتيح التى أعطيت له سراً. وفى الصباح أخبر آبا بلامون بتلك الرؤيا فتنهد الشيخ قائلاً له: "هناك مغزى عميق لتلك الرؤيا يا ابنى باخوميوس، ولكن لتكن مشيئة الرب."

13. حدث أيضاً أنه فى عيد الظهور الإلهى، لما رجع باخوميوس من غابة السنط. وجد الشيخ يغلى شيئاً فى وعاء ماء، فتعجب فى نفسه قائلاً: "يا ترى ماذا يطبخ الشيخ اليوم؟" وبعد قليل طلب إليه الشيخ قائلاً: "احضر لى طيقاً بسرعة." فلما أحضره له ملأه آبا بلامون بما كان يطبخه، فإذ بع بعض من التين الجاف، حيث كانت توجد فى ذاك المكان شجرة تين كبيرة، يأخذون ثمرها ويعطونه للمرضى لسد احتياجاتهم.فقاما وصليا وأكلا وشكرا الله من أجل أن "للنفس الجائعة كل مر حلو." 

14. حدث فى أحد الأيام بينما كان باخوميوس جالساً مع آبا بلامون، يعملان أمام جمر نار مشتعل، فى شغل أيديهما ويلهجون فى كلام الله أن قرع أحد الأخوة القاطنين بجوارهم الباب. فقام باخوميوس وفتح له، فتحدث إليهما الأخ بانتفاخ قلب قائلاً: "إن كان لكما ثقة فى نفسيكما أنكما تسلكان باستقامة أمام الله فهل يستطيع أى منكما أن يقف فوق هذا الجمر المشتعل، ويقول الصلاة الربانية؟" فأجابه آبا بلامون بغضب شديد قائلاً: "ملعون ذاك الشيطان الذى ألقى هذا الفكر فى قلبك. والآن كف عن هذا الفكر الردئ." لكن الراهب المختال بدلاً من أن يسمع نصيحة الشيخ، انتفخ أكثر، خاضعاً لمشورة إبليس، ووقف فوق الجمر المشتعل، وقال الصلاة الربانية دون أن تحترق قدماه ثم رجع إلى قلايته مملوء عجباً وزهواً.

عندئذ قال باخوميوس للشيخ: "يا أبى، يعلم الرب، إننى مندهش من أمر هذا الأخ لأنه وقف هكذا فوق الجمر المشتعل، دون أن تحترق قدماه." فأجابه الشيخ: "يا ابنى لا تتعجب من ذاك الإنسان لأنه بسماح من الله لم تحترق قدماه، لأنه مكتوب: "مع الأعوج تكون ملتوياً." وصدقنى يا ابنى لو علمت نهاية هذا الأخ لبكيت على فرط شقاوته." وبعد أيام قليلة، بينما كان ذاك الأخ فى قلايته، غارقاً فى المجد الباطل، ظهر له الشيطان فى شكل امرأة جميلة، وقرع باب قلايته، فلما قام وفتح الباب، قالت له: "أتوسل إليك يا أبى، أن تشفق علىَّ، وتسمح لى بأن أمكث عندك حتى الصباح، فإننى فى ضيق شديد، لأننى مدينة لقوم مقتدرين، وليس لى ما أوفيهم، وأنا أخشى بأسهم." ولم يدرك الأخ بسبب عمى قلبه وانطماس بصيرته، الفخ المنصوب له ففرح بلقائها، وأدخلها إلى عنده وهكذا بدأ الشيطان يدنس فكره بالشهوات الرديئة، والأفكار النجسة، فلما امتلأ قلبه بالدنس، ومال نحوها ليتمم خطيئة النجاسة، صرعه الشيطان، وهزأ به وأخذ يعذبه حتى اليوم التالى وتركه فى حزن عظيم.

ولم يكد هذا الأخ يعود إلى رشده حتى قام وجرى إلى آبا بلامون، وألقى بنفسه تحت قدميه وتوسل إليه بدموع أن يصلى لأجله، حتى يغفر له الرب كبرياء قلبه، ويعينه فى محنته. معترفاً بأنه هو السبب فى بليته لعدم تواضعه ورفضه نصيحة الشيخ، وأن عجرفته هى التى سدت أذنيه عن سماع صوت الشيخ وإرشاده، قائلاً "الويل لى أنا الذى سقطت." فبكى كل من آبا بلامون و باخوميوس، وادخلاه إلى الداخل ليعزياه ويخففا عنه حزنه. وعندما وقفا ليصليا معاً من أجله، صرعه الشيطان وطرحه على الأرض، وأخذ يعذبه بأكثر عنف، فزادا من تضرعهما للرب بدموع من أجله لكى يرحمه، إلى أن شُفى ووقف على قدميه أمامهما. وفيما هما يفكران فى وضعه فى مكان منفرد، حتى يكمل الرب شفاءه، إذ بالروح النجس الساكن فيه يهيجه ويثيره فيمسك عصا غليظة، محاولاً قتل الشيخ ومعه باخوميوس ولما هما بأن يمسكاه، جرى منهما إلى الجبل وإذ وجد تنوراً مشتعلاً، زج بنفسه فيه، فاحترق ومات. فحزن آبا بلامون عليه حزناً عظيماً، واغتم لفرط تعاسة ذلك الإنسان. وكان كثيراً ما يتحدث مع الأخوة عن شقاوة هذا الأخ حتى يزرع فيهم خوف الله مدللاً على ذلك من الكتاب المقدس، فكان الأخوة يتأثرون عند سماعهم كلمة الشيخ. ويجاهدون من أجل خلاص أنفسهم، مقتدين فى ذلك، بمعلمهم آبا بلامون، الذى كان يحمل فى جسده كل حين سمات صلب الرب يسوع.

15. ازداد باخوميوس جداً فى ممارسة النسك، وحفظ الكتاب المقدس، والهذيذ فيه كل حين بسهولة ويسر. وكان يتردد على غابة السنط المحيطة بالمكان ليمارس قمع جسده بتقشف صارم لفترات طويلة. وحين كانت الأشواك تدخل رجليه وتدميها كان يتركها ولا ينزعها، فيتألم، فيتذكر حينئذ المسامير التى دقت فى جسد الرب على الصليب.

16. كان القديس بلامون على صلة بكل من يحيا حياة النسك على الجبل، وكان جميع الأخوة معجبين به، لشجاعته وعزيمته القوية، وحياته النسكية الصارمة دون كلل أو ملل. على أنه نتيجة نسكه المتزايد وتقشفه الشديد دون اعتبار لسنه المتقدم، أصيب بمرض شديد فى الطحال. فلما رأوه يتلوى من شدة الألم، استدعوا له طبيباً مشهوراً حتى يصف له دواء. ولكن لما فحص الطبيب حالته قال: "إن مرضه هذا لا يستلزم استدعاء طبيب على الإطلاق، لأنه نتيجة الإرهاق الشديد الناتج عن شدة النسك والآن إذا هو قبل أن يتناول بعضاً من الطعام والخضرواتـ فإن حالته لا شك ستتحسن جداً." فألح عليه الأخوة كثيراً أن يأكل حتى وافق ورضى أن يتناول بعض الأطعمة التى يتناولها المرضى. وبعد تناوله تلك الأطعمة لعدة أيام، أحس أن صحته لم تتقدم، فقال للأخوة: "لا تظنوا أن الشفاء يأتى من الأطعمة البائدة، بل إن الصحة لا تأتى إلا من قبل الرب يسوع المسيح.وإذ كان شهداء المسيح قد قطعت أعضاؤهم وفصلت رؤوسهم وأحرقوا بالنار وصبروا على كل ضيق حتى الموت من أجل شدة إيمانهم وتمسكهم بالله، فهل كثير علىَّ أن احتمل مرضاً بسيطاً كهذا؟ وها أنتم ترون أنه بالرغم من أننى أطعتكم وأكلت من ذاك الطعام الذى يقوم الجسد إلا إننى صرت فى حالة أسوأ." ثم مالبث أن عاد الشيخ مرة أخرى إلى حياة النسك، بتداريب متنوعة لقمع جسده. فلما رأى الله شجاعته وصبره المتواصل، منحه القوة وشفاه من مرضه.   

17. عاش باخوميوس مع القديس بلامون، يقتفى إثر خطواته، ويسلك على منواله مقتدياً به فى كل شئ. وفى إحدى المرات خرج كعادته ليسير نحو غابة السنط، فاقتاده الروح إلى قرية مهجورة، تبعد مسافة عشرة أميال، وتقع على شاطئ النهر، تدعى طبانيسى. فلما بلغها أحس أنه مدفوع للصلاة، فصلى طالباً من الرب يسوع المسيح أن يقوده هادياً خطواته، وفق إرادته الصالحة. وما إن فرغ من الصلاة، حتى سمع صوتاً من السماء يقول له: "يا باخوميوس جاهد أن تقيم فى هذا المكان، وإبنى هنا ديراً، لأن كثيرين سيأتون إليك ويصيروا رهباناً معك لأجل خلاص أنفسهم." وبعد هذا الصوت قام ورجع إلى أبيه الشيخ، وقص عليه ما حدث. فلما سمع القديس بلامون ذلك، بكى قائلاً: "هل ستتركنى يا باخوميوس بعد كل هذه المدة بعد أن عشت معى سبع سنوات فى طاعة كاملة؟ وهل ستتركنى الآن فى شيخوختي هذه؟ ولكن لتكن إرادة الرب. فإن الرؤيا التى رأيتها مرتين، سوف تتحقق، وتصير حقيقة واقعة، لأن هناك عملاً ما سوف يكلفك الرب به. والآن هيا بنا نحو الجنوب لتبنى لك قلاية هناك لتعيش فيها، على أن يزور كل منا الآخر بالتناوب إلى أن يفتقدني الرب."

فقاما وذهبا معاً، وبنيا هناك قلاية، وكان كل منهما يزور الآخر فى فرح وحب إلهيين. وكان آبا بلامون مصدر تعزية لباخوميوس ليست بقليلة.

18. لم يكد يمضى على ذلك طويلاً، حتى مرض الشيخ فأرسل الأخوة لباخوميوس حتى يحضر سريعاً. فحضر لوقته، واستمر فى خدمته إلى أن افتقده الرب بسلام، وكان ذلك فى الساعة العاشرة فى اليوم الخامس والعشرين من شهر أبيب (323م). فقضوا الليل كله فى قراءة الأسفار المقدسة، وترتيل المزامير، وهم قيام حوله، حتى جاء وقت صلاة المجمع، فأقاموا له قداساً إلهياً من أجله، ثم أخذوا جسده ودفنوه على مسافة قريبة من مغارته فى الجبل.

وبعد ذلك رجع كل واحد إلى قلايته بحزن عظيم، متذكرين كلماته، وإرشاده لهم، قائلين لبعضهم البعض: "لقد صرنا اليوم يتامى من بعده." أما باخوميوس فرجع جنوباً إلى قلايته، بحزن ووجع قلب لانتقال معلمه ومنذ ذلك الوقت فصاعداً، تزايد جداً فى نسكه وممارساته الروحية، فى تداريب شتى.

19. علم يوحنا شقيق باخوميوس، أن أخاه يسلك فى النسك، ويحيا فى الوحدة، فاستقل قارباً واتجه شمالاً وجاء إلى أخيه. ولم يكن أى منهما قد رأى الآخر، منذ التحق باخوميوس بالجيش. وما إن تقابلا فى طبانيس حتى تعانقا وقبلا بعضهما. ولما جلسا، أخذ باخوميوس يكلمه بكلام الحياة والعيشة الملائكية، وجعله راهباً معه.فعاشا معاً يمارسان النسك الشديد، ويخضعان كل حين لنير الصليب، حاملين إماتة الرب يسوع المسيح، تنفيذاً لوصية الرسول: "حاملين كل حين إماتة الرب يسوع المسيح لكى تظهر حياة يسوع أيضاً فى جسدنا. لأننا نحن الأحياء نسلم دائماً للموت من أجل يسوع لكى تظهر حياة يسوع أيضاً فى جسدنا المائت." وهكذا سلكا فى احتقار كامل للعالم، وكانا كل ما يكسباه من عمل أيديهما يتصدقان به على الفقراء، مكتفين فقط بحاجتهما الضرورية. أما عن لباسهما الرهبانى، فكان يتمثل فى جلباب واحد فقط، وعباءة أخرى لكليهما تستعمل عند غسل الجلباب، وكذلك غطاء الرأس(قلنسوة)، وغطاء واحد يتبادلان استعماله. وعاشا على ذلك لا يمتلكان من متاع العالم شيئاً. أما من ناحية الطعام، فكان عبارة عن خبزتين مع قليل من الملح.

        وعلاوة على ذلك فقد كان لباسهما من الشعر الخشن، الذى كثيراً ما شعرا بخشونة ملمسه وثقله كلما اشتدت حرارة الجو.

        وفيما يختص بصلاتهما، فقد كانا يقضيان الليل كله فى الصلاة، حتى الصباح، وما أشد قمعهما لجسديهما أثناء الصلاة، فما كانا يحركان رجلاً أو يداً أثناء وقوفهما، بل كانت الأيدى مبسوطة للصلاة بلا ارتخاء، حتى يحاربا النوم، والأرجل ثابتة طوال الليل بلا حركة. ومن جراء ذلك كثيراً ما شعرا بألم فى الرجلين بسبب كثرة الوقوف، وكثيراً ما أدمت بسبب لدغات البعوض.

        أما عن طريقة نومهما، فقد كانا يجلسان فى وسط موضع الصلاة، دون أن يسندا ظهراً على حائط، ويختطفان قليلاً منه.

        وزيادة فى قمع الجسد، ما كانا يقبلان قط أن يغيرا مكان عملهما اليدوى أثناء النهار، رغم لفحة أشعة الشمس الحارقة وقت الظهيرة، بل يظلان على ذلك حتى ينتهيا من شغل أيديهما، متممين قول الإنجيل: "إن أراد أحد أن يأتى ورائى فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعنى."

ولكن حدث أنه أثناء قيامهما بإنشاء مسكن لهما، أن رأى باخوميوس أن يكون المكان متسعاً، حتى يسع الرهبان الذين سيأتون مستقبلاً، أما يوحنا فكان من رأيه أن يظلا بمفردهما. ولما نظر باخوميوس أخاه يهدم الحائط الذى بناه، احتد عليه غضباً وقال له: "كف عن هذا الغباء يا يوحنا." فاستشاط يوحنا أيضاً غضباً وحزناً. وعندئذ ندم باخوميوس وقال له: "اغفر لى لأننى قد غضبت منك وأحزنتك." وبعدها ذهب باخوميوس إلى مكان منفرد، وظل هناك حتى المساء ثم قام وبسط يديه وصلى قائلاً: "لأن فكر الجسد ما زال فىَّ، فإنى سأهلك لا محالة لأنه مكتوب إن اهتمام الجسد هو موت.. لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون." فارحمنى يا الله، لئلا أهلك، لأن عدو الخير قد وجد له فىَّ مكاناً، وشيئاً فشيئاً سيهزمنى ويظفر بى، لأنه مكتوب: "من حفظ الناموس، وعثر فى واحدة فقد صار مجرماً فى الكل." ولكنني واثق يا إلهي؛ إن ادركتنى بمراحك الغزيرة يا إلهى، فإنى سوف أعرف كيف أسير فى طريق القديسين، و أنسى ما هو وراء وامتد إلى ما هو قدام. وبمعونتك يا الله أستطيع أن أسلك كما سلك قديسوك، الذين هزموا الشياطين بنعمتك. وإلا فكيف يمكننى أن أرشد أولئك الذين ستدعوهم لهذه الحياة، ما دمت أنا نفسى مغلوباً هكذا من الأفكار الجسدية؟". واستمر باخوميوس يصلى هكذا حتى الصباح. ثم خرج من مكانه ورجع إلى أخيه فى اتضاع تائباً إليه طالباً منه المغفرة، حتى تصافحا وقاما وصليا معاً.

20. حدث مرة بينما كانا يبلان الخوص فى الماء أن ظهر تمساح فجأة فارتعب يوحنا وجرى مسرعاً نحو الشاطئ، وصرخ على أخيه قائلاً: "هيا انهض سريعاً، لئلا يصرعك التمساح." فابتسم باخوميوس وقال له: "وهل تظن يا يوحنا أن الحيوانات المتوحشة لها سلطان علينا من أنفسها؟ كلا." ثم ظهر التمساح مرة أخرى على وجه الأرض واقترب منه جداً لمسافة لا تزيد عن ثلاثة أذرع، فما كان من باخوميوس إلا أنه أخذ قليلاً من الماء ورش عليه قائلاً: "الله يدينك ويحكم عليك ألا تأتى إلى هذا المكان ثانية." فللحال غاص التمساح فى الماء ولم يعد يظهر. ولما خرج باخوميوس من الماء، أسرع يوحنا نحوه وقبل فمه ويديه ورجليه بفرح عظيم قائلاً له: "الله يعلم، يا أخى، إننى كنت دائماً أعتبر نفسى أخاك الأكبر، لذلك كنت أدعوك يا أخى، ولكن من الآن فصاعداً، لن أناديك إلا يا أبى، بسبب إيمانك الراسخ فى الله."

وبهذه الروح الوديعة قضى يوحنا بقية حياته ممارساً التداريب المتنوعة فى النسكوالزهد حتى افتقده الرب وأراحه فى دار الخلود.

21. واجه باخوميوس حرباً قوية من قبل الشياطين، وكان ذلك بسماح من الله، لأجل امتحانه وزيادة حنكته الروحية، وحتى يستطيع أن يقود الآخرين (فى كيفية النصرة).

فكانوا يحاربونه مواجهة، ومن ذلك أنه حينما كان يركع ليسجد، كانوا يصورون له، كأن حفرة أمامه حتى يخيفوه فيمنعوه عن الصلاة، ولكنه إذ كان يدرك حيل الشياطين، فقد كان يسجد بإيمان ويبارك الله ويشكر المسيح من أجل خزي الشياطين وفضيحتهم.

وأحياناً أخرى حينما كان يذهب للعمل اليدوي، كانت الشياطين تظهر له فى شكل صفين من الجنود، يمشون أمامه ويقولون لبعضهم البعض: "أفسحوا الطريق لرجل الله." وذلك حتى يسقط فى المجد الباطل ويتشتت فكره بالنظر إليهم. ولكنه لرجائه فى الله وثقته فيه، لم يكن يلتفت إليهم قط بل كان يسخر منهم لضعفهم. وإزاء هذا الثبات كانوا يختفون من أمامه ويتبددوا. وتارة أخرى كانوا يحدثون زلزالاً فى قلايته، ويخيلون له أنها ستسقط على رأسه، وذلك حتى يدخلوا الفزع إلى قلبه. ولكنه فى رباطة جأش كان يرنم قائلاً: "إلهنا ملجأنا ومعيننا فى شدائدنا التى أصابتنا جداً. فلا نخاف إذا انقلبت الأرض."

وفى إحدى المرات، حينما جلس ليعمل، ظهر له الشيطان فى شكل ديك وصاح فى وجهه، فما كان من باخوميوس إلا أن أغمض عينيه، ولم يعره انتباهاً، ولم يتزعزع قيد أنملة. فلما أيقنت الأرواح الشريرة أنها أضعف من أن تخدعه، أحضرت شيئاً مثل ورقة شجرة وربطوها بحبل وكأنهم يجرونها إلى مكان ما. وتظاهروا كأنهم فريق كبير يعمل عملاً شاقاً وهم يصيحون بأعلى أصواتهم، وذلك كله حتى يجذبوا انتباهه ويحولوا فكره إليهم أو يضحك، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل فى الحال وقف ورفع يديه للصلاة، فتبددوا وهربوا من أمام وجهه.وكثيراً عندما كان يجلس ليأكل، كان الشيطان يظهر له فى شكل امرأة عارية تريد أن تأكل معه، فكان رجل الله يغلق عينيه وقلبه، إلى أن يتبدد الشيطان ويتحول إلى بخار.

لذلك من أجل هذه الحروب، طلب باخوميوس من الله أن ينزع عنه النوم حتى يستمر فى جهاده وينتصر على محاربيه، ويرتل مع المرنم: "اتبع أعدائي فأدركهم ولا أرجع حتى أفنيهم."  وقد وهبه الله هذه العطية فترة من الزمن، حتى هربت الشياطين منه فى خزي، وكفت عن محاربته إلى حين.

22. فى إحدى المرات كان باخوميوس بمفرده فى أحد الأماكن يجمع الأغصان، وبينما هو ساهر فى الصلاة كعادته، ظهر له ملاك الرب وقال له ثلاث مرات: "باخوميوس باخوميوس إن إرادة الله هى أن تخدم كل الجنس البشرى وتوحدهم فى الله." ولما ذهب عنه الملاك، أدرك باخوميوس أن هذا الأمر هو من قبل الله. وبعدما انتهى من جمع الأغصان رجع إلى موضعه.

23. حدث بتدبير من الله، أن اقبل إليه ثلاثة رجال هم : بسنتائيس، وسوروس، وبشاى وقالوا له: "نريد أن نصير رهبانا معك نخدم المسيح". فتجاوب فى الحديث معهم حتى يعرف منهم مدى تخليهم عن عائلاتهم وتبعيتهم للمسيح، ثم وضعهم بعد ذلك تحت الاختبار. فلما لمس فيهم صدق النية ألبسهم ثياب الرهبنة وقبلهم أخوة له، بفرح وحب إلهيين. فكرسوا أنفسهم لحياة النسك والتداريب الروحية.

ولما استقر بهم الحال، نظروا فوجدوا أن آبا باخوميوس يقوم بكل المهام فى الدير من زراعة وإعداد للطعام وفتح الباب لكل طارق، وخدمته لكل مريض حتى يعافى، بالإضافة إلى رعايته لرفقائه الثلاثة المبتدئين الذين لم يصلوا بعد إلى القامة التى بها كل منهم الآخر، وعلى ذلك لم يكلفهم بعمل ما، بل كان يردد على مسامعهم دائماً قول الكتاب: "جاهد جهاد الإيمان وامسك بالحياة الأبدية التى إليها دعيت."

لكن هذا الأمر سبب حزناً للأخوة، فقالوا له: "إننا فى حزن، يا أبانا، لأننا نراك هكذا تتعب فى كل أعمال الدير بمفردك، دون أن تشركنا معك." فقال لهم: "من هو الذى يرضى أن يضع النير على البقرة ويتعبها إلى الدرجة التى تجعلها تسقط وتموت؟ هكذا لو أن الله نظر ووجدنى متعباً فإنه حتماً سيرسل آخرين لكى يساعدونى."

ثم لم يلبث آبا باخوميوس أن رتب لهم طريقة المعيشة، حتى يسيروا على هداها، ونظم لهم بعض القوانين المستمدة أصولها من الكتاب المقدس وأساسها كله المساواة فى الأكل والملبس والنوم.

24. طار صيت باخوميوس وبلغت أخبار تقواه كل بلاد مصر. وكان هناك خمسة أخوة يعيشون عيشة النسك مجتهدين فى عمل الرب. ولما سمعوا عن تقوى باخوميوس وإيمانه، قرروا أن يأتوا ليعيشوا معه، ويسلكوا مسلكه، فلما رآهم فرح بهم وقبلهم عنده وكان هناك خمسون أخ يعيشون بالقرب من النهر فى مكان يدعى طاباكات سمعوا أيضاً عن آبا باخوميوس، فجاءوا إليه فقبلهم، ولكن حين اكتشف أن لديهم فكراً جسدياً طردهم ورفض إقامتهم معه.

على أن الله عمل فى الكثيرين، وقادهم ليأتوا إليه فكان يقبلهم، ويرشدهم ويبنى نفوسهم وفقاً للتعاليم الإلهية.

25. لما رأى باخوميوس أن أعداداً كبيرة قد جاءت لتعيش معه فى القرية بالقرب منه، أخذ الأخوة وذهب لكى يبنى لهم كنيسة يجتمعون فيها. وكان آبا باخوميوس يقوم على رعايتهم بنفسه خصوصاً وأنهم فقراء جداً. وكان يذهب مع الأخوة كل يوم أحد إلى الكنيسة، للتناول من الأسرار المقدسة، وكان يقوم بقراءة الرسائل والإنجيل لهم. وفى طريقه إلى القرية والعودة، كان حريصاً ألا ينظر وجه إمرأة، تنفيذاً لوصية الإنجيل: "من نظر إلى امرأة لكى يشتهيها فقد زنى بها فى قلبه."

وحينما بلغ عدد الأخوة مائة، قام ببناء كنيسة أخرى فى الدير، حتى يسبحوا الله فيها، هذا بالإضافة إلى ذهابه لكنيسة القرية يوم السبت ليحتفل معهم بالافخارستيا، بينما كان الكاهن يأتى إلى الدير ليقيم لهم القداس الإلهى كل يوم أحد صباحاً. وذلك لأنه لم يكن بين الأخوة قط من يحمل رتبة كهنوتية، لأنه لحكمة لم يشأ آبا باخوميوس أن يكون من بين تلاميذه كهنة، حتى يجنبهم الصراعات التى قد تنشأ بينهم وما يستتبع من حقد وغيرة، ومجد باطل. وكثيراً ما كان يحذرهم من هذا الأمر قائلاً: "إنه من الأفضل ألا نجرى وراء هذه الأمور، فى حياة الشركة التى نحياها، لئلا تكون سبباً للتقاتل، والغيرة والحسد، والانقسام، الذى قد ينشأ وسط الأعداد الكبيرة من الرهبان وهذا كله لا يتفق مع مشيئة الله. وكما أن اندلاع النار فى بناء كبير، قد يكون سببه شرارة صغيرة، هكذا أيضاً جهاد السنين قد يتبدد بسبب بداية أفكار العظمة فينا، لذلك فإن الأساس الذى تسلمناه من الآباء ونسير عليه هو أن من يقبل الأسقفية سوف يواجه آلاماً كثيرة.

وعندما كان أحد من الاكليروس يأتى لآبا باخوميوس لكى يجعله راهباً، فإنه لم يكن يقبله، إلا إذا تأكد من صدق نيته وخالص تقواه، وقد يجعله فى كرامة الكهنوت ولكن بشرط أن يخضع لجميع القوانين الخاصة بحياة الشركة.

26. لما زاد عدد الأخوة، واتسعت الخلية الرهبانية، قام آبا باخوميوس بتعيين بعض الأخوة القادرين كمساعدين له فى رعاية الأخوة وتدبير أمورهم لأجل خلاص نفوسهم، فعين أحدهم مسئولاً عن البت الأول ومساعداً له لكى يعد المائدة والطعام للأخوة، كما عين أخاً آخراً، تقياً جداً على بيت المرضى وكذلك مساعداً له لكى يهتم بالمرضى ويرعاهم وكان متى أراد أحد أن يزهد عن الطعام تنسكاً لم يكن هناك ما يعوق رغبته. كما خصص أيضاً أخاً مشهوداً له بكلامه المملح بالنعمة لكى يكون مسئولاً عن الباب، وذلك حتى يمكنه أن يقابل الزوار ويتحدث إليهم بلطف كل حسب قامته. كما كان هذا الأخ مسئولاً أيضاً عن الأخوة طالبى الرهبنة حتى تتم رهبنتهم. أما فيما يختص بالبيع والشراء واحتياجات الدير فقد عين آبا باخوميوس أخاً آخراً تقياً لذلك الغرض.

هذا على أنه فى كل بيت كان يتم تغير المسئول كل ثلاثة أسابيع ليحل محله آخر. وكان جميع الأخوة يسلكون بخوف ورعدة." وهكذا كان يوجد فى كل بيت من هو مسئول عن البيع والشراء وتدبير الخوص اللازم للعمل ومستعد لتنفيذ كل ما يطلب منه.

وفوق ذلك كله، نظم باخوميوس ثلاثة اجتماعات اسبوعية، لكى يعطى فيها الأخوة التوجيهات الروحية اللازمة لبناء أرواحهم، أحدهما يوم السبت والآخرين يوم الأحد. كما ترك حرية عقد اجتماعين آخرين يومى الأربعاء لرؤساء البيوت متى رغبوا فى ذلك حتى يعطوا توجهاتهم الخاصة للأخوة الذين يقودونهم.

27. كان لباخوميوس أخت تدعى مريم. وهى عذراء لم تعرف رجلاً، هذه لما سمعت عن أخيها، جاءت لرؤيته. فلما علم باخوميوس بخبر وصولها، أرسل لها مع الأخ المسئول عن الباب يقول لها: "يكفى أنك تعلمين إنني على قيد الحياة، فلا تتضايقي بسبب عدم رؤيتي أو مقابلتى، واعلمى أنكِ إذا رغبتِ الاشتراك معنا فى هذه الحياة، فإنكِ ستجدين نعمة أمام الله. وعلى أى حال اختبرى نفسك فى هذا الأمر، والأخوة مستعدون أن يبنوا لكِ مكاناً تعيشين فيه، وحتماً سيدعو الرب أخريات يعشن معكِ ويخلصن بسببك. وإذا كان الإنسان لن يخرج بشئ من هذه الحياة، فعليه إذن أن يعمل الصلاح استعداداً للحظة مفارقته هذا الجسد وذهابه إلى مكان الجعالة وفقاً لأعماله." فلما سمعت أخته هذا الكلام، من فم الأخ البواب بكت متأثرة وقبلت النصيحة ووافقت أن تعيش بقية عمرها تلك الحياة الملائكية. فلما وجد آبا باخوميوس أن قلبها قد مال للحياة الفضلى الصالحة أرسل للحال بعض الأخوة وبنوا لها ديراً فى قرية على مقربة من ديره، كما بنوا كنيسة صغيرة فى وسط الدير. ثم ما لبث أن سمع بخبرها كثيرات فجئن إليها، وعشن يمارسن معاً حياة النسك بجد واجتهاد. وعاشت أماً لهن، متقدمة ومسئولة عنهن جميعاً، حتى لحظة انتقالها.

ولما وجد آبا باخوميوس أن عدد العذارى فى ازدياد دائم عين لهن أحد الشيوخ، يدعى آبا بطرس مشهوداً له بكلام النعمة الخارج من فمه، حتى يقودهن فى طريق الفضيلة بحسب وصايا الإنجيل. كما كتب لهن أيضاً قوانين الشركة وأرسلها لآبا بطرس حتى يعلمهن إياها. أما فيما يختص بزيارتهن، متى أراد أحد من الأخوة أن يزور أختاً أو قريبة له، كان أنبا باخوم يرسله إلى آبا بطرس الذى كان يرسل بدوره إلى الأم فتستدعى تلك الأخت ومعها أخت أخرى تصاحبها أثناء الزيارة. فكانتا تجلسان مع الزائر بكل لياقة وحشمة، حتى تنتهى الزيارة فيختموها بالصلاة، ثم ترجعان ثانية إلى موضعهما.

أما بصدد نياحتهن وكيفية دفنهن فحين كانت تتنيح إحداهن، كانوا يحضرونها إلى الكنيسة بعد أن تلفها الأم بالأكفان اللائقة. وكان على آبا بطرس أن يخبر آبا باخوميوس، ليرسل إليها بعض الأخوة العارفين بطقوس الدفن، حتى يساعدوا آبا بطرس فى هذه المهمة. فكانوا يقفون فى حجرة الاجتماعات، يسبحون المزامير، بنفس حزينة حتى يتم إعداد المدفن ثم تحمل الأخت المنتقلة فى نعش وتدفن فى الجبل وكان على جميع الأخوات أن يتبعن النعش تتقدمهن الأم الرئيسة بينما يسير الأب خلفهن. وكان بعد الانتهاء من الدفن، يصلون جميعاً من أجلها ثم يرجعن جميعاً إلى قلاليهن وهن حزينات على فراقها لهن.

وكان أنه بعد انتقال الأب بطرس إلى الفردوس، اختار آبا باخوميوس أباً آخراً له نفس التقوى يدعى آبا تيطس ليكون مسئولاً عنهن وكان كل من يراه يتعجب من شدة تقواه وطهارته.

28. بعد أن اختار الله البابا أثناسيوس ليكون رئيساً للأساقفة، عزم أن يقوم بزيارة رعوية إلى كنائس طيبة وأسوان، يتفقد أحوال الرعية حتى يمنحها ثباتاً فى الإيمان وتعزية روحية. وكان عليه أن يمر فى طريقه على طبانيس حيث يوجد دير الأنبا باخوميوس ورهبانه ، فاستقبلوه بالتهليل والمزامير من مسافة كبيرة حتى وصلوا به إلى الدير. فصلى فى حجرة الاجتماعات كما بارك قلاليهم وصلى فيها. وعندما تقدم أسقف المدينة يسأله رسامة آبا باخوميوس كاهناً. فأجابه البابا: "بالحقيقة، لقد سمعت كثيراً عن آبا باخوميوس وعن سيرة تقواه وأنا فى الإسكندرية، وقد عرفت أخباره أيضاً منذ تنصيبى."

أما باخوميوس، فما إن اشتم رائحة خبر رسامته، حتى اختفى فجأة وسط زحام الأخوة. فلما علم البابا بذلك، قام وصلى، وقال لأبنائه: "عظيم هو أبوكم، قولوا له لقد هربت من ذاك الذى يقود للغيرة والحسد والتطاحن، فاختبأت عنا، لأنك اخترت لنفسك ما هو أفضل، وهو الاحتماء فى الرب يسوع. وبما أنك هربت من المجد الباطل والعظمة، فإنني أطلب من الله أن يحفظك من كليهما. وقولوا له إن الأمر الذى هربت لأجله لن يحدث، ولكننى أرجو إذا مررت ثانية أن تسمح محبتك بأن أرى وجهك."

ثم تركهم البابا ومضى فى طريقه نحو الجنوب، ومعه مجموعة من الأساقفة مودعاً بالمصابيح المنيرة والشموع، ومحبة أبنائه غير الموصوفة. ولما علم آبا باخوميوس أن البابا قد ذهب إلى طريقه، خرج من مخبأه وهو يشكر الله ويسبحه.

29. كان أحد الرهبان يسير فى طريقه آتياً من الشمال، ولما دنا منه الليل، مال ليبيت فى طبانيس فأمر آبا باخوميوس الأخوة أن يرحبوا به ويكرموا وفادته بكل محبة أخوية. وبعد الانتهاء من تناول الطعام مع الأخوة، جلس آبا باخوميوس وسط الأخوة يتحدث إليهم بكلمة الله، وكان ذاك الأخ جالساً أيضاً معهم، يسمع تفسير الإنجيل من فم آبا باخوميوس.

وكان أنه لما رجع هذا الأخ جنوباً إلى ديره فى إبروشية إسنا، اجتمع الأخوة فى المساء، وكان من عادتهم أن يسرد كل واحد منهم، ما تعلمه من الكتاب المقدس أو ما قد سمعه من أفواه الآخرين للمنفعة. وكان حاضراً معهم آنذاك، شاب صغير من عائلة غنية، يدعى تادرس جلس بينهم صامتاً، ينصت جيداً إلى كل ما يقال. فلما سرد كل واحد ما عنده، قام ذاك الأخ الذى جاء من الشمال وقال: اسمحوا لى أيها الأخوة أن أسرد لكم ما سمعته من فم رجل الله القديس آبا باخوم. لأنه حدث وأنا فى طريقى شمالاً إنى مررت على طبانيس وزرت القديس باخوميوس وبقيت هناك إلى المساء. وكان آبا باخوميوس جالساً والأخوة مجتمعون حوله، يحدثهم بكلام الله وكان موضوع حديثه، خيمة الاجتماع وقدس الأقداس. فشرح قائلاً: "إن ذلك يشير إلى نوعين من الناس، النوع الأول هو المشار إليهم بالقدس الخارجى وهم أولئك الذين كانت خدمتهم وعبادتهم هى تقديم الذبائح الحيوانية والقرابين المنظورة (أى اليهود) والثانى هو المشار إليه بقدس الأقداس وهم الذين بلغوا كمال الناموس وكل ما بداخله مملوء من المجد والبهاء قعوض الذبائح الحيوانية كان هناك مذبح البخور وعوض المذبح كان يوجد تابوت العهد، وبه خبز التقدمة. وبدلاً من المنارة التى تضئ كان هناك كرسى الرحمة، حيث يظهر الله كنار آكلة والحقيقة أن قدس الأقداس بجملته إنما يرمز إلى تجسد الله الكلمة حين ظهر فى الجسد من أجل غفران الخطايا، والمقصود بكرسى الرحمة هو مكان غفران الخطايا (أى الصليب) وهذا هو كمال الناموس."

فلما انتهى هذا الأخ من سرد التفسير الذى سمعه من فم آبا باخوميوس أردف قائلاً: "والحق إننى كلما تذكرت كلمات رجل الله القديس آبا باخوميوس، وبناءاً على كل ما قاله، فإننى أثق بالأكثر أن الله سوف يغفر لى كل خطاياى." فتعجب جميع الأخوة من هذه المعرفة العظيمة التى لدى القديس باخوميوس ولما حان وقت الانصراف، رجع كل واحد إلى قلايته. أما تادرس فقد تأثر جداً بما سمعه، وكأن ناراً قد اضطرمت فى قلبه نحو القديس باخوميوس، فاشتاق إلى رؤيته وسماعه، وفعلاً قام وذهب إلى قلاية ذاك الأخ وسأله عن آبا باخوميوس فأخبره بكل شئ عنه وكيف أنه يستقبل كل أحد ويعظه بكلام الله المفرح للنفس. فلما سمع تادرس هذه الكلمات، رجع إلى قلايته وصلى لله بدموع قائلاً: "أيها السيد الربإله القديسين، لتكن إرادتك فى أن تمنحنى أن أرى خادمك آبا باخوميوس." وظل هكذا يصلى طول الليل.

30. بتدبير من العناية الإلهية، أرسل آبا باخوميوس أحد رهبانه، وهو آبا باكوس إلى الجنوب، لقضاء بعض حاجات الأخوة. وفى طريق رحلته، دخل ليبيت فى ذلك الدير الذى يقيم به تادرس. عندئذ أخبر ذلك الأخ (الذى حكى عن القديس باخوميوس) تادرس بمجئ آبا باكوس وأنه من دير القديس باخوم. فللحال طلب تادرس من آبا باكوس أن يأخذه معه لكى يلتقى بالقديس باخوميوس. ولكن لما علم آبا باكوس أن تادرس من أسرة غنية من مدينة إسنا، وأنه صغير السن، رفض طلبه قائلاً: "إننى لا أستطيع أن آخذك معى بسبب والديك." لكن تادرس عقد النية ووطد العزم، وأضمر فى قلبه أن يقابل آبا باخوميوس بأية وسيلة. فكان انه حينما تركه آبا باكوس، وغادر الدير، سار هو أيضاً فى أثره، حتى وصل إلى الشاطئ حيث المكان الذى أقلعت منه المركب التى تقل آبا باكوس وبعض الأخوة، فلما رأوه قالوا لآبا باكوس: "أنظر أن الأخ الذى رفضت أن تأخذه معك، ها قد حضر إلى هنا، وهو قد سار طول اليوم حتى وصل إلى الشاطئ." عندئذ رجعت المركب إلى الشاطئ وأخذوه معهم. ولما وصلوا إلى طبانيس، قدمه آبا باكوس إلى أبينا باخوميوس. وحالما تعرف عليه تادرس، راح يقبل يدى القديس ورجليه كما قبل أبواب الدير، ثم أدار وجهه، وبكى قائلاً: "مبارك أنت أيها الرب لأنك استمعت إلى صراخى واستجبتنى."

أما باخوميوس، فلما رآه يبكى هكذا، قال له: "لا تبك يا ابنى لأننى لست إلا خادماً لله أبيك." وفى الحقيقة كان ذلك بترتيب إلهى حتى يصير تلميذاً لباخوميوس وبعد أن قدمه الأب لكل من فى الدير، عاش تادرس بينهم مقتدياً بسيرتهم الصالحة، ومشابهاً لهم فى اقتناء الفضائل. وقد وضع فى قلبه أن يحفظ هذه الأمور الثلاثة: طهارة القلب، والكلام المملح بالنعمة، والطاعة غير المتقمقمة حتى الموت.

31. ولد تادرس من أسرة غنية، وكانت أمه تحبه جداً. ولما بلغ سن الثامنة، أرسلوه للمدرسة ليتعلم القراءة والكتابة. وحينما أكمل من عمره اثنى عشر عاماً بدأ يمارس حياة التقشف، فلم يكن يأكل أكثر مما يأكله الراهب عادة وكذلك كان يصوم كل يوم حتى المساء وأحياناً يأكل كل يومين.

وقد حدث فى أحد الأيام، أثناء الاحتفال بعيد الظهور الإلهى وبعد أن عاد من المدرسة، وجد العائلة تحتفل بهذا العيد احتفالاً عظيماً، وهم قد اعدوا لذلك أصنافاً متعددة من الطعام والشراب. ولكنه أحس فى قلبه بشعور قوى نحو العزوف عن الأكل من تلك الأطعمة، وكأن صوتاً يقول له: "إذا استسلمت لهذه الأطعمة والخمر فإنك لن ترى ملكوت الله." فقام لوقته وذهب إلى حجرة منعزلة من البيت، وصلى بدموع قائلاً: "أيها السيد الرب يسوع المسيح، يا من أنت وحدك تعلم، إننى لست أريد شيئاً من هذا العالم سواك. إننى أطلب أن تدركنى مراحمك سريعاً."

ولما علمت أمه، أنه قد رجع من المدرسة ومع ذلك لم تره، قامت سريعاً تبحث عنه فوجدته منفرداً فى ذلك المكان، واقفاً يصلى وقد امتلأت عيناه بالدموع. فسألته عمن ضايقه أو أغضبه، حتى تؤنبه أو تعاقبه، وطلبت منه أن يقوم ليأكل معهم حيث اليوم عيد والكل ينتظره منذ الصباح الباكر. فقال لها: "اذهبوا وكلوا أنتم لأننى لن آكل الآن. فذهبوا. أما هو، فقد استمر فى الصلاة حتى الصباح دون أن يأكل أو يشرب شيئاً.

وما أن لاح الصباح حتى قام وذهب إلى أحد الأديرة بمنطقة إسنا، وهناك ظل يمارس حياة التقوى مع بعض الشيوخ الرهبان. وكان عمره حينئذ أربعة عشر عاماً. وعاش هناك باتضاع عظيم، يجاهد فى حياة الفضيلة لمدة ست سنوات، حتى ذهب مع آبا باكوس إلى القديس باخوميوس وكان قد أكمل من العمر وقتئذ عشرين ربيعاً وصار تلميذاً له بإرشاد العناية الإلهية التى لا تنسى أولئك الذين يطلبون اللهمن كل قلوبهم.

32. لما وصل تادرس إلى طبانيس، واستقبله آبا باخوميوس بفرح، لأنه رأى محبته الفائقة نحو الله. واستمر فى ممارسة حياة النسك من صوم وسهر، سالكاً بتواضع نحو كل أخ لكى يقتنى روح البذل. وبالرغم من حداثة سنه إلا أنه كان سبباً فى قيام كثير من الساقطين. ولما رأى آبا باخوميوس تقدمه فى الفضيلة، وأن كثيراً من الأخوة بدأوا يثقون فيه، فرح جداً، وأيقن أنه سالك فى طريق الفضيلة باستقامة، لأن الله دائماً يعلن عن خاصته.

وهكذا كان تادرس ينمو فى كل الفضائل، وهو قد أحب بشجاعة طريق الحياة وكان مستعداً دائماً لتنفيذ جميع إرشادات آبا باخوميوس وتوجهاته. ولما رأى الأخوة أن تادرس يتقدم فى حياته، مثل صموئيل النبى بدأ كثيرون منهم يسلكون مثله ويتشبهون به، وكان آبا باخوميوس كلما سأله أحد كلمة تعزية أو منفعة يقول له: "اذهب وخذ عزائك من تادرس فى كل تجاربك وحروبك." فكان كل من يذهب إليه من الأخوة يتعزى وينتفع كثيراً ، حتى أطلقوا عليه لقب: "معزى الأخوة." فقد كان بكلامه المملوء نعمة يريح كل من يأتى إليه، وكثيراً ما كان يصلى معه حتى تنتهى تجاربه.

33. لم تمض ستة شهور على وجود تادرس بالدير، حتى جاء إلى آبا باخوميوس باكياً، فتعجب الأب لرؤيته مثل هذه الدموع رغم حداثة سنه، وسأله: "لماذا تبكى؟" فأجاب: "أريد منك يا أبى أن توضح لى كيف يمكننى أن أعاين الله؟ لأنه إن لم يكن لى نصيب فى معاينة الله، فما الفائدة من وجودى فى هذا العالم؟" فسأله آبا باخوميوس: "وأين تريد أن تعاين الله، هل فى هذا العالم أم فى العالم الآتى؟" فأجاب: "فى العالم الآتى." فقال له: "إذا أردت أن تعاين الله فاجتهد أن تثمر ثمار الإنجيل لأنه مكتوب "طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله." فعندما يرد على عقلك أية أفكار شريرة، مثل أفكار الكراهية أو الشر أو الغيرة أو الحسد أو الغيرة أو الحسد أو احتقار أحد الأخوة، أو أفكار المجد الباطل، فللحال قل لنفسك إننى لو قبلت أية واحدة من هذه الأفكار فإننى لن أعاين الله." فلما سمع تادرس هذا الكلام، وضع فى قلبه أن يسلك باتضاع ونقاوة، حتى يحقق الله شهوة قلبه ويكون له نصيب أن يعاين الله فى الدهر الآتى بل ويحيا معه.

34. حدث فى خلال العام الأول لوصول تادرس، بينما كان جالساً فى قلايته، يجدل الحبال، ويردد ما يحفظه من كلام الله، ويصلى كلما حثه قلبه على الصلاة، إذ بنور بهي يملأ القلاية، وملاكان يظهران له فى شكل رجلين متألقين جداً. فاضطرب تادرس، وأسرع هاربا خارج القلاية، متسلقا سطحها. وهو لم يكن قد رأى رؤى من قبل. ولكن الملاكين ظهرا له ثانية وهو على السطح، لكي يطمئناه ويبددا عنه الخوف. وقال أحد الملاكين: "مد يدك." فمدها، فوضع الملاك فى يده مجموعه من المفاتيح، فأخذها وأمسك بها. وفيما هو مندهش لذلك إذ بالملاكين يختفيان. ولما نظر إلى يديه، لم يجد المفاتيح. وبالرغم من حقيقة هذه الرؤيا إلا أن تادرس لم يجرؤ على أن يخبر آبا باخوميوس بها. إذ كثيراً ما سمع آبا باخوميوس وهو يقول: "إن المفاتيح قد أعطيت لى فى الخفاء." وكلما تذكر تادرس تلك الرؤيا كان يلوم نفسه قائلا: "من أنا الخاطئ حتى أكون مساويا لرجل الله. إن الأمر الوحيد الذى ينبغي أن يشغل فكري هو كيف أسلك باتضاع كل أيام حياتي، لأن هذه هى مشيئة الله الحقيقية."

35. أثناء الصوم الكبير، ذهب تادرس إلى آبا باخوميوس وسأله: "مادام مدة أسبوع البصخة هى ستة أيام فقط، وفيها يكمل خلاصنا بغفران خطايانا، فلماذا لا نصوم طياً الأربعة أيام الأولي معا، ثم اليومين الآخرين معاً. أجاب آبا باخوميوس أن قوانين الكنيسة قد أقرت أن نطوى الجمعة العظيمة وسبت النور فقط.وذلك حتى لا تخور قوانا ويصبح من العسير علينا أن نكمل الوصايا الأخرى، مثل السهر الدائم والصلاة كل حين، وقراءة الكتاب المقدس والقيام بالعمل اليدوي المطلوب حتى يمكننا أن نعطى الفقراء والمحتاجين والأمور التى هى مطلوبة من أولئك الذين لا يحيون فى الوحدة الكاملة. أما الذين يسلكون هكذا، فإنهم كثيراً ما يسقطون فى المجد الباطل، أو تخور قواهم، أو ينتفخون ويصير كل تعبهم باطلاً".

36. ذهب تادرس فى إحدى المرات يستشير آبا باخوميوس: "ماذا أصنع تجاه الصداع الذى ينتابني كثيراً؟" فأجابه: "إن إنسان الله يجب أن يحتمل المرض الموجود فى جسده عشرة سنوات، قبل أن يبوح به لأحد. ما عدا ذلك المرض الذى لا يمكن إخفاؤه." فلما سمع تادرس ذلك، عزم أن يحتمل كل شئ بشكر من أجل الصليب الذى أحبه.

37. حدث بعد أن حضرت أم تادرس إلى الدير، ومعها خطابا من أسقف إسنا إلى آبا باخوميوس حتى يسمح لها برؤية ابنها، إذ قد عرفت أنه غير مسموح للأخوة أن يتقابلوا مع أقاربهم. فلما جاءت مع ابنها الآخر بفنوتيوس، سلمت الخطاب إلى البواب، الذى أوصله بدوره إلى آبا باخوميوس. عندئذ أرسل الأب وأستدعى تادرس وسأله قائلا: "إن أمك وأخاك على الباب، فهل تذهب لمقابلتهما، حتى تريح قلب والدتك، وأيضا لأجل خطاب أبيا الأسقف؟" فأجاب تادرس: "إن أنا ذهبت للقائهما، ألا أصير مخطئا أمام الرب الذى أعطانا الوصية أن نحبه أكثر من أقاربنا؟ فإن كانت مقابلتي لهما ليس فيها كسر للوصية، فأنا مستعد أن أذهب، أما إن كان فيها كسر، فإنني لن أذهب ولو تسبب ذلك فى موتها كما فعل بنو لاوي، حينما أطاعوا موسى النبي وقتلوا اخوتهم وذويهم الذين سجدوا للأصنام. وعلى ذلك فإنني لن أخطئ إلى الله خالقي من أجل عاطفة جسدية نحو أقاربي." حينئذ أجابه آبا باخوميوس: "إن كنت أنت عازما فى قلبك أن تطيع وصية الإنجيل فهل أدفعك أنا إلى كسرها؟ إنني لا أشجعك على ذلك. والحقيقة حينما أخبروني أن والدتك تقف على الباب تبكي، خشيت أن تسمع أنت بذلك فتتألم، وأما من جهتي، فإن قرة عيني أن أراك مكملا الوصايا الإلهية كل أيام حياتك. وبخصوص الأسقف الذى كتب لنا الخطاب، فعندما يعلم أنك رفضت لقاءها، لن يغضب منك، بل على العكس، سوف يفرح لعزيمتك وقوة إرادتك، لأن الأساقفة هم آباؤنا الذين يحفزوننا دائما أن نثبت فى تنفيذ وصايا الإنجيل."

هذا وقد أعطي آبا باخوميوس أمراً بضرورة الاهتمام بأم تادرس وأخيه، وأن يكرموا وفادتهما فى مكان خاص يليق بهما. وبعد مضى ثلاثة أيام، أيقنت أم تادرس أن ابنها لن يحضر للقائها، فبكت بغزارة حتى إن كثيرين رثوا لحالها، وأخبروها أن ابنها تادرس سوف يمر مع آخرين باكراً، أثناء ذهابهم إلى العمل، وأشاروا عليها أن تصعد على السطح حتى تراه، وفعلاً نفذت المشورة، وانتظرت على السطح حتى رأته من بعيد مع آخرين.

38. لما رأى بفنوتيوس أخاه تادرس من بعيد، جرى نحوه وهو يبكي قائلاً: "أنا أيضا أريد أن أصير راهباً مثلك." وقد كان أصغر من تادرس. فعاش فى الدير، ولكن تادرس لم يكن يتحدث معه قط ولم يكن يعامله كأخ له. فكان بفنوتيوس يحزن ويكتئب لهذه المعاملة. ولما علم آبا باخوميوس أن تادرس يعامل أخاه بهذه القسوة استدعاه وقال له على انفراد: "ياتادرس، ألا تعلم أنه ينبغي أن تكون حنونا على الأخوة المبتدئين، لأنهم مثل الغروس الجدد، كما تولى النبتة الصغيرة اهتماماً خاصاً وتتعهدها بالري والعناية حتى تقوى جذورها وتثبت، هكذا أيضا يجب أن تسلك مع كل أخ مبتدئ."

وبعد أن أوصاه هكذا. أرسل واستدعى شقيق تادرس وسامه راهباً، فعاش فى حياة النسك كبقية الأخوة. أما بخصوص الأم فقد رجعت من حيث أتت، وهى حزينة جداً تبكى بشدة، ليس فقط من أجل عدم لقاء تادرس لها، بل وأيضا من أجل بقاء بفنوتيوس فى الدير للرهبنة.

39. حدث مرة، أن كان الدقيق على وشك أن يفرغ من الدير، ويصبح الاحتياج شديدا إلى الخبز، فحزن الأخوة جدا لهذا الأمر. لكن آبا باخوميوس عزاهم قائلا: "إنني أثق أن ربنا يسوع المسيح لن يتركنا، وعلى أى حال توجد هناك سجادتان كبيرتان ذو قيمة كبيرة، كان قد أحضرهما أحد المحبين، يمكننا أن نبيعهما ونشترى بثمنهما قمحاً." وذهب آبا باخوميوس وقضى تلك الليلة كلها ساهراً فى الصلاة، يشكر الله من أجل رعايته ومحبته للبشر. وما هى إلا ساعات حتى جاء أحد الحكام يقرع باب الدير، قائلا للبواب: "أخبر آبا باخوميوس أنه توجد كمية من الدقيق، نذر على، حضرت لأوفيه من أجل خلاص نفسي وخلاص عائلتي أيضا. لأنني أمرت فى رؤيا أن أحضر هذا الدقيق إليكم، لأنكم محتاجون إليه. والآن أخبره بأن يرسل بعض الأخوة لكى يفرغوا الدقيق من المركب. وارجوا أن تذكروني فى صلواتكم." فلما علم آبا باخوميوس بذلك تعجب جداً من محبة الله وقال للرجل: "حقيقة نحن محتاجون للدقيق، ولكننا لا بد أن ندفع ثمنه، وكل الذى نرجوه منك أن ترجئ السداد قليلاً، حتى نستطيع بنعمة الله، أن نوفيك الدين." فأجاب الرجل: "أنا لم أحضر هذا الدقيق إلى هنا لكى تشتريه، ولكن من أجل خلاص نفسي، وأيضا لأنكم رجال الله القديسون وأنا محتاج لصلواتكم." عندئذ أفرغ الدقيق بمساعدة بعض الأخوة. فأعطاه آبا باخوميوس بعضا من الخضروات وبعضا من الخبز، وبركة من الدير فقبلهم الرجل بإيمان. وأخيراً باركه الأب وودعه بسلام، فذهب من عنده وهو مملوء غبطة وسعادة.

ثم جلس آبا باخوميوس مع الأخوة يحدثهم عن هبات الله وخيراته التى يمنحها فى حينها. وقد تعجب الأخوة من عمل الله معهم، إذ أرسل لهم هكذا سريعاً ما يحتاجونه من المؤونة والزاد، بفضل إيمان خادمه القديس باخوميوس.

40. كان هناك أحد الآباء المعترفين يدعى ديونسيوس، كاهنا لمنطقة نيتانتورى، يخاف الله، وصديقاً روحياً لآبا باخوميوس. ولما علم أن آبا باخوميوس لا يسمح للرهبان الضيوف أن يقيموا داخل الدير، بل فى منزل بجوار بوابة الدير، حزن جداً وجاء إلى دير طبانيس، ليعاتب آبا باخوميوس على ذلك. فشرح الأب له الأمر قائلا: "هل تظن يا آبا ديونسيوس أننى أريد أن أحزن أحداً؟ أنني عالم جيداً، أننى لو أحزنت أحداً فإنني سأحزن الرب ذاته الذى قال: بما أنكم فعلتموه بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغر فبي قد فعلتم. ولكنك كما تعلم أن هناك أصنافاً كثيرة من الأخوة داخل الشركة، مثل الشيوخ، والشباب، والمبتدئين. لذلك فإن الذين يحضرون كضيوف، فى وقت صلاة المجمع، نجعلهم يقيمون فى مكان بعيد خاص بهم، حتى يمكنهم أن يتناولوا طعامهم وأيضا نجعلهم يقيمون خارجاً،حتى لا يعثروا متى نظروا بعض الأخوة المبتدئين فى النسك يأكلون قبل الوقت على غير عادة الرهبان، وقد فعلت ذلك تشبها بما فعله إبراهيم حين استضاف الرب ومن معه تحت الشجرة، خارج الخيمة."

فلما سمع آبا ديونسيوس ذلك، استراح جداً واطمأن قلبه من جهة هذا الأمر.

41. كانت هناك امرأة، وزوجة لحاكم منطقة نيتانتورى، تعاني من نزيف دم لمدة طويلة. هذه لما علمت أن آبا ديونسيوس ذاهب إلى آبا باخوميوس، قالت له: "أنا أعلم أن رجل الله القديس باخوميوس، هو صديق لك، فأرجو أن تأخذني معك إليه حتى أراه، لأنني واثقة أننى لو رأيته فقط، فإن الله سوف يمنحني الشفاء." فوافق أن يأخذها معه لا سيما وأنه عالم بالألم الذى تعانيه من جراء هذا الداء.

وبعد أن ذهب آبا ديونسيوس وتحدث مع آبا باخوميوس بخصوص أقامه الرهبان الضيوف خارج الدير طلب إليه قائلا: "إننى أطلب إليك أن تحضر معي، إلى قرب الدير." فقام وذهب معه، وفى الطريق ظلا يتحادثان، ولما جلسا ليكملا الحديث، جاءت المرأة من وراء القديس باخوميوس ولمست ثوبه بإيمان، وفعلا تم لها الشفاء وشفيت من دائها. ولكن آبا باخوميوس لما علم بذلك حزن جداً حتى الموت، لأنه كان دائما يهرب من المجد الباطل.

42. بالقرب من دير طبانيس، ميلين نحو الجنوب ، كان هناك دير، وكان أب ذاك الدير يحب آبا باخوميوس جداً، حتى أنه كان يأتى إلى حيث يقيم رجل الله ليسمع منه التعاليم الإلهية، ثم بعود إلى ديره ليرويها إلى رهبانه، فيزرع فيهم خوف الله ويحفزهم لتنفيذ وصاياه.

وحدث أن طلب أحد الرهبان مركزاً رئاسياً فى الدير، فرفض أب الدير قائلاً له: "إن آبا باخوميوس، أفاد بأنك لا تستحق ذلك." فاستشاط هذا الأخ غضباً، وجذب أب الدير بشدة قائلاً له: "هيا نذهب إلى آبا باخوميوس، حتى أتأكد من صدق قولك ". فتبعه أب الدير وهو قلق مضطرباً متوقعاً ما لا تحمد عقباه. ولما وصل الاثنان ومعهما أخ ثالث إلى طبانيس وجدوا آبا باخوميوس مشغولاً فى بناء حائط بالدير. فصاح فيه هذا الأخ وهو مملوء غضباً وقال له: "انزل وتعال اعطني إثباتاً على خطيتى، أيها الكاذب". أما القديس باخوميوس، فقد شكره محتملاً إياه، ولم يجبه بكلمة. فاستمر الأخ فى توبيخه للشيخ قائلاً له: "ما الذى دفعك على الكذب، يا من تتفاخر بالرؤى، بينما أنت تحيا فى الظلام". عندئذ فهم رجل الله حيل الشيطان وكيف أنه خدع هذا الأخ. فرد عليه قائلاً: "اغفر لى، فقد أخطأت إليك، لم تخطئ أنت إطلاقاً؟" حينئذ هدأت ثورة الأخ وسكن غضبه ثم انتحى آبا باخوميوس بأب الدير جانباً وسأله عما حدث مع هذا الأخ فقال له أب الدير:"اغفر لى يا أبى إن هذا الأخ طلب أمراً لا يستحقه، ولما علمت أنه لن يطيعنى، فقلت له، إن آبا باخوميوس هو الذى أشار بذلك، وذلك حتى يذعن للأمر. وأنا أعلم أنه لا يخفى عليك شئ، وهو قد أضاف إلى خطيته حماقة." فقال له آبا باخوميوس: "اسمع لى، واعطه المركز الرئاسى الذى طلبه، حتى نستطيع أن نخلصه من أيدى الأعداء، لأننا فى صنعنا الخير مع الإنسان الشرير، فلا شك أنه سيسلك فى الخير، وهذه هى المحبة الإلهية أن نحتمل بعضنا بعضاً فى محبة."

فلما رجعوا للدير، أعطى أب الدير، ما يرغب فيه ذلك الأخ، وفقاً لمشورة آبا باخوميوس. وما هى إلا أيام قليلة حتى حضر ذلك الأخ إلى آبا باخوميوس، يعتذر عما بدر منه، مقبلاً يديه ورجليه قائلاً له: "بالحق أنت رجل الله، وأنك أعظم بكثير مما سمعناه عنك والله وحده يعلم أنك لو لم تطيل أناتك واحتملتني، حينما أسأت إليك، لتركت طريق الرهبنة ورجعت للعالم. ولكن طوباك يا أبى، يا رجل الله. وإنى أشكر محبتك وعطفك، إذ أحيانى الرب على يديك."

        43. فى أحد الأيام أحضر أحد الأشخاص بنته لآبا باخوميوس لكى يصل عليها فتشفى من أمراضها العديدة التى انتابتها بسبب أحد الأرواح الشريرة. فلما أعلم البواب آبا باخوميوس بذلك أرسل إلى الرجل قائلا: "أحضر لى قطعة من ملابسها لم ترتديها منذ غسيلها." فأرسل له أبوها قطعة من ملابسها نظيفة تماما فلما رآها آبا باخوميوس أعادها إليه مع هذه الكلمات: "إن قطعة الملابس هى لها حقيقة، وأن ما أصابها كان بسبب أنها لم تحفظ فضيلة الطهارة، والآن دعها تنذر طهارتها من جديد للرب وأنا أثق أن الرب سيشفيها." فلما سمع أبوها ذلك، اضطرب جداً، وعندما سألها على انفراد، اعترفت بما اقترفته، ووعدت أن تحيا فى الطهارة طيلة أيام حياتها. عندئذ  صلى آبا باخوميوس على قليل من الزيت وأرسله إليها فلما دهنت به بإيمان شفيت للحال باسم الرب.

        44. ما أكثر المعجزات التى عملها الله على يد باخوميوس. ولكن مع ذلك عندما كان يصلى لطلب الشفاء، ولا يستجب الله فإنه ما كان يتألم قط، بل كان يصلى دائما ويقول: "يارب لتكن مشيئتك."

        45. جلس مرة، يتحدث إلى الأخوة، فقال لهم: "لا تظنوا أن الشفاء الحقيقي هو للجسد، بل للروح. فمثلا الإنسان الذى يعبد الأصنام، هو أعمى الفكر، ومتى عرف الله ورجع إليه يكون بذلك قد شفى واسترد نعمة البصر وخلصت نفسه. والإنسان الذى لا يتكلم الحق، هو أخرس، ومتى نطق لسانه بالصدق يكون بذلك قد شفى وانفكت عقدة لسانه. وكذلك من لا يسلك بحسب وصايا الرب هو ذو يد يابسة، ومتى صنع الخير، فذاك قد شفى وعادت يده صحيحة وأيضا متى كان هناك إنسان يسلك فى الزنا والنجاسة، وقادة آخر إلى حياة الطهارة، يكون بذلك قد أقام ميتا من قبر خطيته."

46. حدث مرة ، أنه بعد أن قام باخوميوس بجمع الخضروات مع الاخوة ، أنه رجع وهو متعب جداً، ورقد طريح الفراش، فأخذ تادرس غطاءاً جيداً من الصوف، وألقاه عليه، عندئذ انتهره الشيخ قائلاً: "خذ عنى هذه، وضع فوقى غطاءاً عادياً مثل كل الاخوة حتى يمن الله علىَّ بالشفاء." ففعل تادرس كما أمره ثم بعد ذلك أعطاه تادرس حفنة من البلح لكى يأكل، لأنه لم يكن قد أكل شيئاً من قبل، فرفض أن يأكل البلح، ووبخه فى حزن قائلاً: "يا تادرس هل لأننا ندبر الأخوة، ونقودهم، يصير لنا الحق فى أن نعطى أنفسنا هذه الملذات؟ أين إذن خوف الله؟ وهل أنت افتقدت جميع الاخوة لتعرف ما يحتاجه المرضى منهم والمحتاجون؟ ألا تعرف مقدار الخطأ الذى ارتكبته، بتقديمك لى هذه الأشياء؟ أليس مكتوب: "وتخبر السموات بعدله لأن الله هو الديان." أى أن الله ينظر كل شئ ويحكم بعدل." وهكذا ظل آبا باخوميوس طريح الفراش مريضاً، لم يتناول شيئاً لمدة يومين، ولما كان قلبه يحثه على الصلاة، لفرط محبته لله، كان يقوم ويصلى، وفى ثالث يوم شفى تماماً وقام معافى. فذهب وأكل مع الأخوة.

47. ودفعة أخرى مرض آبا باخوميوس، لدرجة الموت. فنقلوه إلى حيث يقيم الأخوة المرضى، حتى يمكنه أن يأكل بعض الخضروات. وكان هناك أحد الأخوة، يرقد مريضاً، ولشدة مرضه كان جسده ضعيفاً حتى صار وكأنه هيكل عظمى. فطلب هذا الأخ من الأخوة القائمين على خدمة المرضى أن يعطوه لحماً ليأكله. لكنهم رفضوا قائلين: "ليس لنا عادة أن نقدم هنا لحماً قط." عندئذ طلب إليهم أن يأخذوه إلى آبا باخوميوس، ففعلوا. فلما رأى آبا باخوميوس أن جسده ضعيف هكذا، تعجب جداً، وقال للأخوة المسئولين عن المرضى: "أنتم يا من تهتمون بالمرضى، ألا تخشوا الله؟ ألم تسمعوا الوصية القائلة تحب قريبك مثل نفسك؟ ألا ترون أن هذا الأخ قد أصبح جثة هامدة؟ لماذا إذن لم تعطوه ما طلبه؟ الله يعلم أنه إن لم تنفذوا طلبه، فإنى لن آكل ولن أشرب شيئاً. ألم تقدروا أن تميزوا بين المريض وغير المريض؟ أليس مكتوباً: كل شئ طاهر للطاهرين". ولما قال هذا، بكى آبا باخوميوس وقال: "لو أن الرب يسوع كان يعيش بيننا فى هذا الدير، لما رفض طلب هذا الأخ ولما تركه هكذا فى محنة المرض."

فلما سمعوا هذه الكلمات من الشيخ، أسرعوا بتكليف أحد الأخوة ليشترى جدياً صغيراً ويطبخه. وعندئذ قدموا منه لهذا الأخ، ثم قدموا لآبا باخوميوس بعضاً من الخضروات المطبوخة كبقية الأخوة، فأكل وشكر الله.

        48. لما تزايد الأخوة، فى دير طبانيس، وأصبح لا يتسع للأعداد الوفيرة، بدأ آبا باخوميوس يطلب إلى الرب من أجل هذا الأمر. فأعلم فى رؤيا أن يذهب شمالا إلى إحدى القرى المهجورة، أسفل النهر وتدعى فابو، ويؤسس هناك ديراً. وأعلمه الله أن هذا الدير سيصير مركزاً لأديرة الشركة، وستزيد سمعته من خلال هذا الدير. فقام الأب وأخذ معه بعض الأخوة وذهب إلى تلك القرية، وقضوا هناك أياما حتى بنوا حائط الدير، ثم بني مكانا للصلاة بموافقة أسقف ديوسبوليس، ثم بني البيوت التابعة له. وقام بتعيين المسئول عن كل بيت، ونائباً له، وفقا لقوانين الدير الأول. وأصبح آبا باخوميوس مسئولا عن الديرين، يهتم بهما ويسهر على رعايتهما، معتنياً بهما الليل مع النهار، كخادم أمين لله.

        49. حدث بعد ذلك، أن أرسل آبا آمون، وهو شيخ وأب لجماعة فى صانسيت، رسالة إلى آبا باخوميوس يقول له فيها: "أود أن يكون الدير الذى أتشرف بمسئوليته، تحت قيادتكم ليصير ضمن أديرة الشركة التى تقوم بخدمتها، كما أريد أن تعرفنا بقوانين الشركة التى صاغتها لك السماء." فاستجاب آبا باخوميوس لطلبه، وذهب إلى هناك مع بعض الأخوة، فنظم لهم البيوت، وعين لكل منها مسئولا ونائبا عنه، وكان يتردد لزيارتهم كثيراً، يشجعهم ويقوى همتهم، بما يتفق مع التعاليم الإلهية، وقانونية جهاد القديسين.

        50. كان هناك أب لجماعة فى طومسون يدعى يؤنس. هذا أرسل لآبا باخوميوس، يطلب مقابلته فلما حضر مع بعض الأخوة، استقبله بفرح وقال له: "إن رائحة القداسة قد فاحت وانتشرت، لذلك نود أن تكون لنا شركة فى عبير القداسة هذه." فقبل آبا باخوميوس أن يكون هذا الدير ضمن أديرة الشركة، فنظمه لهم وفقاً للقوانين المعمول بها فى الأديرة الأخرى. وكان آبا باخوميوس يفتقدهم كثيراً لاسيما لتدبير أمورهم الروحية والجسدية.

ثم لم يلبث بعد ذلك أن ضم الدير الذى كان يقطنه حين كان علمانيا وقبل رهبنته ويدعى دير باسترسون، وبدأ يعتني به، لا سيما أشجار النخيل الموجودة هناك، وهكذا أصبح واحداً من أديرة الشركة. 

        51. بعد ذلك ظهرت له رؤيا تقول له: "عليك أن تنظم جماعة للشركة فى تيكاسمين لتجمع لى شعبا هناك. فقام للحال وأخذ معه لفيفاً من الأخوة، وهناك بني الدير والقلالي، وعين لهم المسئولين عن البيوت ووكلاءهم. ورتب لهم كل أمورهم واحتياجاتهم بحسب قوانين الشركة المعمول بها فى بقية الأديرة. وكان آبا باسو هو المسئول عنهم جميعا. وكان آبا باخوميوس يحضر لزيارتهم، حتى يدبر حاجتهم ويرشدهم وفقا لكلمة الله. 

        52. حدث أن أحد الحكام الأتقياء، فى مدينة قوص، أرسل قاربا كان يمتلكه، مملوءاً قمحاً، ومعه رسالة إلى آبا باخوميوس يقول له فيها: "لقد سمعت عن عظم محبتك، وتقواك، كما سمعت أيضا عن كثرة تنقلاتك شمالا وجنوبا لافتقاد أولادك. لذلك فأنني أرسل لك يا سيدي، هذا القارب، لكى تستلم الشحنه التى عليه، لأجل احتياجات الأخوة، وأيضا لكي تستخدم القارب فى زيارتك للأديرة، ويبقى عندك دائما. وأرجو أن تصلى لأجلي حتى يتراءف علي الملك السمائي ويرحمني. علما بأنني لست أنا الذى قدمته، بل ذاك الذى تخدمه أنت وكل جماعتك."  

53. فى يوم آخر، أرسل له أسقف مدينة سمين، وهو شيخ ناسك إلى آبا باخوميوس رسالة تقول: "أتوسل إليك أن تأتى إلى، لتنظم لى ديراً فى المنطقة، فتحل بركة الرب فى المكان بسببك." فقام آبا باخوميوس ومعه بعض الأخوة والشيوخ وأبحروا شمالا، حتى وصلوا إلى ذلك الأسقف، ففرح بهم وعين لهم المكان وأعطاهم مركباً أخرا تقدمة لهم، لكي يستعملونه فى وقت الحاجة. فبدأوا جميعا فى بناء الدير، وكان آبا باخوميوس يحمل الطين على ظهره، كبقية الأخوة دون تمييز. ولكن حدث أثناء ذلك، أن قام بعض الرجال الأشرار، بدافع من الغيرة والحسد لكى يهدموا بالليل ما يكون قد بناه الأخوة فى النهار. لكن الله ألهم آبا باخوميوس الصبر وطول الأناة، وأخبره فى رؤيا أن ملاكا سيحرس الدير، ويمنع الأشرار من المضي فى هدفهم. وفعلا استمر فى العمل حتى أكمل بناء الدير، ثم عين المسئولين عن البيوت ووكلاءهم.

54. حضر مرة بعض الفلاسفة إلى الموضع الذى يقيم به آبا باخوميوس لكى يمتحنوا أقواله، فأرسلوا إليه يطلبون مقابلته.

فأدرك رجل الله الشباك التى نصبها له الشيطان عن طريقهم فأرسل واستدعي كرنليوس (أحد تلاميذه)، وقال له: "أذهب وجاوب هؤلاء الرجال عديمي الحس الذين لا يفكرون إلا فى الجسديات، بما يضعه الله فى قلبك."

فذهب إليهم كرنيليوس مع اثنين من الأخوة. فلما رأوهم الفلاسفة سألوهم: "أين أبوكم؟" أجابهم كرنيليوس بلطف: "ماذا تريدون منه؟ إن روحه موجودة فينا. والآن تحدثوا بما عندكم." فتكلم أكبرهم وسأل قائلا: "كيف وأنتم رهبان وتتمتعون بالسمعة الطيبة، والحكمة الحسنة، تبيعون الزيتون فى منطقة أسمين فأجاب آبا كرنليوس: "إن الزيتون الذى يبيعه الرهبان هو بمثابة الملح لكل زيتون آخر، مثل الرهبان أنفسهم الذين يعتبرون ملح العالم، لا سيما لكم أنتم الفلاسفة الذين تتفاخرون بعلمكم وهو لا يزيد عن كونه مجموعة كلمات عقيمة بلا ثمر، الأمر الذى جعلكم بلا طعم ولا نكهة." فلما سمعوا ذلك خجلوا واحمرت وجوههم إذ لم يستطيعوا بعلمهم الكاذب أن يقاوموا حكمة الله الحقيقية التى تسكن قلوب هؤلاء البسطاء. ولكن على الرغم من ذلك لم يردعوا بل رجعوا مرة أخرى يطلبون آبا باخوميوس لكى يسألوه وتباحثوا معه. فأرسل لهم هذه المرة تلميذه تادرس ومعه اثنين آخرين. فلما رأوهم الفلاسفة، قام واحد منهم وهو مملوء عجباً وكبرياء وقال لهم: "أنا أريد أباكم لكى أسأله وأتناقش معه بخصوص ما ورد فى كتابكم المقدس". فأجابه تادرس باتضاع: "إن خادم المسيح آبا باخوميوس مشغول بما هو أهم، والآن  قل ما عندك واسأل كما شئت، والذى عنده منا إجابة بحسب ما يمليه الروح يجيبك." فقال الفيلسوف: "أنتم تفتخرون بأنكم تعرفون الكتاب المقدس جيداً وتفهمون تفسيره، فقل لى من هو الشخص الذى مات مع أنه لم يولد؟ ومن هو الإنسان الذى ولد ولم يمت؟ ومن هو الإنسان الذى مات ومع ذلك لم يتحلل جسده؟". أجابه تادرس: "إن الذى مات ولم يولد هو آدم، والذى ولد ولم يمت هو أخنوخ أما الذى مات ولم يتحلل جسده فهي امرأة لوط لأنها تحولت إلى عمد ملح." وحينما سمع هذا الفيلسوف كلمات الحكمة الخارجة من فم تادرس اضطرب جداً وقال له:" قل لأبيك إنك قد بنيت بيتك على الصخر الذى لا ينكسر، لتكن أنت مباركا وكل أولادك الذين تقودهم لأن الله قد منحك عقلا مستنيراً يفوق كل الخليقة ولن يستطيع أحدا أن ينكر ذلك، وانك سوف تنتصر وتتقوى وتصل سمعتك إلى أقاصي الأرض". وبعد أن قال هذه الكلمات انحنى لآبا تادرس ورجع مع بقية الفلاسفة الذين أتوا معه. وحين سمع آبا باخوميوس ما حدث من أمرهم، تعجب جداً وبارك الله قائلا: "مبارك أنت أيها الرب إلهي الذى قهرت جليات وكل مبغضي صهيون."

55.       فى مدينة قوص التابعة لأبروشية هاو، كان هناك رجلا تقياً، يدعى باترونيوس، مملوءا بروح الله، وهو من عائلة غنية تملك ثروة عظيمة لكنه مع ذلك عزم فى قلبه أن يترك العالم وينصرف عنه، لكى يتفرغ للعمل الروحي. فهجر أسرته، واعتزل العالم، وبني ديرا فى منطقة تابو، وجمع معه كل من يريد أن يحيا للمسيح. ولما سمع بأخبار أديرة الشركة التى تحت إرشاد آبا باخوميوس. أرسل له خطابا يقول فيه: "هل أكون مستحقاً، أن تأتي إلى هنا، لنعيش تحت ظل قيادتك التى منحها لك الرب يسوع المسيح." فأخذ آبا باخوميوس بعض من تلاميذه وذهب إليه، ونظم لهم كل شئ، مثل الأديرة السابقة. وكان لباترونيوس أب يدعى سنتابو وأخ يدعى سناباهى، وكانا يخافان الله، هذان لما تحدث معهما باترونيوس بكلمة الله، تاقت نفساهما إلى حياة الرهبنة، فجعلهما راهبين معه. فعاشا فى حياة موت وتجرد كلى عن العالم، حتى أن أباه قد وهب كل ما يملك من أغنام وماعز وماشية وجمال وحمير وعربات وكل ماله، لأديرة الشركة.

        56.    بإرشاد من الله، ذهب آبا باخوميوس مع بعض الأخوة، شمالا إلى قرب منطقة تاسمين فبني هناك ديرا، وأطلق عليه دير تاسمين. وبعد أن أكمل بناءه، أخذ آبا باترونيوس المسئول عن دير تابو وأقامه أبا على هذا الدير ليرعاه ويقود الأخوة، وفقا لروح الله الذى يملأه، علاوة على رعايته لديرين آخرين بالقرب منه، حتى يجبر الأخوة، بكلامه المملوء نعمة، حسب قول الكتاب: "ليكن كلامكم كل حين بنعمة مصلحا بملح لتعلموا كيف يجب أن تجاوبوا كل واحد." كما أقام آبا باخوميوس أبا آخر على دير تابو بديلا عن باترونيوس يدعى أبولونيوس، وهو شيخ فاضل مملوء بالتقوى والإيمان حتى يقود الأخوة فى طريق القديسين كما كان سلفه.

57. وفى رؤيا أخبر آبا باخوميوس أن يذهب ويؤسس ديراً فى الجنوب فذهب مع عدد من الأخوة، إلى جبل إسنا، فى مكان يدعى فانوم، ولما بدأ فى بناء حائط الدير، حضر أسقف المنطقة ومعه رهط من الرجال، وطلبوا من آبا باخوميوس ومن معه، أن يتركوا المكان ويرحلوا. ولكن رجل الله تصرف بحكمة، وبنعمة الرب أقنعهم، فانصرفوا وتركوه وشأنه فأكمل بناء الدير وأحسن تشطيبه، وكان الدير كبيراً جداً، وبعد أن نظمه بحسب قوانين الشركة التى لبقية الأديرة، وأقام فيه أباً وقوراً يدعى سوروس، قام ورجع إلى مكانه. وقد اعتاد آبا باخوميوس أن يزور الأديرة التى أسسها لكى يفتقد الأخوة الذين فيها ويعزيهم بكلمة الله مثل المرضعة التى تغذى أولادها.

        58. فى إحدى المرات عزم آبا باخوميوس على زيارة دير فى منطقة طومسون لكى يفتقد الأخوة هناك، فقام مع اثنين من الأخوة واستقلوا جميعا قاربا لكى يصلوا به إلى هناك. وفى المساء على المركب بينما هم يتناولون طعامهم الزهيد المكون من الخبز والجبن والزيتون وبعض الخضروات، أحنى آبا باخوميوس رأسه وأكل خبزاً فقط، والدموع تنساب من عينيه. وبعد الأكل لاحظ أحد الأخوة دموعه فسأله: "يا أبى لماذا لم تتناول سوى الخبز فقط؟ وما الذى أبكاك؟" أجابه الأب: "إن الذى أبكاني هو عدم وجود خوف الله فى قلوبكم لأنكم لم تزهدوا فيما وضع أمامكم، بل أكلتم من كل الأصناف الموضوعة، لأن من يهتم بالسماويات عليه أن يكون زاهداً جداً فى الجسديات وفقا لكمات بولس الرسول:"وكل من يجاهد يضبط نفسه فى كل شئ."
أما أنا فقد كنت قانعا بالخبز المبلل بالماء فقط."

        ثم بعد ذلك قال لهما: "هل ترغبان فى أن تمارسا السهر الليلة معي؟" فلما أجابا: "نعم." قال لهما: "لقد تعلمت من أبينا الشيخ القديس بلامون، ثلاثة طرق للسهر، أنا أخبركم بها، وأنتما تختاران إحداهما، الطريقة الأولى أن نصلى من المساء حتى منتصف الليل ثم ننام حتى وقت صلاة المجمع. والثانية أن ننام حتى منتصف الليل ثم نقوم للصلاة حتى الصباح، أما الطريقة الثالثة فهي أن ننام قليلا ثم نقوم للصلاة، ثم ننام قليلا ثم نقوم للصلاة وهكذا من المساء حتى الصباح." فاختار التلميذان الطريقة الأخيرة، وهى أن يقضوا جزء من الليل فى الصلاة وجزءاً  فى النوم وهكذا بالتناوب، فنظم لهما آبا باخوميوس وقت الصلاة ووقت النوم. ووقفوا جميعاً للصلاة، ولكن أثناء ذلك غلب النوم أحد الأخين فذهب ونام بينما استمر الأخر فى الصلاة مع آبا باخوميوس، ولما حن وقت الصلاة المجمع أيقظ الأخ النائم ليصلى مع الشيخ وذهب هو لينام، وهكذا حتى وصولوا جميعاً إلى طومسون.

        وهناك لما وصلوا إلى الدير، قبل آبا باخوميوس جميع الأخوة وكذلك آبا كرنيليوس مدبر الدير وسأل آبا كرنيليوس الراهبين اللذين كانا فى رفقة الشيخ، كيف قضى آبا باخوميوس ليلته بالأمس فى المركب، فأخبراه بأنه فى تلك الليلة قد أعطاهما درسا فى السهر، فتعجب كرنيليوس وأنبهما قائلا: "كيف وأنتم الشباب تنامون بينما تتركون هذا الشيخ الضعيف يتفوق عليكم."

        وفى المساء، ذهبوا جميعاً لتناول الطعام، وبعدها قال آبا باخوميوس لكرنيليوس: "هل ترغب فى الوقوف معي للصلاة؟" فأجابه: "نعم." فوقفا يصليان، واستمرا فى الصلاة حتى وقت صلاة المجمع، وكان أنه حينما أعطيت إشارة بدء صلاة المجمع، ترنح آبا كرنيليوس وقال لآبا باخوميوس: "ماذا فعلت يا أبى حتى تلقنني درسا مثل هذا؟ إنك لم تعطني آيه فرصة حتى أشرب ولو كوب ماء، منذ أن تركت المائدة فى المساء حتى الآن." فأجابه قائلا: "وكيف تترك هذا الشيخ الضعيف يتفوق عليك؟" حينئذ أدرك كرنيليوس أن آبا باخوميوس قد علم بالروح ما قاله للأخين مؤنبا أياهما فانحني وسجد له قائلاً:"إغفر لي يا أبي لأنني أخطأت إذ تكلمت بما لا يليق." 

        59. ولما تركوا طومسون، اتجهوا إلى فابو، حيث زاروا الأخوة وافتقدوهم وحين وصلوا إلى هناك، قام آبا باخوميوس بتعيين آبا بفنوتيوس شقيق تادرس وكيلاً عاماً لتدبير شئون كل الأديرة، إذ كان رجلا كاملا فى الفضائل، حسن المنطق، دائب العمل.

60. مرة، مرض آبا باخوميوس، ورقد طريح الفراش، فأعدوا له مرقا لكى يأكل. ولكنه عندما رأى ذلك، قال لتادرس: "احضر لى وعاء ماء." فأحضر له، فقام وصب منه على المرق حتى أفسد طعمه ومذاقه. وبعد ذلك قال لتادرس: "صب لي قليل ماء حتى أغسل يدي." فلما غسل يديه، قام آبا باخوميوس بدوره وصب ماءاً وغسل رجلي تادرس، ولما سأله تادرس: "لماذا فعلت هكذا؟" فأجابه قائلا: "إنني سكبت من الماء على مرقه الخضار حتى أفسد لذة التذوق، فلا أسقط فى شهوة الجسد. وحين صببت لى الماء لأغسل يدي، قمت أنا بدوري لأغسل قدميك حتى لا تدينني أفكاري أنك خدمتني. إذ يجب على أن أكون خادماً للجميع."

61. كان هناك أخ، دأب آبا باخوميوس على توبيخه من أجل سوء فعله، وكان ذلك لأجل تقويمه وإصلاح نفسه. فلما ضاقت نفسه التوبيخ، فكر فى أن يترك الرهبنة تماماً. فشكى حاله لتادرس قائلاً: "إننى لا أستطيع أن أعيش مع هذا الشيخ القاسى علىَّ دائماً." عندئذ أراد تادرس بحكمته أن يخفف عنه وطأة آلامه، المثقل بها، فسأله: "وهل حزن قلبك من أجل هذه المعاملة." أجابه: "نعم." فأردف تادرس قائلاً: "إننى أنا أيضاً أعانى منه، بل وأكثر منك، والآن دعنا نختبره مرة أخيرة، فإذا أحسن معاملتنا، فإننا نبقى وإلا فلنترك المكان ونذهب إلى مكان آخر."

فلما سمع الأخ هذا الكلام هدأت نفسه وارتاحت روحه. وأما تادرس فقد توجه إلى آبا باخوميوس وأخبره بأمر هذا الأخ وما دار بينهما. فقال له: "حسناً فعلت، فحين يأتى الليل، أحضر هذا الأخ معك، وتظاهر أنت بأنك توبخنى، وأنا سوف أطيب خاطره، بما يضعه الرب فى فمى من كلام." وفعلاً فى الليل قام تادرس وذهب إلى ذاك الأخ وقال له: "هيا بنا إلى الشيخ لنرى كيف تكون معاملته؟" فلما وصلا إليه وتبادلوا الحديث قال آبا باخوميوس: "إغفر لى يا أخى لأنني أخطأت إليك، وأنتم كأولاد مباركين تحتملون ضعفى." حينئذ أخذ تادرس يوبخ الشيخ، وتظاهر كأنه هو أيضاً ساخط على هذه المعاملة القاسية. إلا أن الأخ عنف تادرس قائلاً: "كف يا تادرس عن هذا الكلام. كفى لقد ارتاحت نفسى من نحو أبينا الشيخ."

62. ظل أحد الأخوة يلح على آبا باخوميوس أن يسمح له بزيارة أسرته، ولما تعب الأخ من كثرة الإلحاح، قال له: "إذا لم تسمح لى بالذهاب لزيارة أسرتي، فسوف أترك حياة الرهبنة وأرجع إلى العالم، وأصير علمانياً." عندئذ استدعي آبا باخوميوس تادرس وقال له: "أنا أعرف حكمتك فى معالجة الأمور، ومدى عطفك على مثل هؤلاء التعابى، والآن أنا أريد منك أن ترافق هذا الأخ لتصير مسئولا عنه فى أثناء زيارته لأسرته، وعليك أن تكون شفوقا عليه فى كل شئ، حتى تستطيع أن ترجعه إلى هنا ثانية، فهو على كل حال إنسان لا يخلوا من الفضيلة، وفوق ذلك أنها إرادة الله أن نكون لطفاء مع جميع الناس حتى نستطيع أن نخلص أرواحهم من قبضة الشياطين والرب قادر أن يعوضك عن تعبك."

        فأطاع تادرس بكل تواضع، وذهب مع ذلك الأخ. وكان أنهما لما وصلا، قال الأخ لأسرته:
 "أعدوا لنا طعاما رهبانيا زهياً، فى مكان بعيد ومنعزل حتى نأكل." ولما أعدوا الطعام قال ذلك الأخ لتادرس: "هيا لنأكل." ورغم أن تادرس كان متضايقاً جداً أن يأكل عند علمانيا لأنه لم يتعود على ذلك قط، إلا أنه قال فى نفسه: "إن لم أخضع لهذا الأخ فى كل شئ فلن أقدر أن أرجعه إلى الدير ثانية، وبما أننا سنأكل فى مكان منعزل لن يبصرنا فيه أحد، علاوة على أن الأكل المعد هو ما يأكله الرهبان عادة، إذن فلا مانع." وعندئذ أكل قليلاً وظل لطيفاً معه حتى عاد به إلى الدير ثانية. ولما رجعا أخبر تادرس آبا باخوميوس بكل ما حدث، فلم يلومه قط، إذ كان يعلم أنه فعل ذلك من أجل الله ومن أجل خلاص نفس هذا الأخ.

        وكان بعد ذلك أن تادرس أراد أن يقنع ذلك الأخ بعدم تكرار مثل هذه الزيارة فانتحى به جانبا وسأله قائلا: "كيف تفسر قول الإنجيل: "إن كان أحد يأتي إلى ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وأخوته وأخواته حتى نفسه فلا يقدر أن يكون لى تلميذا." فأجاب الأخ: "إن الإنجيل قد وضع هذه الوصية كدرجة كمال عليا، نحن لا نستطيع أن نصل إليها بالتمام، ولكننا ندرك جزءا منها فقط، لأنه كيف يمكننا أن نبغض والدينا؟" فقال تادرس: "هل هذا إيمان رهبان طبانيس، أن يقول الإنجيل شيئا، وأنت شيئا أخراً، بالحق إن كان هذا هو إيمانك، فإنني أترك الدير، وأذهب إلى الدير الصغير الذى جئت منه، لأن الرجال الشيوخ الذين هناك لم يخالفوا الإنجيل قط." وتظاهر بأنه سيغادر المكان ففعلاً. فجاء الأخ وأخبر آبا باخوميوس بما حدث، فقال له: "ألا تعلم أن تادرس، ما زال راهبا مبتدئا، بينما أنت شيخ مختبر؟ فالآن أسرع وابحث عنه لأنه لو ترك الدير، فإننا سنفقد سمعتنا الطيبة." فذهب وبحث عنه حتى وجده، وحاول الأخ أن يثنيه عما عزم عليه من أمر ترك الدير، ولكن تادرس أصر على موقفه وقال له: "إذا أردت أن أمكث معكم هنا، فعليك أن تعاهدني أمام الله والأخوة، أ، تحفظ وصية الإنجيل ولا تكرر الزيارة لأسرتك مرة أخرى." عندئذ عاهده الأخ على ذلك. ولم يعد يطلب زيارة أسرته ثانية

        وهكذا كان تادرس يسلك بحكمة مع الأخوة حتى يقودهم إلى كمال الإنجيل .

63. فى أحد الأيام ظهر ملاك الرب لأبينا باخوميوس، وأمره بأن يعلم أحد الأخوة بما هو نافع لخلاصه، لأن هذا الأخ كان يمارس أعمالا نسكية شديدة، ولكن ليس من أجل الله بل من أجل المجد الباطل. فذهب آبا باخوميوس وتحدث مع الأخ على انفراد وقال له: "إنه مكتوب "لأنني نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذى أرسلني". والآن عليك بالطاعة لما سآمرك به، متى أعطيت إشارة الأكل فى منتصف النهار، أذهب وكل قليلا من الطعام الذى يقدم لك دون أن تملأ بطنك وكذلك حين تعطى الإشارة فى المساء ـ اذهب أيضا وكل."

        وفعلاً أطاع الأخ وقبل الوصية التى أعطيت له، فكان حينما تعطى الإشارة لبدء الأكل يقوم ويذهب ويأكل مع الأخوة. ولكن لم يمض على ذلك طويلا حتى سقط فى خداع الشياطين، وقال فى نفسه: "أين الموضع الذى كتب فيه لا تصوموا؟" وخضع لرأيه، ولم يعد يذهب ليأكل مع الأخوة. فلما سمع آبا باخوميوس ذلك، حزن على الأخ واستدعى تادرس وأوصاه قائلا: "أذهب لترى ماذا يفعل الأخ، وإذ وجدته يصلي، أوقفه عن الصلاة حتى أجئ، وعندئذ سيكشف الله عن روح المجد الباطل الذى يملأه." فقام تادرس وفعل كما أمره آبا باخوميوس، وحين وصل إلى ذلك الأخ وجده مشغولا فى الصلاة، فأوقفه، عندئذ غضب ذلك الأخ جداً وأصبح مثل الشيطان ، وأمسك بحجر يريد قتل تادرس، وتكلم الروح الشرير على فم ذلك الأخ قائلا: "ألا تعلموا أننى أعمل مع أولئك الذين يرنمون بعجب؟" وإذا لم تصدقوا فأنصتوا إلى ذلك الأخ الذى يرنم كل آية تسع مرات"ولما حضر آبا باخوميوس وقف مع تادرس وصليا معاً على ذلك الأخ، فشفاه الله وفتح عيني قلبه ليفهم كيف يسلك "لا كجهلاء  بل كحكماء." فأخذ يمجد الله على حسن صنيعه معه.

64. ذهب آبا باخوميوس مرة مع بعض الأخوة، لكي ينظفوا صهريج الدير وكان يوجد أخ متقدم فى السن عاش غالبية حياته فى العالم ولكنه أخيراً حضر إلى الدير وصار راهباً، ولم يكن قد مر على رهبنته سوى فترة وجيزة، بدأ هذا الرجل يتذمر فى نفسه ويقول: "هل أخذ الشيخ أولاد الناس ونزل بهم إلى الصهريج لكي يقتلهم؟" ولكن حدث أنه فى تلك الليلة رأى حلما، وإذ به كأنه يقف فوق الصهريج، ولما نظر إلى أسفل وجد رجلاً مضيئا بالمجد موجودا وسط الأخوة الذين يعملون، ويقول لهم: "خذوا أنتم روح الطاعة والقوة، أما أنت( يقصد الرجل الذى تذمر) فنصيبك هو عدم الإيمان، لأنك تذمرت على الشيخ." فلما جاء وقت الصباح، وقف هذا الرجل فى المجمع وسط الأخوة وسجد أمامهم واعترف بكل شئ، طالبا الصفح والمغفرة.

65. فى إحدى المرات بعد أن فرغ آبا باخوميوس من قطع الأغصان مع الأخوة، وفى طريق العودة سار باخوميوس خلفهم وهو يتلو فى قلبه ما يحفظه من الكتاب المقدس، وبينما هو فى منتصف الطريق إلى المركب، نظر إلى السماء وإذ به يرى رؤيا، فألقى الأغصان التى كان يحملها واستمر فى الصلاة. وظل فى حالة ذهول واختطاف مدة طويلة. عندئذ سجد واستمر فى البكاء بغزارة وقتاً طويلاً حتى أبكى معه الأخوة. وحينما نهض من سجوده، سأله الأخوة أن يخبرهم بما رأى، فجلس وتحدث إليهم قائلاً: "لقد رأيت كل جماعة أديرة الشركة فى ألم عظيم، بعضهم محاط بنار عظيمة لم يقدروا أن يتخلصوا منها، والبعض الآخر فى وسط الشوك التى تنخسهم وهم لا يجدون طريقاً للخلاص منها، والبعض الثالث ساقط فى قاع هوة عظيمة كأنها واد ضيق شديد الانحدار، وهم يجاهدون ليتسلقوا تلك الهوة ولكنهم غير قادرين، لأن الجرف شديد الانحدار وكذلك لم يقدروا أن يلقوا أنفسهم فى النهر لأن هناك تماسيحاً تنتظر ابتلاعهم. والآن يا أولادى الويل لى لأن ذلك مزمع أن يحدث بعد موتى، لأنهم لن يجدوا من يقودهم ويعزيهم." ثم قام وصلى وأخذ الأغصان، وكذلك حمل الأخوة وهم يلهجون فى كلام الله حتى وصلوا المركب.

66. لما وصلوا الدير، حضر أحد الشيوخ النساك، لزيارة آبا باخوميوس والأخوة، فاستقبله آبا باخوميوس وقبله، ثم نادى على تادرس وقال له: "إذهب واعد لنا طعاماً لهذا الأخ الزائر." فذهب تادرس ولم يفعل ظاناً أنه قال له: "انصرف ودعنى أتحدث مع الأخ على انفراد." وبعد ذلك طلب نفس الشئ من أخ آخر. إلا أنه مضى فى طريقه ولم يفعل شيئاً. عندئذ فهم آبا باخوميوس أن هذا من عمل الشياطين فقام وأعد الطعام بنفسه، وقدم لهذا الأخ الزائر، ثم ودعه بسلام. ثم استدعى تادرس وسأله قائلاً: "إذا طلب منك أبوك الجسدى شيئاً، فهل يمكن أن تخالفه؟ لماذا خالفتنى إذن ولم تعد طعاماً لذلك الأخ الزائر لكى يأكل؟" فأجابه تادرس: "إغفر لى يا أبى، فإنى ظننت أنك قلت لى: انصرف لأنى أريد أن أتحدث مع الأخ." ولما نادى الأخ الآخر وعاتبه قال نفس الكلام. عندئذ تنهد آبا باخوميوس وقال: "إنها حرب من الشيطان لكى يعوقنا عن تكميل الأعمال الصالحة، ولكن مبارك هو الله الذى يعطى صبراً وحكمة لأولئك الذين يحبونه." وأكمل قائلاً : "إنى سمعت الأرواح الشريرة وهى تتحدث مع بعضها عن الوسائل الشريرة التى تستعملها لمحاربة الإنسان، فقال أحدهم للآخر: "أنا اليوم مشغول فى محاربة أحد الأخوة، ولا أقدر أن أغويه بسهولة، لأننى كلما اقترح عليه بعض الأفكار الرديئة، فإنه يقوم ويصلى إلى الله بدموع، ولذلك فإننى لا أقدر على الصمود أمامه بل أتركه وأنا محترق". فرد الشيطان الآخر: "أما أنا فإن كل مشورة اقترحها على الأخ الذى أحاربه فإنه يقبلها بل ويفعل أكثر مما اقترحه"". عندئذ نصح آبا باخوميوس أبنائه قائلاً: "من أجل ذلك علينا أن نحرس أفكارنا جيداً، لأنكم تخيلوا معى الآن منزلاً كبيراً به مائة حجرة. إذا استأجر أحد حجرة واحدة منها، هل يستطيع أحد أن يمنعه من الدخول إلى المنزل، هكذا الحال مع الإنسان فلو كان يملك كل ثمار الروح، ولكنه أهمل فى إحداها، فإنه سيصير ضعيفاً فى مواجهة العدو، وإذا لم يسرع ويصحح طريقه فإن العدو قد يهزمه ويحرمه من الثمار الأخرى. واعلموا أنه لا توجد درجة واحدة فى الحياة الروحية، بل درجات متعددة، فهناك قائد خمسين وآخر قائد مائة، وثالث قائد ألف، وايضاً هناك الملك الكامل مثل أبينا إبراهيم الذى قيل عنه أنه كان كملك من الله." وقد قال آبا باخوميوس هذا الكلام حتى يزرع خوف الله فى قلوبهم لاقتناء خلاص نفوسهم.

67. فى اليوم التالى ذهب آبا باخوميوس مع الأخوة ليجمعوا مزيداً من الأغصان لحاجتهم إليه. وكان يوجد بين الأخوة شيخ يدعى آبا ماؤو، وقد كان مسئولا عن أحد البيوت، فى ذلك اليوم لم يذهب للعمل مع الأخوة بل مضى واستراح متظاهرا بأنه مريض وفى حقيقة أمره كان متذمراً على حديث آبا باخوميوس فى اليوم السابق قائلا فى نفسه: "لماذا كل هذه المحاضرة التى ألقاها علينا الشيخ بالأمس؟ هل يظن أننا فى خطر- إلى هذه الدرجة- من أن نسقط فى أية لحظة؟" وفيما هو يتفكر فى ذلك، أراد الله أن يخلصه ويرده إلى صوابه. فقد حدث فى ذلك الوقت أن أرسل الأسقف خطابا إلى آبا باخوميوس ومع حامل هذا الخطاب أحد الأخوة الذين عليهم ثياب الرهبنة، وفى الخطاب يقول: "أنا أرسل لك هذا الشيخ الذى كان يسلك فى درجة روحية عالية، وقد امسكناه متلبساً بالسرقة. وها نحن قد أرسلناه إليك حتى تحاكمه، لأنه راهب." فلما جاء حامل الخطاب ومعه الراهب الذى ارتكب السرقة ليسأل عن آبا باخوميوس لم يجده، ولكنه وجد آبا ماؤو الذى تذمر على آبا باخوميوس، فاستقبلهما وقدم لهما طعاما إلى حين وصول آبا باخوميوس. ولما جاء المساء حضر آبا باخوميوس مع الأخوة حاملاً الأغصان. فرحب بالزوار وأخذ الخطاب الذى أرسله الأسقف، وما أن قرأ رجل الله الخطاب، حتى بدأ ـ بالحكمة المعطاة له ـ يوبخ ذلك الأخ على خطية السرقة التى أرتكبها، فبكى الأخ نادما، وفى تواضع اعترف بخطيته، فقال له آبا باخوميوس: " فى أشياء كثيرة نعثر جميعا." ولكن دعنا نصلى إلى الله الرحوم وثق أنه لو سهرنا على أنفسنا فالله قادر أن يشفى أوجاعنا." عندئذ تعزى الأخ كثيرا، وقد وضع عليه آبا باخوميوس قانونا للتوبة.

        ولما رأى ماؤو ما حدث، تعجب جداً وقدم المجد لله على الكلمات التى سمعها بالأمس من آبا باخوميوس، الذى قال له عندئذ: "يا ماؤو هل لأنك أنت ثابت على الصخرة، تظن أن كل الناس هكذا؟ ليتنا نصلى إلى الله المملوء رحمة وتحننا لكى ينقذنا من هجمات عدو الخير ومن حيله الشريرة." فأجاب الشيخ ماؤو: "إغفر لى يا أبى، يا رجل الله لأنه بجهالة قلبي قد تجاسرت وأحزنت روح الله الساكن فيك."   

        68. حدث فى يوم من أيام الآحاد، أن آبا باخوميوس استدعى تادرس وقال له: "حين ينتهي الأخوة من الأكل فى المساء، أعط مسئوليتك لآخر وتعال أنت إلى المكان الذى نجتمع فيه لسماع الإرشادات." ففعل تادرس هكذا. ولما حضر إلى حيث اعتاد آبا باخوميوس أن يحدث الأخوة بكلمة الله. أخذه من يديه وأقامه فى الوسط وقال له : "قف هنا وحدثنا بكلمة الله." فابتدأ تادرس على غير إرادته يتحدث إلى جميع الأخوة الواقف أمامهم بما فيهم آبا باخوميوس الذى كان ينصت إليه مثل بقية الأخوة. إلا أن بعض الشيوخ غضبوا وتذمروا على آبا باخوميوس ورجعوا إلى قلاليهم دون أن يسمعوا كلمه الله قائلين: "كيف وهو أصغرنا سنا، يسمح له بأن يعلمنا نحن الشيوخ؟" وفى الحقيقة مع أن تادرس كان له من العمر وقتئذ ثلاثة وثلاثون عاماً، إلا أن آبا باخوميوس  كان يعلم أنه متقدم فى الحياة الروحية عنهم. ولما رأى آبا باخوميوس أن هناك بعضا من الأخوة قد انصرفوا دون أن يسمعوا كلمة الرب من فم تادرس، جلس وتحدث إلى الأخوة قائلا: "ما هذا الهرج الشديد الحادث فى وسطكم؟ هل بسبب أنني أقمت شابا لكى يحدثنا بكلمة الرب، يحدث كل ذلك الحمق والغباء؟ ألم تكن كلماته هى كلمات الرب؟ ألم نسمع ما قاله الرب فى الإنجيل عن الصغار: "من قبل ولداً واحداً مثل هذا بأسمى فقد قبلني."؟ ألم أكن أنا جالسا بينكم أستمع كواحد منكم؟ والحق أنني لم أكن حاضرا فقط بل كنت منصتا له بكل قلبي كمن هو عطشان فى الصيف إلى الماء البارد. إن كلمة الله دائما تستوجب القبول. وعموما فإنه مكتوب: "من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه." ولذلك فالويل لأولئك الذين رجعوا للخلف، لأنهم بإرادتهم قد ابعدوا أنفسهم عن رحمة الله وعطفه. وأنا أؤكد لكم أنهم ما لم يتوبوا فإنهم  سيهلكون لا محالة، لأنه مكتوب: "قريب هو الرب من المنكسرى القلوب ويخلص المنسحقى الروح." وبعد أن أكمل الأب حديثه قام وصلي وصرف الأخوة ورجع كل واحد إلى قلايته.  

69. ولما وجد آبا باخوميوس أن تادرس قد أصبح مملوءا من الروح القدس، عينه مسئولا عن دير طبانيس، حتى يقود الأخوة هناك. بينما استقر هو فى دير فابو حيث باشر مسئولية إشرافه على الأديرة الأخرى من فابو. وكان تادرس يسلك بعد تعيينه، بكل تواضع كأنه لم يعين فى هذا المنصب قط. إذ لم يكن فيه أى شهوة للمراكز، لأنه مكتوب أن "قول الرب أمتحنه." وأصبح يهتم " بما فوق لا بما على الأرض." وكان شغله الشاغل هو"أن يحب الرب من كل قلبه." وذلك عن طريق ثباته فى تنفيذ وصاياه التى أعطاها لنا فى الإنجيل. وقد بذل قصارى جهده لمنفعة الأخوة بكلامه المملح بالنعمة كل حين.

    70. ثم قام آبا باخوميوس بتعين بفنوتيوس شقيق تادرس وكيلا عاما فى دير فابو، وكان مسئولا عن استلام كل إنتاج العمل اليدوي من جميع الأديرة، ومقابل ذلك يقوم هو بتزويدهم بكل ما يحتاجونه.

وكان الأخوة من جميع الأديرة يلتقون فى دير فابو للاجتماع، مرتين كل عام. الأولى للاحتفال بأسبوع الآلام، حيث يلتفون حول كلمة الله. والثانية فى 20 مسرى( 13 أغسطس) لكى يقدموا حسابا على كل أعمالهم للوكيل العام، وفى هذا الاجتماع أيضا يتم إعادة توزيع المسئوليات والمهام المختلفة، ثم يرجع كل واحد إلى ديره بسلام.

71. فى إحدى المرات، ذهب آبا باخوميوس لزيارة دير طبانيس، لافتقاد الأخوة هناك وإصلاح أحدهم. فلما وصل، بدأ فى ضفر الخوص قبل أى أحد فى الدير، وبينما وهو يعمل فى الضفير دخل أحد الأخوة الشباب وكان مسئولا عن الخدمة خلال ذلك الأسبوع، هذا لما وجد آبا باخوميوس يعمل (ولم يكن يعرفه) قال له: "ليست هذه هى الطريقة التى نعمل بها. لأن آبا تادرس قد علمنا طريقة أخرى للعمل تصير بها الضفيرة أقوى وأمتن." فقام آبا باخوميوس وقال للأخ: "تعال أجلس وعلمني كيف." وبعد أن علمه الأخ استمر آبا باخوميوس يعمل فى الضفيرة بفرح، ولم يغضب قط إذ كان قد أخمد فكر الكبرياء بالاتضاع، ولم يؤنب ذلك الأخ على ما فعله حيث أنه تحدث خارج حدود عمله. وحينما انتهى من ضفر الخوص، جلس وتحدث إلى الأخوة بكلمة الله، وفى نهاية حديثه قال لهم: "لقد حضرت إلى هنا من أجل منفعة أحد الأخوة ولخيره، ومن أجل حرب الشهوة الواقع فيها." ولما بدأ آبا باخوميوس يوبخ ويؤنب بشدة، كان هناك أخ يدعى إيليا وهو بسيط جداً، كان قد جمع خمس تينات وخبأها لكى يأكلها بعد انتهاء الصوم. ولكنه لما سمع الكلمات المرعبة التى قالها آبا باخوميوس علم أنه هو المقصود بذلك، فذهب وأحضر الوعاء الذى به التين ووضعه أمام الأخوة وقال فى حضور الجميع: "أغفر لى يا أبي عثرتي. الله يعلم أن كل ما أخذته هو هنا فى الوعاء، وها أنا قد كشفت لك خطيئتي." فتعجب الأخوة من روح الإفراز الذى يملأ آبا باخوميوس، ومن نقاوة بصيرته. ثم قام بعد ذلك وصلى ورجع إلى دير فابو دون أن يأكل أو يشرب شيئا. 

72. بعد أن تم تعيين تادرس مسئولا على دير طبانيس، اعتاد كل يوم أن يحضر إلى دير فابو بعد انتهائه من العمل اليدوي لكى يستمع إلى كلمة الله على فم آبا باخوميوس ثم يرجع فى نفس اليوم إلى طبانيس حتى يعيدها بدوره على مسامع الأخوة هناك. وقد ظل على تلك الحال مدة من الزمن. وفى إحدى المرات حضر كعادته لسماع آبا باخوميوس، ولما لم يجده صعد إلى أعلى فوق سقف حجرة الاجتماعات حتى يتلو مزاميره وكان آبا باخوميوس يصلى فى حجرة الاجتماعات، ولم يكن تادرس يعلم ذلك. وفيما هو يصلى ظهرت له رؤية، وفجأة بدأت حجرة الاجتماعات تهتز بشدة، ولما أحس تادرس بأن سقف الحجرة بدأ يهتز، اضطرب وأسرع بالنزول، وعندما دخل حجرة الاجتماعات لكى يصلى حتى يهدأ من الخوف الذى انتابه. ولم يستطع الوقوف لأن الرهبة كانت تملأ المكان. ومن شدة خوفه جلس فى مكان كمن هو محشور بين حائطين، لذلك أسرع بالهرب خارجاً، وفى كل ذلك لم يعلم أن آبا باخوميوس بداخل الحجرة. أما عن الرؤيا فقد رأى آبا باخوميوس حائط الهيكل وكأنه من الذهب الخالص، وعليه أيقونة لرب المجد وعلى رأسه إكليل من المجد وحوله زينة بالألوان المختلفة وكأنها جواهر ثمينة جداً وهى تشير إلى ثمار الروح القدس التى هى: "محبة ، فرح، سلام، طول أناة، لطف ، صلاح، إيمان ، وداعة، تعفف." وكانت الصورة مضيئة ومتألقة جداً وظهر أمامها ملاكان بهيان يقفان بلا حراك ويتأملان فى هيئة الرب البهية. وبينما كان آبا باخوميوس يتأمل تلك الرؤيا صلى إلى الله وطلب منه قائلا: "يارب ليت مخافتك تملأنا دائما حتى لا نخطئ إليك طيلة أيام حياتنا." وظل يردد هذه الصلاة مرات عديدة. عندئذ قال له الملاكان: "إنك لا تقدر أن تحتمل خوف الله كما تطلب." فأجاب: "بمعونة الله أنا أقدر." وللحال بدأ شعاع الخوف مثل شعاع الشمس عندما تشرق على العالم، يقترب منه تدريجيا، وكان هذا الشعاع أخضر جداً ولكن رؤيته مخيفة للغاية، ولما لمسه ذلك الشعاع بدأ يحس بضغط شديد على قلبه وعقله، ولعدم احتماله سقط على الأرض وهو يرتعش من شدة الخوف، وساءت حالته حتى اقترب من الموت. وكانت الملائكة تلاحظه دون أن تحول نظرها عن الرب المعلن لباخوميوس. وقال له أحد الملائكة: "ألم نقل لك إنك لا تقدر أن تحتمل لمسة الرب لك بالتمام؟" عندئذ صرخ قائلا: "إرحمني ياربى يسوع المسيح." فرجع ذلك الشعاع تدريجياً حتى استقر فى موضعه، وامتلأ باخوميوس من نعمة الله، وغمره السلام الكامل. فقام ومجد الله ثم استراح قليلا حتى وقت صلاة المجمع. وبعد صلاة المجمع الصباحية، سمع تادرس آبا باخوميوس يحكى كل ذلك على انفراد لبعض الشيوخ وكان يقول لهم فى حزن ودموع: "إن روحي بالأمس كادت تفارق جسدى، وحينما كنت فى ضيق نفسي من هول ما رأيت إذ بأحد الأشخاص يدخل على فى الحجرة وكان هو أيضا على وشك أن يغشى عليه من الخوف." فقال تادرس: "هذا الشخص هو أنا يا أبي، لأنني حينما حضرت بالأمس ولم أجدك، صعدت إلى سقف حجرة الاجتماعات، وفيما أنا مستغرق فى التأمل، وجدت أن سقف الحجرة يهتز من الخوف ونزلت، ودخلت الحجرة، ولكن لما أرتجف جسدى من هول ما رأيت، أسرعت بالخروج وأنا مملوء رعدة." فقال له آبا باخوميوس: "إن الله لكثرة مراحمه جعلك تهرب سريعاً من ذاك المكان." وحينما سمع الشيخ ذلك، امتلئوا جميعاً بالخوف وقالوا: "إن هؤلاء القديسين (باخوميوس وتادرس) يشبهون أولئك الذين فى السماء فى برارة أفكارهم ونقاوتها نحو الرب يسوع المسيح."  

        73. حدث فى أحد الأيام أن تادرس حضر إلى فابو لزيارة آبا باخوميوس الذى كان فى ذلك الوقت مريضا.  حينما وصل قال له فى الحال: "إذهب وحقق كم عدد الذين كانوا يتكلمون بالأمس وقت الخبيز؟" فذهب تادرس واستعلم عن الأمر ووجد أن خمسة من الأخوة كانوا يتكلمون. فرجع وأخبر آبا باخوميوس بذلك. عندئذ قال له: "يا تادرس هل يظن أولئك الخمسة أن هذه الأمور عالمية؟ أنا أؤكد أن أى أمر يعطى ولو كان بسيطا فهو مهم ويجب طاعته كأنه شئ ضروري جداً. فبنى إسرائيل حينما أعطيت لهم أن يطوفوا حول أريحا سبعة أيام فى صمت، صمتوا طاعة للوصية. ففي كلا الحالين نفذوا مشيئة الله المعلنة على يد رجاله الذين أعطوا الأوامر والوصايا. لذلك على الأخوة أن يكونوا حريصين، والله يسامحهم على ما فعلوه. ولو لم تكن هذه الوصية (الصمت أثناء العمل) نافعه لأرواحهم ما أعطيتها لهم." وكان القديس باخوميوس كثيرا ما يرسل تادرس لزيارة الأديرة الأخرى وافتقادها. وكثيرا ما أعلن وسط الأخوة قائلا: "إن تادرس يكمل نفس الخدمة الإلهية التى أقوم أنا بها فى الرعاية والاهتمام بالأديرة، وله نفس السلطة كأب ومسئول عن الأخوة."

        74.حدث مرة أن ذهب تادرس لزيارة أحد الأديرة، فقدموا له هناك أحد الأخوة كانوا قد اتهموه بالسرقة حتى يقوم بطرده من وسطهم، وكانت حياة ذلك الأخ مملوءة بالإهمال والتواني، على أنه فى الحقيقة لم يكن هو السارق بل آخر. ولما أدرك السارق الحقيقي أنه بسببه سوف يطرد ذلك الأخ، ذهب واعترف لآبا تادرس على انفراد قائلاً له: "إغفر لى يا أبي لأنني أنا الذى فعلت ذلك." فقال له تادرس: "الرب يغفر لك هذه الخطية التى ارتكبتها لأنه واضح براءة الأخ الذى في وسطنا." ثم استدعى الأخ الذى اتهموه ظلماً وقال له: "أنا أعلم أنك لم ترتكب هذه الخطية، وإذا كان الأخوة قد اتهموك ظلماً، فلا تنتفخ لكونك بريئا فى هذه المرة، لأنك بلا شك فد أخطأت إلى الرب فى أمور كثيرة أخرى. لذلك عليك أن تشكر الله وتحيا فى مخافته كل أيام حياتك." وعندئذ قال للأخوة: "إذا كنتم تثقون فى وفى الحكم الذى سأصدره بخصوص هذا الأخ، فأنا أرى أن إرادة الله هى أن نسامح هذا الأخ، لأننا كلنا فى الواقع فى حاجة إلى مراحم الله الوفيرة."   

        75. فى وسط جماعة طبانيس، كان هناك أخ مجرب بالمرض من الشيطان، هذا كان قد اركبه تادرس على حمار وأتي به إلى آبا باخوميوس فى فابو حتى يصلى من أجله. وكان آبا باخوميوس فى ذلك الوقت يتحدث إلى الأخوة بكلمة الله. فلما رآهما ترك الأخوة وقام ليستقبل تادرس. فتذمر بعض الشيوخ (الذين تذمروا من قبل على آبا باخوميوس عندما أقامه فى الوسط لكى يعظ الأخوة) وقالوا : "كيف يتركنا نحن الشيوخ ويذهب لمقابلة تادرس الشاب حديث السن." ولما استقبله قال له: "قبل أن تصل إلى هنا وأنا عندي كلام لك من الله. فالآن دع هذا الأخ المريض فى رعاية أحد الأخوة، وتعال أنت حجرة الاجتماعات." وعندئذ صلى آبا باخوميوس للأخوة وصرفهم ورجع كل واحد إلى قلايته. ولما رجع تادرس، أخذه آبا باخوميوس من يده وذهبا معا إلى حجرة الاجتماعات. وهناك ظلا واقفين للصلاة من الساعة الثانية حتى التاسعة. وعندئذ أبصر كلاهما عرشا عظيما يجلس عليه الرب يسوع المسيح، وكان هذا العرش يرتفع أحيانا إلى فوق حتى يصبح من العسير عليهم أن يروه وأحيانا أخرى ينزل ويقترب منهم جداً حتى يصبح من السهل عليهم أن يلمسوه بأيديهم. واستمر هذا العرش فى صعوده وهبوطه مدة من الزمن حوالي الثلاث ساعات.

وكان حينما يقترب إليهم العرش، أن آبا باخوميوس يخر ساجدا ويمسك تادرس كمن يحمله بين يديه، ويقدمه إلى الرب قائلا له: "أيها الرب تقبل منى هذه التقدمة." واستمر هكذا يردد تلك الكلمات مرات عديدة. حتى سمع صوتا يقول له: "صلاتك قد قبلت، فتشدد وتشجع." ثم قاما بعد ذلك وصليا على ذلك الأخ المريض حتى شفاه الله، وعوفي تماما كمن لم ير المرض من قبل، فقام تادرس ورجع معه جنوبا إلى طبانيس.   

        76. مرة كان آبا باخوميوس مع الأخوة فى طبانيس لأجل أعداد خبز العام كله لدير فابو حيث لم يكن به خبازون. وقد أوصاهم بألا يتحدث أحد منهم أثناء الخبيز بل يردد كل واحد ما يحفظه من الكتاب المقدس. ومتى احتاج العجانون إلى ماء للعجين فعليهم فقط أن يضربوا بأيديهم على العجين فيأتي لهم المسئولون بالماء. ولكن حدث بينما كانوا يعجنون أن أحدهم تكلم قائلا: "أريد كمية ماء." وكان آبا باخوميوس يقف بعيداً ولكن ملاك الرب أشار له على الأخوة الذين يتكلمون مع بعضهم بعضا وقال له: "انظر كيف يسلك هؤلاء الرجال، لقد كسروا الوصية التى أعطيتها لهم. والآن هل لو جاء تادرس ورفع يديه معتذرا، هل ستقبل اعتذاره؟" فأجاب آبا باخوميوس: "لا." ولما رجع تادرس وهو خجول مما حدث ورفع يديه يطلب المغفرة، تذكر حينئذ آبا باخوميوس قول الملاك، فغضب من تادرس جداً وأشاح بوجهه. فحزن تادرس وبكى. ولما سأل بعض الأخوة آبا باخوميوس عن سبب بكاء تادرس قال لهم: "اتركوه يبكى من أجل توانيه أمام الله." عندئذ أسند تادرس مسئولية الخبيز إلى آخر، واعتزل هو فى مكان بعيد حسب تعليمات آبا باخوميوس وظل هناك يبكي ويصلى بدموع إلى الله لأجل ما ارتكبه الأخوة. ولما أكمل ثلاثة أسابيع قال له آبا باخوميوس: "يكفيك هذا، ومن الآن فصاعداً عليك أن تكون حذراً ولاتكن مهملا حتى لا يحدث مثل ذلك وسط الأخوة فتدان أنت أمام الرب يسوع المسيح."

        77.لما رأى آبا باخوميوس أن تادرس يتقدم جداً فى النعمة وفى عمل الرب، قام بنقله من طبانيس وعين محله أخ يدعى آبا سوروس الصغير ليكون أبا للأخوة مكانه وأتى بتادرس إلى دير فابو ليكون مساعدا له. متشبها فى ذلك بموسى الذى اختار يشوع ليكون مساعدا له وعلى ذلك كان يرسله كثيرا إلى الأديرة لافتقاد الأخوة وتشجيعهم بكلمة الرب. كما كان مسئولا عن قبول الأخوة الجدد فى كل دير. كما كان على عاتقه أيضا أن يقوم بطرد الأخوة الذين لا يصلحون للرهبنة، متى دعت الضرورة لذلك، ولكن بموافقة آبا باخوميوس الذى كان يتمم مشيئة الله فى كل أمر.

78.فى أحد الأيام كان تادرس يعمل مع الأخوة فى أحد الأماكن وبعد انتهائهم من العمل جلسوا جميعاً للأكل. فلاحظ تادرس أن أحد الأخوة يأكل كثيراً من الكرات، وكان هذا الأخ قوى البنية حديث العهد بالرهبنة. وحينما انتهى تادرس من خدمة الأخوة وإعداد الطعام، ذهب واستند على الحائط، إذ كان يصوم يومين يومين وكان الجو شديد الحرارة. وقال للأخوة: "لا ينبغي للراهب أن يأكل كمية كبيرة من الكرات، لن ذلك يجعل الجسد قويا ويحارب الروح." وفيما هو يتكلم حضر آبا باخوميوس لكى يرى حال الأخوة فى العمل. ولما رأى أن تادرس يسند ظهره على الحائط، وقال له: "هل هذا الحائط عمل لكى تسند ظهرك عليه؟" عندئذ سجد تادرس باتضاع لآبا باخوميوس وكان ذلك حاله على الدوام إذ كان يسلك باتضاع فى كل شئ، حتى يصل إلى كمال الوصايا. وعلى أثر ذلك حزن جداً لأنه وبخ الأخ الذى أكل كثيرا من الكرات إذ حسب أن هذا التأنيب ربما لم يكن حسب مشيئة الله، وقال فى نفسه: "لماذا لم أنتظر وأصبر عليه؟ فقد كان ممكنا أن الله يحرك إرادته نحو الصواب، كما كان ممكنا أيضا أن يتعلم من الأخوة الذين يمارسون حياة الفضيلة، الطريقة المثلى لضبط الجسد." ولما عرف تادرس أن ذاك الأخ من وقتها لم يأكل كراتا قط، امتنع هو أيضا عن أكله إلى وقت رحيله حتى لا يدينه الله لأنه لم يحفظ نفسه من الشيء الذى ووبخ الآخرين عليه.

79. مرة رجع أحد الأخوة من الخارج واضعاً عباءته على كتفه بعد قضائه أمرا ما كان المسئول قد كلفه به. وعند عودته سأله تادرس: "من أين جئت؟" فلما سمع آبا باخوميوس من بعيد سؤال تادرس لهذا الأخ، قال له على انفراد: "يا تادرس كن ضابطا لنفسك ولا يكن لديك حب الاستطلاع بأن تسأل كل أحد أين كنت. بل فقط أسألهم عما يخص خلاص أنفسهم." عندئذ انتبه تادرس إلى هذه الكلمات وحفظها كل أيام حياته وكان دائما يقول لنفسه: "سواء كان هذا الأمر كبيراً أو صغيراً فلن أكرره ثانية."

80. فى يوم ما نحو الساعة السابعة من النهار، حيث كان الجو خارج الأبواب شديد الحرارة استدعى آبا باخوميوس تادرس وقال له: "تعال لنأكل قليلا من الخبز لأننا سنذهب إلى دير طومسون لافتقاد أحد الأخوة الموعوظين لأنه على وشك الموت." فقال له تادرس: "أمرك يا أبي." فذهبا إلى حجرة المائدة ولم يكن بها غيرهما. ولما وضعا الخبز فى الماء لكي يبتل، قال له باخوميوس: "هيا نقوم ونصلى." وعندما وقفا للصلاة، شاهدا شخصا يلمع جداً بالنور ويمد يده نحوهما قائلا: "أعطياني هذه الصلاة لكي أصعدها رائحة ذكية أمام الله." فسجد كلاهما إلى الأرض وتضرعا إلى الرب قائلين: "أيها الرب إلهنا فلتدركنا مراحمك." واستمرا فى الصلاة حتى المساء. وكان آبا باخوميوس يطلب كثيرا من أجل ذاك الأخ الموعوظ لكى يطيل حياته حتى يذهبا ويرياه قبل أن ينتقل. وفى المساء جلسا وأكلا ثم قام بسرعة وذهبا إلى ذلك الأخ، فوصلا إلى هناك فى منتصف الليل، وفور وصولهما دخلا إلى الأخ المريض. فقال الأخ المسئول لآبا باخوميوس: "إنه مريض منذ يومين وقد خفنا أن ننقله جنوبا لكى يعمد فيموت معنا فى الطريق." عندئذ قال له آبا باخوميوس: "ومادمت قد رأيت حالته متأخرة، لماذا لم تقم بعماده هنا؟" أجاب المسئول: "لا يوجد كاهن هنا." وفيما هم يتحاورون وقبل أن يسلم الأخ روحه إذ بأعين باخوميوس وتادرس تنفتح ويريان الملائكة وقد جاءت لتحمل الأخ سراً إلى فوق.

81. كان لفرط فضيلة آبا باخوميوس أن أعلن الله له رؤيا فى طريقة افتقاد ملائكة النور للأرواح الصالحة. فكشف له أن الأخ الذى يموت إن كان صالحا، يأتى ثلاثة ملائكة من نور ذوى رتبة روحية تتناسب مع قامة الأخ الروحية، لتأخذه إلى موضع النياح. وإن كانت قامته أقل تأتي ملائكة من ذوى الرتب الأقل. وقد رتب الله أن يكون الأمر هكذا حتى تفارق الروح جسدها فى هدوء واطمئنان كاملين. ولا تتعامل الملائكة مع أرواح البشر كما يتعامل سلاطين الأرض الذين يأخذون بالوجوه ويتأثرون بالغني والمجد الباطل، ويعاملون أولئك الفقراء والمحتقرين بحسب حالتهم من الفقر والحقارة، ولكن العدالة الإلهية قضت بأن يكون الحكم فى جميع الأحوال بحسب ما تممه الشخص من وصايا إلهية وما أنجزه من أعمال صالحة. وأولئك الملائكة يطيعون بعضهم بعضاً، فالملاك الذى فى درجة أقل يطيع ذاك الذى فى درجة أعلى. وفى اللحظات الأخيرة للإنسان يقف أحد الملائكة بجوار رأسه، وآخر عند قدميه فى مواجهة الشخص حيث يدهنه بزيت مقدس، بينما يبسط الملاك الثالث ثوبا روحيا واسعا ليستقبل فيه تلك الروح بكرامة عظيمة. وتكون تلك الروح ذات جمال ونقاء فائقين. وبعد أن تخرج الروح وتلف فى هذا الثوب الروحى، يمسك أحد الملائكة طرفي الجزء العلوي من الثوب ويمسك الآخر الطرفين السفليين أما الثالث فيقوم بالترتيل أمام تلك الروح بلغة لا يعرفها أحد قط. وحتى آبا باخوميوس لم يسمع منها إلا الكلمة الأخيرة التى كان الملائكة يرددونها وهى"هللويا" ثم يصعدون بالروح ناحية المشرق ويتقدمون بها عبر الهواء بحركة أنسيابية، مثل الماء المنساب، ويرتفعون بها إلى أعلى حتى أن الروح فى تلك الحالة تستطيع أن ترى المسكونة بأجمعها وجميع الخليقة فتعطى المجد لله خالق أما الثالث فيقوم بالترتيل أمام تل

كل تلك الخليقة. وبعد ذلك يعينون لتلك الروح المكان الذى خصصه الله لها لكى تستريح فيه. علاوة على أنها تريها أماكن العذاب التى تخلصت منها عن طريق بر وصلاح ربنا يسوع المسيح. وإذا كانت هذه الروح قد تتلمذت على يد أحد القديسين، يأخذونها الملائكة إلى رجل الله الذى علم تلك الروح مخافة الرب وقادها فى طريق الوصايا الإلهية، فيأخذ بدوره هذه الروح ويقدمها كتقدمه طاهرة عند أقدام الرب، ثم يبارك الله ويقول: "أبارك الرب إلهي وأسبحه فى جميع قديسيه." وبعد ذلك تقود الملائكة تلك الروح إلى مكان الراحة المعين لها من قبل الله، وقد تكون هذه الروح قريبة من الرب أو بعيدة عنه، وفقا لما أكملته من جهاد على الأرض، ومتى دخلت تلك الروح إلى الفردوس فإنها تعيش مرنمه ومسبحة الله فى كل حين. وهناك بعض من الناس حين يرون الله، يسبحونه ويشكرونه من أجل نقاوة قلوبهم قائلين:"طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله."  أما من يحيا بإهمال فإنه لن يستحق أن يعاين مجد الله لأن قلبه ليس نقيا أمامه. ولكن متى عاش أحد فى بساطة الإيمان فإنه يرى طبيعة ابن الله الرب يسوع المسيح متحداً بالناسوت بلا افتراق. وكذلك وفقا لاستحقاق من يموت، فإن القديسين أيضا يحضرون لمقابلة تلك الأرواح، ويقتربون منها ويقبلونها. كما أن هناك أرواحاً أخرى يحيوها من بعيد فقط. وأيضا حسب استحقاق كل إنسان فإنه يكلل فى الأبدية بالأكاليل التى  يستحقها. وحينما تقترب أرواح الأبرار من باب الحياة، يضع الرب فى فمها كلمات داود النبى فتقول:" افتحوا لى أبواب البر لكى أدخل وأمجد الرب." فيجيب الملاك الواقف على الباب قائلا: "هذا هو باب الرب والصديقون يدخلون فيه." وإذ كانت تلك الأرواح من تلاميذ رجال الله القديسين فإن الملائكة المصاحبة لهم نهتف قائلة: "افتحوا الأبواب لتدخل الأمة البارة الحافظة الأمانة. ذو الرأي الممكن تحفظه سالماً لأنه عليك متوكل."

        هذه الرؤيا العظيمة، قد رآها آبا باخوميوس فى دير طومسون بمناسبة انتقال ذلك الإنسان الموعوظ. وبعد رؤية كيفية عبور الأرواح البارة. سأل آبا باخوميوس الملاك عن كيفية عبور الأرواح الشريرة وكيف تترك أجسادها. فقال له الملاك: "متى كان الإنسان شريرا أثناء حياته على الأرض، فإنه عند موته، يحضر ملاكين بلا رحمه، ويقف أحدهما عند رأسه والآخر عند قدميه، ويبدآن فى ضرب هذا الإنسان وإثارة رعبه حتى تخرج روحه البائسة، ثم يضعان شيئا مثل السنارة فى فمه ويجران تلك الروح من الجسد التى فى حال خروجها تكون مظلمة جداً وقاتمة، فيجرونها إلى أماكن الظلام والعذاب أو إلى أعماق الهاوية حسب ما اقترفته من أعمال شريرة."

        فى الواقع هناك بعض من رجال الله القديسين الذين يسمح الله بعذابهم فى مرضهم الأخير فيجربهم ويمتحنهم فى أواخر أيامهم حتى يتنقوا من كل شائبة ويصيرون أكثر نقاوة وطهارة أمام الله. وكذلك من جهة أولئك الأبرار الذين جازوا الآلام الكثيرة قبل موتهم مثل اسطفانوس وكل الشهداء وأيضا أيوب، وداود وكثير من القديسين الذين تحملوا العذابات والضيقات من أجل الحياة الحقيقية. وإذا كان هناك كثير من الخطاة قد ماتوا دون أن يتألموا أو يعانوا من ضيق فى هذا العالم، فهذا إنما لأجل الضيق والعذاب الذى ينتظرهم هناك كما هو مكتوب: "أن الشرير محفوظ ليوم الشر." وهذا هو السبب الذى من أجله يتألم الصديقون وكما يقول الجامعة أن" حادثة واحدة للصديق وللشرير وللصالح وللطاهر وللنجس. للذابح والذى لا يذبح. كالصالح الخاطئ." وفى الحقيقة أن رب المجد ذاته قد تألم بل وعلق بين لصين واحد عن اليمين والآخر عن اليسار.

        تلك الأمور جميعها قد كشفها الله لآبا باخوميوس فى دير طومسون إذ قد فرح جدا حين رأى الأخ الموعوظ قد دخل إلى أماكن الراحة مع القديسين. وكان أنهم بعد أن حملوا ذلك الأخ ودفنوه فى الجبل بجوار الأخوة. رجع آبا باخوميوس ومعه تادرس بسرعة إلى دير فابو جنوبا وهم يمجدون الله ويشكرونه. 

        82. فى أحد الأيام كان تادرس جالساً فى حجرة الاجتماعات، فسمع الملائكة وهى ترنم ترنيماً عذباً فقام للحال وذهب لآبا باخوميوس، الذى قال له: "إنها روح بارة، تركت الجسد ومرت علينا فى طريقها إلى السماء، ونحن قد أعطينا نعمة سماع أولئك الملائكة الذين يرافقونها." وبينما هما يتكلمان نظرا إلى فوق فرأيا روح ذلك الأخ الذى انتقل وعرفاه من هو. وكان الرب كثيراً ما يفتح أعينهما فينظران ملاك الرب فى الهيكل مع الكاهن وهو يوزع الأسرار.

        83.    فى يوم آخر، كان آبا باخوميوس يجلس مع أحد الأخوة خارج الدير يتحدثان معاً فى الأمور الروحية. وكان قد أوصى تادرس أن يهتم برعاية الأخوة حتى يرجع. ولما قام تادرس فى منتصف الليل ليطمئن على الأخوة، وقف بعيداً ليصلى وفيما هو يصلى، صار فى نشوة روحية ورأى رؤيا، وهى أن الأخوة جميعاً يرقدون مثل الغنم التى تستريح وملاكاً فى وسطهم يحرسهم، ولما حاول تادرس أن يقترب من الملاك؛ إذ بالملاك يقترب منه ويضع فى فكره ما يريد أن يقوله قبل أن ينطق به، ثم قال الملاك: "من الذى يحرس الأخوة؟ هل أنت أم أنا؟" فاضطرب تادرس ورجع للحال إلى مكانه وقال له: "إذا كنا نظن أننا نحن الذين نحرس الأخوة فإن هذا ليس صحيحاً، وإنما الحقيقة الملائكة هم الذين يسهرون على رعايتنا وحراستنا نحن الخراف الروحية فى قطيع الرب يسوع المسيح. وهم أيضاً الذين يصدون عنا سهام العدو النارية." وكان هذا الملاك له شكل كجندى الملك، يحمل فى يده سيفاً نارياً مضيئاً ولابساً الملابس الملوكية المشرقة، كما كان يلبس منطقة حمراء ويخرج منها شعاعاً قوياً.

        84. ذات مرة أرسل آبا باخوميوس تادرس إلى دير تاكسمين لافتقاد الأخوة هناك. وبينما هو هناك فى الدير يصلى بالقرب من شجرة تين، نظر وإذ به يرى آبا باخوميوس فى دير فابو، وهو جالس يحدث الأخوة بكلمة الله. وكان تادرس يسمع الكلام الذى يقوله آبا باخوميوس للأخوة. فلما رجع قص على آبا باخوميوس ما حدث وكيف أنه رآه وسمع الكلمات التى قالها للأخوة فأخبره آبا باخوميوس وقال له: "يا تادرس إن ما سمعته هو بالضبط ما قلته للأخوة."

85. بينما كان آبا باخوميوس يصلى فى مكان ما منفرداً عن الأخوة الذين كانوا فى المجمع، نظر وإذ برب المجد جالس على عرش يشرح الأمثال الموجودة فى الإنجيل، وأخذ باخوميوس ينصت لكل الكلمات التى تخرج من فمه المبارك لتفسير تلك الأمثال. ومنذ ذلك اليوم كان آبا باخوميوس كلما أراد أن يحدث الأخوة بكلمة الله، كان يجلس فى ذات المكان الذى رأى فيه الرب يسوع وتكلم منه، وكلما كان يكرر نفس الكلمات التى نطق بها رب المجد كلما كانت الكلمات تخرج مصحوبة بقوة إلهية، حتى أن الأخوة كانوا يرتعبون من تلك الكلمات التى كانت كأنها نور خارج من فم آبا باخوميوس.

        86. فى أحد الأيام، حينما انتهى تادرس من العمل مع الأخوة، جلسوا جميعا لتناول الطعام وكان تادرس قد أعد طعاما خاصا للأخوة المرضى. وكان هناك أخ يدعى باتلول وهو شاب قوى الجسم، محارب باستمرار بالحروب الشبابية، قد اشتهى أن يأكل من الطعام الخاص. ولكن روح الله بكته على ذلك قائلا له: "إن هذا الطعام ليس لك وإنما للذين يحتاجونه، وأنت فى غير حاجة إليه، وأحذر من حرب الجسد." ولكن بالرغم من ذلك لم يخضع الأخ لتبكيت الروح، فذهب وأكل من هذا الطعام .وحينما انتهى الأخوة من الأكل وذهبوا كعادتهم لكى يستريحوا وينصتوا إلى كلمة الله. كان كل منهم يسأل تادرس عن أفكاره، فكان يجيب كل واحد بحسب ما يخص حالته لكى يقودهم للتوبة، فكان يقول لواحد إنك فاتر الهمة، ولآخر إنك واقع تحت عبودية الغضب و الثالث انك تتكلم مع الآخرين بجفاء، وهكذا. وأخيراً قال وأنا أرى واحد فى وسطكم يضع كل رجاءه فى وعاء الطبيخ. وللحال علم ذلك الأخ أنه هو المقصود بهذا الكلام فقام بسرعة وانحنى وسجد أمام الأخوة وقال لهم: "إغفروا لى لأنني لم أطع مشورة الرب التى وضعها فى قلبي فى الخفاء. ولم أخضع لصوت الروح فى ضميري، لذلك فإن الله يوبخني الآن علانية أمام الجميع." 

        87. فى أحد الأيام اختطف آبا باخوميوس لكى يرى عذاب الأشرار ومعاناتهم بعد الموت. ولكن لا يعلم أحد إن كان فى الجسد أم خارجه عندما رأى ذلك. فقد أراه الملاك أنهاراً وقنوات وحفراً مملوءة بالنار، تعذب فيها أرواح الأشرار. وبينما هو يتأمل ذلك، أراه الملاك مجموعة أخرى غير المجموعة الأولى، تتعذب بالنار أكثر، وهم يتلوون من شدة العذاب إذ قد أسلموا إلى ملائكة التعذيب الذين هم عديمي الرحمة، يمسكون بأيديهم سياطاً نارية، يضربونهم بها، فكانوا يتأوهون من شدة العذاب ولكن مع ذلك لا يقدرون على الصراخ من شدة الألم. وكان عدد تلك الأرواح كثيرة جداً لا يمكن حصرها. وتطلع فرأى أيضا بعضا من الرهبان يتعذبون فى ذلك المكان، فسأل الملاك قائلا: "ماذا فعل هؤلاء حتى جئ بهم إلى هنا؟" فأجابه قائلا: "إن هؤلاء الرهبان قد حفظوا إلى حد ما أجسادهم لأنهم كانوا يحيون فى المغارات متنسكين، ولكنهم كانوا يتحدثون بالشر ويدينون إخوتهم الذين يسكنون بجوارهم أو الذين يزورنهم، فكثيرا ما كانوا يتحدثون عنهم بالخير ويمدحونهم فى وجوههم وفى غيابهم يقذفونهم من أجل ذلك هم فى عذاب دائم." وكانت الملائكة التى تقوم بتعذيب تلك الأرواح، بلا أدنى شفقة فلم يكن عندهم شعور بأسف قط على أولئك الأشرار الذين يقومون بتعذيبهم. وعندما كانوا يتوسلون إليهم أن يرحموهم كانوا يزيدونهم تعذيبا. وحينما كان يؤتى بأرواح جديدة لكى تتعذب معهم، كانت تلك الأرواح تفرح، كما يفرح الأشرار بسقوط الآخرين. وبينما كان الملاك يرى آبا باخوميوس تلك الأمور، أخذه إلى مكان آخر به عدد كبير جداً من النفوس من كل الأعمار، يدفعهم الملائكة بجفاء نحو ذلك المكان ولما سأل آبا باخوميوس عنهم قال له الملاك: "إن تلك هى نفوس الأشرار الذين ماتوا اليوم فى العالم كله، وقد جئ بهم إلى هنا حتى يتم تصنيفهم كل حسب استحقاقه من العذاب." ثم أخذه الملاك إلى أسفل المكان، وقد كان الجحيم نفسه عميقا جداً ليس له قرار، ومظلم للغاية وشديد الحرارة. وقال له الملاك: "هذا هو السجن الإلهى، الذى حينما يدفع إليه الناس دفعا يصرخ كل منهم بأعلى صوته قائلا: "الويل لى لأنني لم أعرف الله الذى خلقني حتى كنت أخلص". وبعد ذلك لا ينطقون البتة بسبب شدة الحرارة وشدة الظلمة، كما لا يستطيع أحد أن يتعرف على الآخر لسبب الظلام والرعب الذى يعيشون فيه." ثم سار معه نحو الجنوب الغربي فرأى هناك عذابا أشد وأقسى من ذاك الذى رآه، إذ رأى قصر كبيراً جداً فى الطول والعرض والاتساع مملوء ناراً، وفيه كان يلقى كل الشباب الذين نجسوا أجسادهم بخطية النجاسة. وحينما انتهى الملاك من كشف تلك الأمور لآبا باخوميوس عزاه قائلا: "يا باخوميوس اشهد بكل ذلك أمام الأخوة وقص عليهم كل ما رأيته حتى لا يجيئوا إلى ذلك العذاب، فإن الله قد أرسلني إليك لكى أريك هذا حتى تكون شاهداً للأخوة ولكل العالم، فيتوبوا ويخلصوا."

        ومنذ ذلك اليوم كان كلما اجتمع آبا باخوميوس مع الأخوة لكى يعظهم كان يكلمهم بكلمات الإنجيل أولاً التى هى أنفاس الله ثم يحدثهم عن ذلك العذاب الأبدي الذى كان قد رآه، وما يعانيه الأشرار بعد الموت. حاثا إياهم أن يقتني كل منهم خوف الله محترسا من السقوط فى الخطية حتى تخلص أرواحهم من ذاك العذاب. 

   88. بعد أن بلغت شهرة آبا باخوميوس ومحبته لله كل مكان، حتى وصلت سمعته إلى بلاد روما أيضاً ، جاء منهم كثيرون ليصيروا رهباناً معه. وقد كان رجل الله يعاملهم معاملة حسنة، معلماً إياهم بكل ما يبنى نفوسهم وأرواحهم، متشبهاً ببولس الرسول الذى قال: "كنا مترفقين فى وسطكم كما تربى المرضعة أولادها." وكان فى الإسكندرية شاب يدعى تادرس له من العمر سبعة وعشرون عاماً، ولد من أبوين وثنيين، ولكن روح الله حركه لكى يعتمد ويصير مسيحياً، فقال فى قلبه: "إذا قادنى الله وصرت مسيحياً فإننى أصير راهباً، وسأحفظ جسدى طاهراً بلا نجاسة حتى أفارق هذا العالم."

وبعد ذلك ذهب تادرس إلى البابا أثناسيوس وأخبره بكل ما فى قلبه. عندئذ عمده رئيس الأساقفة ثم جعله قارئاً فى البيعة المقدسة، ودبر له مكان يعيش فيه فى الكنيسة، حيث كرس نفسه بالتمام لحياة النسك، ولم يكن يقابل أحداً من النساء قط سوى أمه وأخته. وحينما كان يقرأ الإنجيل فى الكنيسة لم يكن يسمح لعينيه أن تبصرا أحداً، متمماً تعاليم الإنجيل: "من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها فى قلبه." وقول المزمور: "أردد عينى لئلا تعاينا الأباطيل." وكان يسلك فى حياة الشركة مع الله كل حين، ينهل دائماً من مصدر الماء الحى القريب منه ألا وهو البابا أثناسيوس الرسولى. وبعد أن قضى اثنى عشر عاماً كقارئ فى كنيسة الإسكندرية، رأى أن بعضاً من الاكليروس يسلكون بانتفاخ قلب، ومحبين للمجد الباطل. فتوسل إلى الله باكياً أن يرشده إلى من يقوده فى الحياة التى تتفق مع مشيئته المقدسة، وبينما هو يصلى لأجل ذلك، إذ به يسمع بعضاً من الرهبان الموجودين يمتدحون حياة الشركة التى أوجدها الله على يد خادمه باخوميوس. عندئذ صلى تادرس إلى الله قائلاً: "أيها الرب يسوع المسيح اجعلنى مستحقاً أن أبصر خادمك القديس باخوميوس حتى آخذ بركة الحياة معه." فرتب الله أن يكون فى زيارة البابا أخوة من رهبان آبا باخوميوس، لقضاء بعض الحاجات، ولما سمع تادرس البابا وهو يسأل الأخوة عن آبا باخوميوس فرح جداً، وذهب وتحدث معهم عن طريق أحد المترجمين وقال لهم: "إننى أريد الذهاب معكم جنوباً إلى رجل الله آبا باخوميوس حتى أنال بركته." فأجابوه: "إننا لا نقدر أن نأخذك معنا بسبب والدتك، وبسبب رئيس الأساقفة." إلا أنه استطاع أن يأخذ من البابا تصريحاً ليذهب معه، وكتب البابا إلى آبا باخوميوس بخصوصه. فقام وذهب مع الأخوة حتى وصلوا إلى آبا باخوميوس الذى قبله بقبلة السلام، واستقبله بفرح إذ أحس بتواضعه ووداعته، كما قرأ ما كتبه البابا بخصوصه حتى يستقبله بفرح وبشاشة. ثم أسكنه فى أحد البيوت مع أحد الشيوخ الذين يعرفون اليونانية حتى يمكنه أن يكلمه ويعزيه، وهكذا تقدم تادرس فى النعمة وفى كل عمل صالح، نامياً فى السلوك الرهبانى حسب الوصايا التى يسلك بها الأخوة.

وفى أحد الأيام سأل آبا باخوميوس عن طريق أحد المترجمين، عن إيمان أولئك الذين يعيشون كمتوحدين فى الإسكندرية فأجابه: "بصلواتك المقدسة، يا سيدى الأب، هم ثابتون فى الإيمان المستقيم الذى للكنيسة المقدسة الجامعة. ولا يستطيع أحد أم يزحزح إيمانهم قط. متممين قول الإنجيل: "كونوا راسخين غير متزعزعين." كما وأنهم مملوءون من كل عمل صالح، وهم يتناولون كل أنواع الطعام بشكر وفقاً لما جاء فى الكتاب المقدس: "لأن كل خليقة الله جيدة ولا ترفض شئ إذا أخذ مع الشكر." فسأله آبا باخوميوس: "وهل من الممكن أن يأكلوا ويشربوا بإفراط ويظلوا محتفظين بطهارة الجسد؟" فأجابه: "فى كل شئ يا أبى طهارتهم عظيمة ومعرفتهم لله ظاهرة للجميع." وكان آبا باخوميوس يمسك عصا فى يده فطرق بها على الأرض وقال: "كما أن الأرض اليابسة لا تأتى بثمر، هكذا أيضاً الأجساد المتنعمة لا تعطى ثمر الطهارة لأن الإنجيل يقول: "الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات." فلما سمع تادرس ذلك تعجب من تلك التعاليم الروحية. وقد حدث بعد ذلك أن الأخوة ذهبوا إلى الإسكندرية كعادتهم، ولما رجعوا سألهم تادرس عن حال الأخوة النساك هناك فأجابوه: "إن بعضاً منهم قد سقط فى خطية النجاسة وآخرين قد انحرفوا بغباوة عن الطريق الصحيح." فلما سمع ذلك تعجب جداً متذكراً قول آبا باخوميوس بصددهم وكيف أنه قارن بينهم وبين تلك الأرض التى لا تثمر وأن الإنسان الذى يأكل إلى الشبع ويمتلئ بكل أصناف الطعام لا يثمر قط.

فقام تادرس للحال وسجد وقبل رجلى آبا باخوميوس من أجل الحكمة الإلهية الساكنة فيه، وشكر الله على تلك التعاليم الصحيحة التى سمعها من فم رجل الله القديس. ولما لاحظ آبا باخوميوس أن تادرس هذا قد أحرز تقدماً كبيراً فى حياة الفضيلة والمعرفة الإلهية، عينه مسئولاً عن منزل الأجانب الذين أتوا ليصيروا رهباناً معه. وكان الله قد أعطى آبا باخوميوس نعمة التكلم باليونانية، لكى يعظهم بكلمة الإنجيل وحتى يرشد تادرس ويقود أولئك الأخوة الذين صاروا تحت قيادته.

89. فى إحدى المرات قال له على انفراد: "إذا رأيت إنسانا فى منزلك متوانيا فى خلاصه، عليك أن تنبهه لأجل خلاص نفسه فإذا غضب، تأنى عليه وانتظر حتى يحرك الرب قلبه. لأن هذا الأمر يشبه إنسانا يريد أن ينزع شوكة من رجل آخر، فمتى انتزع الشوكة حتى لو تسبب فى نزف بعض من الدم فإن ذاك الإنسان حتما سيستريح بعد ذلك. ولكن إذا لم يوفق فى نزع الشوكة بل دخلت إلى مكان أعمق فإن عليه أن يضع عليها مرهما، وبالصبر واللطف ستخرج الشوكة من ذاتها، وعندئذ يستريح وهكذا الحال أيضا مع الإنسان الذى يغضب من الذى يوجهه لخلاصه. واعلم أنه كلما كان المسئول شفوقا عليه كلما استجاب للنصح والإرشاد. أما إذا هاج ذلك المخطئ ولم يقبل المشورة فأخبرني ونحن سوف نتصرف معه كما يرشدنا الله. اهتم جدا برعاية المرضى أكثر من الاهتمام بنفسك. مارس ضبط النفس فى جميع الأوقات. احمل الصليب أكثر من الآخرين لأنك صرت أبا لهم. وكن مثالا للأخوة وقدوة لهم فى كل شئ وفى كل ما تعلمهم به. ومتى صادفك أمر لا تعلم كيف تتصرف فيه بحكمة، فأخبرني وبمعونة الرب سنصل معا إلى حل نعمله بعد ذلك."

90. مرة سأل تادرس الإسكندري آبا باخوميوس بخصوص كرنيليوس فقال: "لقد سمعت عنه أنه قد صار نقى القلب حتى أنه لم يعد فى قلبه أى فكر شرير طوال فترة الصلاة بالمجمع. فكيف بلغ ذلك؟ مع أننى حاولت مرارا وتكرارا، وجاهدت فى الصلاة كثيرا، حتى لا يكون هناك فكر آخر غير فكر الصلاة، ولكنني مع ذلك لم أفلح، سوى فى ثلاث مرات فقط، استطعت فيها أن أقطع الأفكار التى تشوش على أثناء الصلاة." فأجابه آبا باخوميوس: "سوف أشرح لك هذا الأمر بمثل حتى تتشجع؛ إذ رأى عبد إنسانا فقيرا ولكنه حر، فإنه لا شك سيشتاق إلى تلك الحرية التى يعيشها ذلك الإنسان وكذلك متى رأى هذا الإنسان الفقير قائدا كبيرا، فإنه حقا سيشتهى أن يكون مثله وأيضا متى رأى هذا القائد ملكا، فإنه سيشتهى أن يكون مثله، وهكذا فإن كل واحد سيشتهى الدرجة العليا التى يرى غيره عليها. وينبغى أن تعلم أن كرنيليوس قد جاهد حتى حصل على ثمار الروح القدس بمعونة الله التى أعطاها له. فعليك أنت إذن يا تادرس أن تتبع خطواته فى كل جهاده وكن شاكرا لله فى كل شئ، واحفظ وصاياه بكل قلبك، وبذلك لن يخضع فكرك لعدو الخير فى أى وقت." فلما سمع تادرس هذا الكلام ذهل من المعرفة الإلهية التى تملأ قلب رجل الله.

        وكان تادرس ينصت إلى كلام آبا باخوميوس لاسيما عندما يحدث الأخوة بكلمة الرب، وحين يرجع إلى المنزل كان يعيد كل ما سمعه باليونانية على الأخوة الموجودين معه. ويطلب إليهم أن يمارسوا الكلمة التى سمعوها وأن يسلكوا بمقتضاها حتى يثمروا. وكان من بين الثمار الروحية فى ذلك البيت (بيت الأجانب) أوسونيوس الكبير واسونيوس الآخر، وكذلك نون وهم من الإسكدرانيين ومن بين الأروام؛ فيرموس وموليوس ودومانيوس الأرمني.

        وقد استمر تادرس الأسكندري مسئولا عن إدارة هذا البيت لمدة ثلاثة عشر عاما حتى انتقل آبا باخوميوس إلى موضع النياح. وقد ترجم إلى اليونانية كل التعاليم التى سمعها من آبا باخوميوس وكذلك كل تعاليم آبا أورزسيوس

91. حدث فى دير فابو أن عشرة من الأخوة الذين قضوا زمنا فى حياة النسك والطهارة، قد بدأوا يتذمرون على آبا باخوميوس بسبب وعظه لهم ونصحهم لأجل خلاصهم وشفاء أرواحهم. ولكن مع ذلك، وضع رجل الله على عاتقه أن يسهر ويصلى من أجلهم، ويتضرع إلى الله صائما أن يمنح الله هؤلاء الأخوة روح التوبة حتى يرجعوا عن أخطائهم، وفعلا استجاب الرب لصلواته، وتابوا جميعا، الواحد بعد الآخر حتى رقدوا جميعا بسلام.

92.       فى أحد الأيام انتقل أحد الأخوة، فأمر آبا باخوميوس بعدم ترتيل المزامير عليه أو الصلاة لأجله بل وأكثر من ذلك فإنه أمر بحرق ملابس الرهبنة الخاصة به وسط الأخوة جميعا، حتى يضع فى قلوبهم الخوف والسهر على خلاص أرواحهم. أما عن خطايا الأخ وكيفيه سلوكه فلا نعلم عنها شيئا. وإنما الذى نعلمه أن رجال الله القديسين لا يعملون شيئا بدون داع، لأنهم فى كل حين يرضون الرب بأعمالهم. سواء كانت هذه الأعمال صلاح مارسوه أو قسوة وشدة طبقوها على الآخرين لخلاصهم.

93. حدث مرة أن مرض آبا باخوميوس، حتى اقترب من الموت. فاجتمع كل آباء الشركة والأخوة فى دير فابو حول تادرس وقالوا له: "اعطنا وعداً بأنه لو افتقد الرب آبا باخوميوس، تصير أنت مسئولاً عنا، وأباً لنا بعده، حتى لا نصير أيتاماً وغنماً لا راعى لها. لأنه لا يوجد بيننا من يشبهه فى الفضائل غيرك." إلا أن تادرس لشدة اتضاعه لم يجبهم قط، ونظراً لزهده فى المناصب القيادية وحتى لا يسقط فى المجد الباطل، فقد رفض طلبهم. ولكن تحت إلحاحهم المستمر وطلبهم المتوالى، وافق أخيراً وقبل. على أن ذلك الأمر الذى رتبوه بين أنفسهم لم يكن خافياً على رجل الله باخوميوس، فحين تحسنت صحته قليلاً، قال للأخوة: "ليعترف كل واحد منكم بتقصيره." فقال تادرس على الفور: "منذ سبع سنوات حتى الآن وأنا معك، ورغم أنك أرسلتنى كثيراً لزيارة الأخوة وافتقادهم فى الأديرة الأخرى فكنت أقودهم بذات القواعد والنظم التى وضعتها. ولكن الله وحده يعلم إننى لا أفكر قط فى قيادتهم من بعدك ولا فى أنى سأصير أباً لهم. ولكن حتى لا أكون كاذباً ويتم فىَّ قول الكتاب "تهلك المتكلين بالكذب." فإننى لا أخفى عليك أننى تحت إلحاحهم المستمر قبلت ذلك ووافقت عليه." فقال آبا باخوميوس أمام جميع الأخوة: "والآن اذهب إلى مكان منعزل بعيداً عن الأخوة، وصلى هناك إلى الرب حتى يغفر لك خطيتك هذه." فذهب تادرس إلى مكان منعزل كان قد اعتاد أن يذهب إليه ويمارس أصواماً، وظل يبكى إلى الله نهاراً وليلاً بدموع كثيرة وتنهدات عديدة، ولم يكن ذلك من أجل رتبة فقدها، وإنما من أجل قبوله أفكار العظمة وموافقته فى قلبه على مجد الرئاسة. وقد مر عليه فى ذلك الوقت أخ، فرآه على تلك الحال من البكاء والانسحاق، فقال فى نفسه: "لماذا لم يترك الدير ويرحل." وفى أثناء الليل خرج تادرس من عزلته لقضاء حاجة ما، فتتبعه ذلك الأخ ليرى إن كان سيرحل أم لا، ولكن تادرس لم يكن يفكر فى هذا قط، بل لما أحس بفكر هذا الأخ من نحوه، صلى إلى الله قائلاً: "أيها الرب إله أبى باخوميوس خلص هذا الأخ من الأفكار غير المستقيمة التى دخلت قلبه من نحوى."

وبعد فترة حينما أعطيت إشارة بدء صلاة المجمع، قام تادرس وذهب إلى المجمع فى وسط الأخوة وقال لهم: "صلوا من أجلى أيها الأخوة، حتى يغفر لى الرب الخطية التى ارتكبتها، لأننى سكرت بخمر الإثم دون أن أعلم." ثم انحنى وسجد إلى الأرض وبكى كثيراً، حتى أبكى الأخوة معه ثم قام ورجع إلى عزلته، واستمر فى تذللـه أمام الرب باكياً الليل والنهار. حتى إن الأخوة الذين كانوا يمرون من هناك ويسمعون صوت بكائه كانوا يبكون هم أيضاً لأجله. وكثيرون من الشيوخ الذين كانوا يحضرون عنده لكى يشجعوه كانوا يسألونه قائلين: "هل أنت تبكى وتتألم كثيراً لأن آبا باخوميوس قد جردك من كل رتبة؟.." فكان تادرس لا يسمح لأى منهم أن يتحدث بمثل هذا الكلام الجسدانى، بل كان يجيبهم فى اتضاع: "إننى لا أبكى لهذا السبب الذى يحاول عدو الخير أن يضعه فى فكركم، بل إننى أبكى من أجل الخطيئة التى ارتكبتها أنا أمام الرب." ثم ابتدأ هؤلاء الشيوخ ينتقدون آبا باخوميوس فى حضور تادرس، ظانين أنهم يشجعونه بذلك وقالوا: "وماهى سقطتك يا تادرس حتى يعاملك آبا باخوميوس بهذه الطريقة، أليس واضحاً للجميع أنك أنت ستحل محله، بعد نياحته. فلماذا إذن يجردوك من كل مسئولياتك." فلما سمع تادرس هذه الكلمات حزن جداً، خاصة وأنهم انتقدوا آبا باخوميوس رجل الله فى حضوره،  فرد عليهم قائلاً: "لا تظنوا أن آبا باخوميوس قد فعل ذلك دون أن أكون مستحقاً له، بل إن كل ما عمله، إنما هو لأجل خلاص نفسى وحتى أكون مستحقاً للرب." وحينما أقنعهم بكلماته المملوءة اتضاعاً، انصرفوا من عنده، وهم يمجدون الله الساكن فى تادرس، وانتفعوا كثيراً من كلماته. وبعد انصرافهم جاء شيخ آخر يدعى تيطس لكى يشجع تادرس، فقال له: "لا تحزن يا تادرس بسبب ما فعله معك آبا باخوميوس، لأن الله يعلم أنك لو تحملت ذلك باتضاع وشكر، فإن ذلك سيؤول لك بركة ومجداً عظيماً، كما حدث مع أيوب البار." وأخذ الشيخ يشجعه كثيراً بمثل هذا الكلام ثم تركه ورجع إلى منزله. فتعزى تادرس بكلمات هذا الشيخ كثيراً، واعتبرها مرسلة له من الرب ذاته لخيره ومنفعته. فقام وصلى، ثم أخذ الكتاب المقدس وفتحه، فكان هذا الفصل: "سأرجع بعد هذا وأبنى خيمة داود الساقطة وأبنى أيضاً ردمها وأقيمها ثانية. " وللحال تعزى بهذه الكلمات التى قالها الرب على فم عاموس النبى.

وكان هناك أحد الأخوة قد زرع الشيطان فى قلبه أفكاراً رديئة من نحو تادرس، الذى قال فى نفسه: "لاشك أن تادرس قد ارتكب خطية عظيمة حتى تصرف آبا باخوميوس معه هكذا وأقاله من رتبته." وجاء هذا الأخ إلى تادرس وقال له: "هل الكلام الذى سمعته أنا من فم أبينا باخوميوس صحيح؟ فقد سمعته يقول: "لقد نزعت كل سلطة من تادرس، ليس فقط بسبب اشتهائه الرئاسة وإنما لأنه أمسك فى خطية النجاسة." فلما سمع تادرس هذا الكلام بكى وامتلأ حزناً وفكر فى نفسه قائلاً: "لو قلت إننى لم أفعل هذا الشر، لجعلت آبا باخوميوس كاذباً وفقاً لما قاله ذلك الأخ من أنه سمع هذا الكلام من فمه، وإذا قلت حقاً قد فعلت ذلك، فإننى أصير كاذباً، لأن هذه النجاسة لم ارتكبها منذ ولادتى حتى اليوم." فابتدأ تادرس يزرف الدموع الغزيرة بلا توقف ولم يرد على الأخ بكلمة قط، بل ازداد فى البكاء جداً حتى تحير الأخ فى أمره، ثم تركه ومضى.

فقام تادرس للحال ووجه كلماته للشيطان قائلاً: "الويل لك أيها الشيطان لأنك وضعت هذه الأفكار فى قلب ذاك الأخ حتى يقتلع من قلبى جذور الحب التى فيه من نحو رجل الله القديس باخوميوس، الذى أنقذ نفسى من جميع شباكك وحيلك المملوءة خداعاً." ثم قام وجاء إلى آبا باخوميوس من خلفه وأخذ يقبل رأسه عدة مرات ولم يكن آبا باخوميوس يعلم من الذى قبله. ولما سأل الأخوة، قالوا إنه تادرس، فقال له: "يا تادرس تعال اجلس بجوارى." فقال له تادرس: "لقد وجدت من كنت أسأل عنه." ثم تركه ورجع إلى مكان عزلته ولم يخبر أحد لماذا حضر لكى يقبل رأس الشيخ، كما لم يسأله أيضاً آبا باخوميوس لماذا فعلت هكذا؟

94. بينما كان تادرس فى عزلته يمارس التوبة، إذ بآبا باخوميوس يقال له فى رؤيا ، أن يرسل تادرس إلى أحد الأديرة ليفتقد الأخوة، وبهذه الطريقة يتعزى ويجد راحة، فأرسل له آبا باخوميوس وقال له: "قم عاجلاً واذهب إلى دير طومسون، لتفتقد الأخوة هناك وتعرف كيف حالهم." فأطاعه تادرس فى اتضاع شديد، وخرج فى طريقه إلى دير طومسون كما أمره. ولما وصل إلى صانسيت، جلس على شاطئ النهر ينتظر مركباً لكى يستقله إلى الشاطئ الآخر. وحينما جلس اقترب منه ملاكان فى هيئة اثنين من الرهبان الشيوخ وجلسوا بجواره. فابتدأ الأول يمدحه كثيراً ويثنى عليه قائلاً له: "طوباك يا تادرس لأنك احتقرت العالم وكل اهتمامه، واضعاً ذاتك تحت قدمى الرب." فاستوقفه الثانى وكأنه تضايق وقال له: "كف عن مدحه لأنه إنسان تعس وشقى، وهو لم يصل بعد إلى المرتبة التى يستحق فيها كل هذا المديح، وعندما تراه قد نما فى القامة ووصل إلى مرتبة ذاك الرجل حامل القفة، فحينئذ تستطيع أن تمدحه كما تشاء." فسأل الملاك الأول رفيقه: "وما قصة الرجل حامل القفة هذه؟" أجابه: "أنصت لى وأنا أحكيها لك كما سمعتها، فقد كان هناك إنسان صاحب أرض، قاسى جداً فى معاملته مع الفلاحين العاملين فى أرضه. لذلك لم يستطع أحد منهم أن يستمر فى العمل طويلاً معه، بل كانوا يتركونه ويذهبون فى طريقهم. ولكن بعد ذلك جاء إنسان (حامل قفة) وقال فى نفسه: "مع أنه لم يقدر أحد أن يكمل معه عاماً واحداً بسبب قسوته الشديدة وسوء معاملته، إلا أننى سوف أذهب وأعمل معه، لمدة عام كامل، وأكون خاضعاً له فى كل أمر حتى أتعلم مهنة الزراعة. وهكذا قام وذهب إليه وطلب منه أن يعمل عنده طوال ذاك العام." فقال له صاحب الأرض: "بكل سرور ولكننى أريد أن الذى يعمل معى يطيعنى فى كل شئ." فوافق الرجل وقبل أن يعمل معه بكل صبر.

ولما جاء وقت العمل فى الحقل قال صاحب الأرض لذلك الإنسان: "الآن نحن ذاهبون للعمل وأنا لا أريد أن تعمل السواقى لرى الأرض فى النهار، بل يكون ذلك فى الليل." فأجاب الرجل: "نعم إنها فكرة كلها حكمة، لأننا لو روينا فى النهار، فإن الطيور والبهائم، سوف تأتى وتشرب من هذا الماء، ولكن إذا روينا فى المساء، فإننا لا شك سندخر كل الماء، وعندئذ نستطيع أن نروى كل الأرض."

وحينما جاء وقت حراثة الأرض، قال صاحب الأرض للرجل: "ليكن هناك أحواضاً للزرع، بعضها للعدس، والآخر للذرة، والثالث للشعير، وأنواعاً أخرى من الحبوب، وهذه هى الطريقة التى ستبذر بها." فأجاب الرجل هذا عين الحكمة يا سيدى وهى فكرة أكثر فطنة من الأولى، لأننا لو زرعنا بهذه الطريقة فإن الحقل سيصير أكثر جمالاً وازدهاراً وإثماراً." وبعد أن بذروا البذور، نبتت الجذور وارتفعت السيقان وقبل أن ينضج المحصول، قال صاحب الأرض: "هيا نحصد الحقل لأنه جاهز للحصاد." فقال الرجل بكل لطف: "إنه لا توجد حدود لحكمتك يا سيدى، لأننا لو حصدنا الآن قبل نضج المحصول بالكامل وقبل أن يجف، فإننا لن نفقد شيئاً منه حين يقع على الأرض بل سنستفيد منه كله بالتمام." ولما جمعوا المحصول كله أخذوه للدرس، قال صاحب الأرض: "هيا احضر القفة حتى نجمع فيها التبن وننقله إلى المكان المعد له، فنجده عند الاحتياج إليه." فأجابه: "إن هذه الفكرة كلها صواب أكثر من كل سابقاتها، لأننا لو تصرفنا هكذا فى القش بعناية، فإنه حتماً سيكون محفوظاً تماماً فى مخازننا وقريب منا."

فلما وجد صاحب الأرض أن الرجل أطاع وخضع له فى كل شئ ولم يخالفه قط بل ونجح فى كل الاختبارات التى اختبره فيها وأنه لم يرجع عنه طوال الفترة التى عمل فيها واستمر معه حتى نهاية العام، تعجب منه جداً وقال له: "الآن علمت تماماً أنك تستطيع أن تقيم معى دائماً، لأنك سلكت معى فى كل شئ حسب إرادتى، وكنا نحن الاثنين كرجل واحد، فلذلك ستمكث معى على الدوام." وهكذا استمرا معاً يعملان سوياً وعاشا فى سلام حتى نهاية حياتهما."

وعندما انتهى الملاك من سرد القصة، قال له الملاك الآخر: "لقد سمعت منك اليوم مثلاً رائعاً، ولكننى أريدك تفسره لى." فأجابه قائلاً: "إن صاحب الأرض الحقيقى هو الله والاختبارات التى يختبرها مع أولئك الذين يعملون معه، هى التجارب والمحن التى يسمح بها الله حتى يسيروا حسب مشيئته فى كل أيام حياتهم. والآن متى كان أحد خادماً لله، فعليه أن يخضع له ويطيعه فى كل شئ كخادم حقيقى له. ولا يمكن للإنسان أن يحتمل التجارب الآتية عليه، مالم يقل فى نفسه: "إنى جاهل فى كل شئ." كما أوصى الرسول: "لا يخدعن أحد نفسه إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم فى هذا الأمر فليصر جاهلاً لكى يصير حكيماً." وهكذا متى تحمل هذا الراهب (مشيراً إلى تادرس) كل الاختبارات التى يمتحنه بها أبوه، فإنه سيصير مختاراً ومباركاً من قبل الرب يسوع المسيح."

وكان الملاكان اللذان ظهرا فى شكل راهبين شيخين يتحدثان مع بعضهما، وتادرس يجلس بجوارهما يسند رأسه على ركبتيه وينصت إليهما فى إصغاء تام، ولم يعرف أنهما ملاكان، وكان متعزياً جداً من كلامهما. ولما وصلت المركب نزل ثلاثتهم إليه، وحينما وصلوا جميعاً إلى الشاطئ الآخر نظر تادرس فلم يبصرهما إذ كانا قد اختفيا من أمامه، فللحال أدرك أنهما ملاكان. فسار فى طريق باكياً، متأثراً من الكلمات التى سمعها من أفواه الملائكة، حتى وصل إلى دير طومسون وهناك استقبله الأخوة بفرح. وبعد أن افتقدهم واطمأن عليهم جميعاً حسب وصية آبا باخوميوس رجع إلى فابو وهو يبكت ذاته قائلاً: "أخطأت إذ سمحت للمجد الباطل أن يتسلل إلى قلبى."

95. كان أحد الشيوخ يدعى زكا رئيساً للنوتية، ولما حان وقت رحيل أحد المراكب إلى الإسكندرية، جاء وتوسل إلى آبا باخوميوس لكى يرسل معه تادرس حتى يشرف على البحارة الذين بالمركب، وحتى يتعزى أيضاً فى تجربته، حيث كان هناك خوف على عينيه من كثرة البكاء. فَسُرَّ آبا باخوميوس بهذا الطلب وأرسل تادرس يستدعيه لكى يبحر مع زكا على تلك المركب.

وأرسل خطاباً إلى البابا أثناسيوس رئيس الأساقفة. فكان تادرس يتعامل مع جميع الذين على المركب بكل اتضاع، حانياً رأسه إلى أسفل، وخاضعاً لهم فى كل شئ، كالطفل الصغير. وحينما كانوا يجلسون للأكل، ويفسحون له مكاناً. كان يرفض ذلك حتى ينتهوا جميعاً من الأكل ثم يجلس هو أخيراً ليأكل، وهو يتلو فى داخله كلام الله، بلا توقف، وأحياناً كثيرة كان يقضى الليل كله وهو يردد ويلهج فى أقوال الله المدونة فى الأسفار المقدسة وحينما كانت المركب تصل إلى الشاطئ، كان هو أول من يقفز منها لكى يربطها فى الوتد المعد لها. وعندما كان يرسل مع أحد الأخوة فى أى مهمة، كان يوصى الأخ الذى معه قائلاً: "إذا أردت أن تصنع معى معروفاً فجاوب أنت على كل من يسألنا، وعليك أن ترد على كل من يحيينا." ولما وصلوا إلى الإسكندرية، قابله البابا أثناسيوس، وتعجب من حياته وأرسل مع الأخوة خطاباً إلى آبا باخوميوس، يمتدح فيه تادرس الذى سمع عنه كثيراً، وكان مشتاقاً أن يراه.

فلما رجعوا بالمركب إلى الجنوب، استقبلهم آبا باخوميوس بفرح، وقبل جميع الأخوة بابتهاج وسألهم عن حال الكنيسة، فأجابوه: "نشكر الله على معونته، لأنه ببركة صلواتك بدأ السلام يحل فى الكنيسة. وقد كان آبا باخوميوس حزيناً جداً بسبب أريوس وما ابتدعه فى الكنيسة، وكان يصلى دائماً من أجل سلام الكنيسة الجامعة التى كانت تخوض فى ذلك الوقت محنة بسبب الآريوسية. وكان دائماً يقول: "إن الرب قد سمح بذلك من أجل امتحان الإيمان وتذكيته ولكنه حتماً سيعاقب أولئك الأشرار حسب استحقاقهم."

96. بعد أن تحدث آبا باخوميوس مع الأخوة عن تادرس قال لهم: "لا تظنوا يا أخوتي أن تادرس قل اعتباره أمام الله، بسبب أنه قد فقد رتبته أمام الناس، كلا فإنه على العكس فقد تقدم كثيراً عما كان عليه سابقاً، ولأجل اتضاعه فقد احتمل كل شئ فى صبر، وتم فيه قول الإنجيل "من يضع نفسه يرتفع." وفى الواقع أنا و تادرس نكمل نفس الخدمة وبذات الروح." هذا وقد كان تادرس يتبع خطوات آبا باخوميوس حتى يوم نياحته، وحيثما كان يرسله لزيارة الأخوة كان يجلس ويعزيهم بكلمة الله.     

97. عندما كان الأخوة يرون آبا باخوميوس يجلس على الأرض، أو مكاناً غير مريح، كانوا يحضرون له شيئاً يجلس عليه، فكان يرفض ذلك ويقول لهم: "ما دام جسدى غير مريض، فلن أقبل ذلك، لأنه كيف سأكون خادماً للرب فى الدهر الآتى وفى حضرة جميع القديسين، وأنا هنا أمتع جسدى وأرفهه. فالإنجيل يوصينا: "من أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادما. ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبدا. كما أن ابن الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم و ليبذل نفسه فدية عن كثيرين." وعلى ذلك يجب أن أن نخدم بعضنا بعضاً، ولا ننتظر خدمة الآخرين لنا." وكثيراً ما كان آبا باخوميوس يحث الأخوة على ألا يفقدوا ثقتهم فى الله، ومرة قال لهم: "قد كشف لى الله أن الإنسان إذا لدغته حية أثناء عمله وتألم فعليه ألا يتوقف عن العمل بل يحتمل الألم فى صبر كأنه من المسيح، ويصلى على الدوام بثقة قائلاً: "لا يوجد لى دواء غير اسم الرب." 

وفى أحد الأيام كان آبا باخوميوس فى المجمع فى وقت الصلوات النهارية، ولما ابتدأ يحدث الأخوة بكلمة الله، نظر إلى المدخل عند الباب، فرأى روح ظلمة يجلس هناك. وكان فوق المكان الذى يجلس فيه آبا باخوميوس طاقة مغلقة بحصيرة عليها قالبان من الطوب. ولما أراد أحد الأخوة أن يفتح الطاقة ليدخل الضوء إلى المكان، وقع الطوب على رأس آبا باخوميوس ففزع الأخوة، وصرخوا ظانين أن الطوب هشم رأسه. ولكن رجل الله الذى كان يعلم أن ذلك سيحدث بسبب ذاك الذى رآه جالساً عند الباب. لم يفزع البتة ولم يتحرك ساكناً، بل كل الذى فعله أنه غطى رأسه بيده، واحتمل الصدمة بشكر. وأشار للأخوة بالسكوت. وبعد ذلك لما سأله الأخوة عن مدى إصابته أجابهم قائلاً: "قبل أن يقع الطوب على رأسى، كنت أحس بصداع أما الآن فقد فارقنى الصداع بسلام." وكان يتمم قول الرسول: "كونوا شاكرين فى كل شئ." وفى نفس الوقت كان يثق أنه لن يمسه سوء إلا بسماح من الله.

وفى يوم آخر أثناء موسم الحصاد حيث اعتاد أن يعمل مع الأخوة فى النهار وعند المساء وهو يعظ الأخوة، جاءت حيتان والتفتا حول قدميه، ولكنه مع ذلك لم يلتفت لهما البتة، بل وحتى لم ينظر إلى قدميه ليحركهما ولما انتهى من حديثه وقف وصلى وصرف الأخوة فرجع كل واحد منهم إلى قلايته، ثم بعدها طلب مصباحاً، ولما أحضروه أبصر الحيتان ملفوفتان فقتلهما، وأعطى المجد لله الذى يخلص الذين يترجونه."

98. فى ليلة ما، بينما كان أحد الأخوة، ويدعى بولس، وهو شيخ ناسك، واقفا يقرأ الإنجيل إذ بحية تلدغه فى رجله، ولكنه مع ذلك لم يتوقف عن القراءة، بل وأكثر من ذلك، فقد استمر يلهج بكلام الله من المساء حتى الصباح. ولما جاء الصباح كان السم قد سرى فى جسده حتى وصل إلى قلبه وكاد أن يسلم الروح، ولكنه صرخ إلى الله قائلا: "لن أكف عن الصلاة حتى تمنحني الشفاء والراحة، وحتى لو تألمت من اضطهاد مريع أو عذاب شنيع فلن أنكرك أو أكف عن طلبك." ولما علم بأمره أحد الأخوة أوصاه ألا يخبر أحداً بما حدث له، حتى لا يفقد المكافأة من عند الرب بعد موته. ولكن الأخ ذهب وأخبر بقية الأخوة، الذين جاءوا والتفوا حوله، ورأوا الثعبان الذى لدغه ملقى ميتا تحت قدميه، وهو قد شفى، فتعجبوا جدا ومجدوا الله.

99. حدث مرة أن ذهب الأخوة فى خدمة خارج الدير، ولما رجعوا أخبروا آبا باخوميوس بأن هناك مجاعة ووباء فى العالم، الأمر الذى يهدده بالخراب فى ذلك الوقت. فلما علم بذلك صام يومين متتاليين وقال: "لن أذوق طعاما، مادام بقية أعضائي (أخواتي الذين في العالم)  يعانون المجاعة، ولا يجدون خبزا ليأكلوه." وهكذا أقمع جسده جدا وقت المجاعة بالصوم الزائد والصلاة الدائمة متذكرا قول الإنجيل : "إن كان عضو يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه." وكان يصلى إلى الله بلجاجة أن يصعد مياه الأنهار إلى مقدارها، حتى يرجع الرخاء إلى الأرض، ويجد الناس طعاما وخبزا، فيعيشون يشكرون الله ويصنعون مشيئته.

100. فى كل مره كان يصلى آبا باخوميوس كان يتذكر وصية الرسول القائل: "فأطلب أول كل شئ أن تقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس. لأجل الملوك وجميع من هم فى منصب لكى نقضى حياه مطمئنة هادئة فى كل تقوى ووقار." وهكذا كان يصلى من أجل كل العالم، أولاً من أجل الرهبان والعذارى لكى يمنحهم الله المعونة ويكملوا نذر البتولية من كل قلوبهم، فكان يصلى لأجلهم قائلا: "أيها الرب الإله ضابط الكل، نسبحك ونطلب إليك أن تمنحنا أن نكمل جهاد هذه الخدمه(الرهبنة) بسلام ونكون مستحقين أن تسكن  فى أجسادنا وأرواحنا ونفوسنا، فنصير كاملين فى محبتك ونسلك دائما أمامك، عاملين مشيئتك الصالحة، حتى لا نخطئ إليك ونحزن الروح القدس الذى به ختمنا بل نكون أطهارا وبلا نجاسة كل أيام حياتنا، فنستحق بنعمتك ميراثك الأبدي، وملكوتك الدائم أيها الرب الإله محب البشر."

        كما كان يصلى من أجل المتزوجين، لكى يتمموا وصايا الله المدونة فى كتابه المقدس، فيصير لهم نصيب فى الحياة الأبدية. وكذلك كان يصلى من أجل فئات ثلاثة من الناس. الفئة الأولى الذين بدأوا فى فعل الصلاح ولكنهم لم يكملوا بسبب اهتمامات العالم الباطلة التى سمحوا لها أن تعيقهم عن ذلك. فكان يطلب لأجلهم أن يمنحهم الله الحرية ويفك أسرهم من سلطان هذا العالم الباطل، فيصنعوا مشيئة الله ويهربوا من العذاب الأبدي. والفئة الثانية، أولئك المخدوعين بضلال الشياطين ومكرهم دون معرفة، تابعين الهراطقة الذين أضلوهم، فكان يصلى لأجلهم حتى يعطيهم الله الفهم الصحيح والمعرفة، فيصنعوا ثمارا تليق بالتوبة ويقبلون فى قلوبهم وعقولهم البر المعلن من الله، وأن يشرق عليهم بنور شمس الإيمان الصحيح فيضئ لهم الطريق ويقودهم فى كل أعمالهم. أما الفئة الثالثة فهم أولئك الذين فى منصب على الأرض حتى يقضوا بعدل ويتم فيهم قول سليمان الحكيم: "بي تملك الملوك وتقضى العظماء عدلا." وأن يجعلهم الله محبين له وللناس أيضا ويكونوا متشبهين بالله الذى كتب عنه: "المجرى حكما للمظلومين. المعطي خبزا للجياع الرب يطلق الأسرى." كما كان يطلب لأجلهم أيضا أن يكون لهم نصيب مع القديسين الذين أكملوا مشيئة الله وصنعوا مسرته، فيهتفوا مع إشعياء النبى: "الرب قاضينا. الرب شارعنا. الرب ملكنا هو مخلصنا." وكذلك لكى يحتقروا ملك العالم الزائل، الذى لا يدوم إلا لفترة من الزمن، ويتذكروا ملكوت السموات الدائم الذى لا نهاية له، ويكون لهم نصيب مع الملوك والأبرار داود وحزقيا ويوشيا.

        كما كان يداوم على الصلاة أيضا من أجل الأكليروس فى الكنيسة الجامعة وكان يقول عنهم: "رغم أنهم آبائى، لكنني أرى من واجبي أن أصلى عنهم لأن الرسول يدعونا أن نفعل هكذا قائلا: مصلين فى ذلك لأجلنا نحن أيضا ليفتح الرب لنا بابا للكلام."

        وهكذا كان يصلى لأجل الجميع. 

101. فى دير فابو كان يوجد عشرة أخوة، يعيشون بإهمال وتوانٍ، كما كانت قلوبهم أيضاً مملوءة بالشر، الذى زرعه الشيطان فى قلوبهم، وكنتيجة لذلك، كانوا لا يثقون فى تعاليم آبا باخوميوس التى يعطيها للأخوة ، بل وأكثر من ذلك فقد بلغ بهم الأمر أنهم كانوا يقاومونه علانية، حتى صاروا مصدر تعب له زمانا طويلا. ورغم علمه بأنهم لا يسلكون مسلك الكمال اللازم إلا أنه راح يصلى إلى الله من أجلهم ويطلب إليه نهارا وليلا أن يخلصهم ويردهم إلى الحق. وحدث بينما كان يصلى من أجل خلاصهم، أن غضب الرب على بقية الأخوة ورأى آبا باخوميوس وكأن ملائكة ينتقمون من جميع الأخوة بسبب أولئك المتوانيين. فجاء أحد الشيوخ وتحدث مع آبا باخوميوس وقال له: "لماذا تضطرب وتقلق لأجل هؤلاء الأخوة؟ يمكنك أن تطردهم من وسطنا حتى لا يحل غضب الله علينا بسببهم. وها أنت قد صبرت عليهم طويلا ومع ذلك لم يقدموا توبة." فأجابه آبا باخوميوس: "يالك من إنسان شقى ضيق الأفق ما هذه الكلمات التى تنطق بها؟ كيف أطردهم من وسطنا؟ ألم تقرأ عن موسى النبى وما فعله حين قدم نفسه عوضا عن أولئك الذين سقطوا وقال: "والآن إن غفرت خطيتهم وإلا فامحنى من كتابك الذى كتبت." ولم يوافق آبا باخوميوس على طردهم بل احتملهم فى صبر، متأنيا عليهم حتى يقودهم للتوبة ويسير بهم نحو خلاص أنفسهم.

وفى أحد الأيام تقابل مع أحد هؤلاء العشرة وسأله بكل بشاشة: "كيف حالك الآن يا ابنى؟ وكيف حال أخوتك؟" أجابه الأخ: "بنعمة الله وببركة صلواتك، الآن نحن نحيا فى سلام وراحة." فقال له رجل الله: "إن الشيطان مثل الجندى الذى يريد أن يدخل بيتا ليحتله، فإنه أولا يسبب اضطرابا لذلك المنزل من الخارج، ولكنه لن يقدر على الدخول مادام البابا موصدا من الداخل بإحكام، ولكن متى خاف الذين بالداخل وفتحوا الباب فحينئذ سوف يدخل ويستريح ولن يسبب إزعاجا، لأنه قد دخل وامتلك، فهكذا الحال معك، فانك عندما كنت غالقا باب قلبك مقاوما أعمال إبليس كان يضايقك، ويسبب لك قلقا، أما الآن فبعد أن فتحت له الباب، أصبح مسيطرا عليك من الرأس إلى القدم، ولأنك تتمم مشيئته على الدوام لذلك فهو لا يضايقك البتة." عندئذ سأله الأخ: "وهل من الممكن أن يفارقني الروح الشرير، وأستطيع بعد ذلك أن أتمم مشيئة الله، وأهرب من الغضب الأبدى؟" أجابه آبا باخوميوس: "طالما عدم الإيمان يملأ قلبك، فحتى لو صمت يومين يومين وصليت كل يوم من المساء إلى الصباح فلن يفارقك الروح الشرير، أما إذا آمنت أن الكلمة التى أقولها لك هى من الله، فإنني أؤكد لك أن الروح النجس سيرحل عنك حالا، وعندئذ تحيا فى سلام الله." فلما سمع الأخ ذلك الكلام، تركه ومضى، وبدأ يصوم ويصلى، ولكنه مع ذلك لم يتخلص من الشك فى رجل الله آبا باخوميوس، بل ظل فى عدم إيمانه حتى مات. 

102. كان آبا باخوميوس حريصاً على تعليم الأخوة طريق القداسة، ساهراً على خلاصهم، مثل البستانى الأمين الذى يهتم برعاية الكرمة وحراستها من الحيوانات واللصوص والطيور، التى تحاول أن تخطف الثمر. لأنه مكتوب : "إن كرم رب الجنود هو بيت إسرائيل." وقد أعطاهم آبا باخوميوس بعض التعاليم مكتوبة لكى يسلكوا بمقتضاها، وبعضاً آخر شفاهاً كتقليد يحفظوه فى قلوبهم. وبعد أن ثبتهم فى كل وصايا الإنجيل، وضع لهم عقوبات على كل من يخالف الأوامر التى تعطى له. وذلك من أجل خلاص نفوسهم، حتى يغفر لهم الرب الإهمال الذى ارتكبوه بسبب عدم طاعتهم.

كما أعطى تعليمات أخرى لأولئك المسئولين عن الأخوة آمراً إياهم ألاَّ يتحدثوا مع الأخوة فى أى أمر من الأمور العالمية (التى يرونها فى أثناء وجودهم فى مأمورية خارج الدير). وأوصاهم أنه متى أعطاهم أحد من الناس رسالة أو شيئاً مكتوباً لكى يوصلوه إلى أقاربه من الأخوة، فلا ينبغى أن يوصلوها له مباشرة، بل عليهم أن يذهبوا أولاً إلى أب الدير ويخبروه بذلك، فيبحث الأمر جيداً، فإذا وجد أن الأمر فيه منفعة لذلك الأخ فإنه يخبره به، وإلا لا يعلمه شيئاً البتة.

وبين الأخوة لم يكن هناك خصام أو شجار، لأن سلوكهم كان وفقاً للقانون الإلهى، ولم يكن كذلك أحد منهم يهتم بأمور العالم، بل على العكس كانوا يسلكون وكأنهم استوطنوا السماء وهم لا يزالون هنا على الأرض.

103. حدث بينما كان يسير، أنه سمع أحد الأخوة، الذى امتلأ قلبه بالأفكار الجسدية يتحدث مع الأخوة قائلا لهم: "إن هذا هو وقت حصاد العنب." فغضب رجل الله ووبخه بشدة قائلا له: "أيها الشقي ألا تعلم أن الأرواح الشريرة ما زالت تجول وسط الناس ملتمسة أن تجد مكانا بينهم، فلماذا إذن أعطيت لمثل تلك الأرواح الشريرة مكانا فى قلبك حتى تدخل وتتحدث من خلال فمك؟ ألا تعلم أنك بذلك جعلت الآخرين يشتهوا ثمار ذلك العنب، فأصبحت أنت غريبا عن الله، لأنك تسببت فى عثرة الآخرين؟ ألم تقرأ: "وإن حصلت أذية تعطى نفسا بنفس؟" أو لم تسمع كلمات الرسول القائلة: "لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم بل كل ما كان صالحا للبنيان حسب الحاجة كي يعطى نعمة للسامعين؟" ألا تعلم أن الكلمة التى قلتها الآن ليست بانية للأخوة، بل على العكس هى سبب هلاك وسقوط لكثيرين؟ وعموما من الآن أنا أحذرك من أن تنطق كلمة غير نافعة أو رديئة أو هادمة أو غبية وإلا صارت هذه الكلمة هى نفسها سبب هلاك لك قدام الله.

        وأنا أعطيك مثالا على ذلك وكيف أن الله يغضب على أولئك الذين ينطقون كلمة ردية وسط الأخوة. فإن ذلك يشبه إنسانا غنيا دعا كثيرين إلى وليمة فى بيته لكى يأكلوا ويشربوا ويفرحوا وبينما هم جالسون على المائدة، إذ بهم يلقون الأواني على الأرض ويكسروها عمدا. فيغضب ذلك الغنى عليهم ويوبخهم ويقول لهم: "أيها الأشقياء غير الشاكرين، لقد دعوتكم إلى منزلي لتأكلوا وتشربوا، فلماذا تعبثون هكذا، وتلقون بالآنية على الأرض، وتأكلون فى غير شكر أو وقار؟" فهكذا كل من يحيا تحت نير الحياة الرهبانية، ويتكلم كلاما رديا، فإنه يجلب على نفسه غضب الله. وتذكر جيدا مدى المجد الذى ينتظر أولئك الذين عاشوا فى حياة الشركة وسلكوا حسنا مع بعضهم وتحملوا كل صنوف الآلام التى قبلوها طوعا بإرادتهم، وأيضا مدى الخسارة التى تنتظر أولئك الذين سلكوا رديا لأن الراهب يشبه البحار الذى يخوض البحار فإنه حتما سيكسب كثيرا ويصير غنيا جدا، ولكن إذا غرقت المركب، فإنه ليس فقط سيفقد كل ثروته بل أيضا سيفقد حياته كلها. هكذا الحال أيضا بالنسبة للراهب الذى يسلك بكل طهارة وطاعة واتضاع وخضوع، ولا يعثر أحد من الأخوة بكلمة يقولها أو فعل يأتيه، فأنه لا شك سيصير غنيا فى الملك الإلهى الذى لا يفنى ولا يضمحل. أما الراهب المتواني الذى يتسبب فى عثرة الآخرين، فالويل له لأنه سيخسر نفسه، وضيقات كثيرة ستحل عليه، علاوة على أنه سيحاسب أيضا عن النفوس التى تسبب فى عثرتها وسقوطها. أما بخصوص القادة فى حياة الشركة فإنهم يشبهون من يبيع الخضروات أو الخبز أو شيئا من ذلك فى السوق فإنه لن يصير غنيا من مجرد ربح يوم واحد فقط، هكذا أيضا مع النساك الذين يقودون الآخرين فى حياة النسك، فهم مسئولون على الدوام عنهم، بالقدوة الصالحة الدائمة، وبذلك تصير لهم مكانه كبيرة فى ملكوت السموات، ليس بسبب رتبه أو مركز ولكن بسبب الطهارة والنقاوة التى مارسوها وسلكوا فيها. لأن مكافأة الصوم والصلاة والتداريب التى يسلك فيها الإنسان بسبب حبه للمسيح هى النصيب الصالح فى ملكوت السموات. 

أما عن أولئك الأخوة المتضعين والمحتقرين الذين يسلكون بطهارة قلب، فحتى لو لم يمارسوا تدريبا كثيرة أو نسكيات عديدة، ولم يصلوا بعد إلى الكمال المنشود، إلا أنهم يشبهون الخدام الذين يعملون لدى الملك، ولهم حرية التنقل داخل القصر والوقوف كل حين أمام الملك، بخلاف أولئك الذين هم فى المناصب فى المملكة، فإنهم لا يمثلوا أمام الملك ما لم يدعون لذلك. فهكذا أيضا المتواضعون والمزدرى بهم فى حياة الشركة، هم كاملون فى ناموس المسيح بسبب ثباتهم وخضوعهم للكل من أجل الرب فهم لذلك معتبرون أحسن من أولئك السالكين فى كمال النسك، لأنهم يتممون وصيه الرسول القائل: "أطلب إليكم أن تسلكوا… بكل تواضع." وكذلك قوله: "كونوا لطفاء بعضكم نحو بعض متسامحين كما سامحكم الله أيضا فى المسيح."

104. فى أحد الأيام بينما كان آبا باخوميوس يصلى فى أحد الأماكن، إذ به يرى فى رؤيا عذاب أولئك الذين يحلون نذر بتوليتهم ويصيرون زوانا، كما هو مكتوب فى الإنجيل: "والزوان هو بنو الشرير." أولئك الذين دنسوا صورة الله ولطخوها بالنجاسة. قد كان آبا باخوميوس يتصرف مع مثل هؤلاء بحكمة، إذ لم يكن يعزلهم عن الحنطة فى الحال، بل كان يحاول معهم لكى يردهم إلى طريق القداسة ويقودهم إلى حياة التوبة، وبذلك يختطفهم من شراك الشيطان، متمما قول الرسول: "أيها الأخوة أن إنسبق إنسانا فأخذ فى ذله ما فاصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة ناظرا إلى نفسك لئلا تجرب أنت أيضا." أما إذا رفض أولئك الأشرار التوبة ولم يقبلوا نصائحه ومحاولاته لردهم وأصروا على عنادهم وسلوكهم الرديء فقد كان ينزع عنهم ثياب الرهبنة ويلبسهم الملابس العلمانية ويطردهم من وسط الأخوة عالما أنهم قد صاروا أبناء للهلاك.

105. فى أحد الأيام ذهب الأخوة إلى الإسكندرية، ومعهم بعض القفف لكى يبيعوها هناك ويشتروا بثمنها ما يحتاجه الأخوة المرضى. وحدث بينما هم فى طريقهم للعودة، قابلهم ثلاثة أشخاص يرغبون فى الرهبنة. فأركبوهم معهم فى السفينة وجاءوا بهم إلى دير فابو.

ولما وصلوا إلى الدير استقبلهم آبا باخوميوس وقبلهم جميعاً، وبعد أن استفسر منهم عن حال الكنيسة المقدسة الجامعة التى للمسيح وسلامها، سأل مقدم الأخوة قائلاً: "لماذا أتيت بالزوان إلى هنا؟" فأجاب الأخ المسئول باتضاع شديد: "يا أبى القديس، وهل أنا مثلك أعطيت موهبة التمييز بين الصالح والشرير؟" عندئذ استطرد آبا باخوميوس قائلاً: "إن هذا الإنسان بسبب أعماله الأثيمة التى اقترفها منذ صبوته، وبسبب النجاسات التى ارتكبها أمام الله قد صار زواناً، وعسير على مثل ذلك الإنسان أن يحيا فى البر، مالم يجاهد فى أصوام عديدة وصلوات كثيرة ونسك عظيم وسهر دائم وعلى العموم ما دمت قد أحضرته معك فإننا سنقبله مع الاثنين الآخرين لئلا لو رفضناه، نثبط همة الآخرين فيرحلا هما أيضاً. وبخصوصه فإننا سوف نلاحظه باستمرار ونوضح له الطريقة التى بها يسلك لكى يخلص، لئلا يسلك هنا فى الشر الذى كان يحيا فيه قبل مجيئه، فإذا هو تاب ورجع فإننا سنقبله راهباً بيننا ونجعل له مكاناً فى وسطنا، وإن لم يرجع فإننا نطلقه إلى المكان الذى جاء منه. لكننا لن نطرده الآن لئلا نحزن الاثنين الآخرين فتتأذى نفساهما وعندئذ يلومنا الله على ذلك، لأنه ما الحاجة أن نبقى هنا معنا أناساً أشرار لم يضعوا فى قلوبهم أن يتوبوا أمام الله؟ وإن كنا فى الواقع قد طردنا هذا العام ما يقرب من مائة أخ، رغم أن عدد الأخوة جميعاً بالكاد قد وصل إلى ثلاثمائة وستين." وعندئذ سأله الأخ المسئول: "ولكنك يا أبى لو لم تطرد أولئك الذين تحدثت عنهم، أما كان عدد الأخوة قد تزايد، وصارت الشركة أكثر وفرة؟" فأجابه آبا باخوميوس: "كلا على العكس، فإننى لو أبقيتهم، لقل عدد الرهبان، لأنه عندما يزداد عدد الأشرار، فإن غضب الله سيحل على المكان بمن فيه من أبرار وأشرار، والكل سيصير تحت اللعنة." فاستمر الأخ فى أسئلته قائلاً له: "إننى أود أن أعرف منك ماهو المقصود بالكلمة التى قلتها عن ذاك الأخ أنه زوان؟ وهل نفهم من ذلك أنه ولد بطبيعته شريراً؟ وإن كان الأمر كذلك، فما هو ذنبه؟" فأجابه آبا باخوميوس: "إن كل إنسان قد خلقه الله يملك القدرة على أن يختار بين الخير والشر رغم وجود الطبيعة الشريرة فى طفولته التى ورثها عن آبائه، لأن الإنسان يملك حرية الإرادة التى بها يستطيع أن يتغلب على ذاته ضد الشهوات التى تحاربه. فإن كانت توجد نساء كثيرات قد استطعن أن يتغلبن على طبيعتهن، ومارسن حياة النسك والبتولية، حتى نهاية حياتهن رغم طبيعتهن النسائية الضعيفة، فكيف يكون الحال مع الرجل الذى خلقه الله على صورته ومثاله وذوده بالقوة الطبيعية فهو لا شك حتى لو غلب من شهواته، فهو قادر، بإرادته وقوة عزيمتهأن يسيطر على تلك الشهوات ويغلبها ويطردها بعيداً. إن الكتاب المقدس يعلمنا أن الله قد خلق الإنسان على أكمل صورة، ولكنه بإرادته قد اتجه نحو الأفكار الشريرة وأغضب الله الذى خلقه، وبإرادته أمال قلبه إلى الأثم والنجاسة والرغبات والأحاديث الباطلة والهزء والسخرية، كما قال سليمان الحكيم: "الله قد صنع الإنسان مستقيماً، أما هم فطلبوا مخترعات كثيرة." فالإنسان حتى لو ورث الشر من والديه، فإنه يعمل بعمل النعمة وإرادته الحرة يملك إمكانية التغيير مهما كانت طبيعته. وحزقيال النبى يؤكد ذلك فى قوله: "فإن ولد ابناً رأى جميع خطايا أبيه التى فعلها فرآها ولم يفعل مثلها.. ورفع يده عن الفقير ولم يأخذ ربا ولا مرابحة بل أجرى أحكامى وسلك فى فرائضى فإنه لا يموت بإثم أبيه حياة يحيا." وهكذا متى سلك الإنسان بطهارة قلب فإنه سيعود حتماً إلى القوة التى خلقه الله عليها، وعندئذ لن يسقط فى أية خطية أو إثم، وكذلك هو متى أراد أن يسلك فى خوف الله، فإنه يستطيع أن يحيا الحياة الزوجية الطاهرة، بعيداً عن النجاسة والدنس قانعاً بزوجته فقط، أما إذا كان هناك إنساناً شغوفاً بحياة الكمال كقول بولس الرسول: "جدوا للمواهب الحسنى."فإنه يستطيع أن يعيش الحياة الملائكية الطاهرة، فيصير راهباً يخدم الرب كل حين فى نقاوة وبر، وحينئذ سيملأه الروح القدس، ويقدسه بالتمام."

فلما أكمل آبا باخوميوس أقواله تلك، قال له الأخ: يا سيدى الأب، بعد أن أجبتنى على أسئلتى مبرهناً عليها من الأسفار المقدسة، فإننى الآن أود أن أسألك، لماذا رفضت الأعداد الكبيرة التى جاءت للرهبنة ولم تقبلهم؟ ما الذى دعاك لرفض هذه النوعيات؟ قائلاً عنهم: "أنه لا توجد لهم توبة. وأنهم لم يأتوا بكل قلوبهم لكى يصيروا رهباناً؟" فأجابه باخوميوس: "هل تعتقد إننى أحتقر صورة الله؟ ليس الأمر كذلك، بل وحاشا لى أن أقلل من قدر الناس وأسئ الظن بهم. لكن أولئك الذين رفضتهم هم مثل الزوان كما قلت عن ذاك الذى أحضرته معك، لأن هذه النوعية من الناس من العسير عليهم حقاً أن يخلصوا فى حياة الشركة، بسبب الشهوات الجسدية المسيطرة عليهم، حيث أنه من المستحيل على إنسان ما أن يصلح من شأنهم ويحولهم عن طريق الخطية والدنس التى سلكوا فيها، ما لم يكن الله ساكناً فى ذاك الإنسان. ومثل هؤلاء لو أنا كشفت خطاياهم وسلوكهم للأخوة حتى يصلوا عنهم أمام الله، أخشى ليس فقط عدم الصلاة لأجلهم، بل وأيضاً أن يحتقرهم الأخوة ويزدروا بهم، ويرفضوا الأكل والشرب معهم. كما أنه من أسباب رفضهم، هو خوفى من أن يسقط أحد الأخوة فى الخطية بسبب تأثره بهم، فيتقسى قلبه بالخطية ويقع حينئذ فى شباك إبليس.

ومن جهتى فإننى أحياناً أقبل من تلك النوعيات واحداً أو اثنين على الأكثر، وأظل أجاهد معه بشدة حتى أخلصه من يد العدو، فأذهب إليه دائماً وافتقده الليل مع النهار حتى يخلص أو يفتقده الرب وينتقل من هذا العالم. وذلك إتماماً لوصية الإنجيل أن يحمل بعضنا أثقال بعض حتى نخلص. ومن الأسباب القوية الأخرى لعدم قبولى للبعض، إنني خشيت أن أعمل مثل الفلاح الذى أراد أن ينقى كل أرضه البور والرملية والشوكية، فانشغل بها وترك الأرض الجيدة مهملة فى حالة بوار، لعدم قدرته على الاهتمام بالجميع فى آن واحد، هكذا أنا أيضاً قد عزمت فى قلبى ألاَّ أشغل ذاتى بهؤلاء القوم الذين يعيشون فى النجاسة، لأنه قد يقودنى ذلك إلى إهمال الأخوة الآخرين الذين يعيشون فى الطهارة، فيؤدى هذا الإهمال إلى جنوحهم نحو النجاسة وحياة الخطية. ولكننى بنعمة المسيح أدرب النفوس الطاهرة على السلوك فى وصايا الملكوت والحياة الأبدية، كما إننى أبذل الجهد مع أولئك الذين استطعت أن استردهم للحياة حتى أعبر بهم من الطرق الردية إلى طريق الصلاح الإلهى.

أما من جهة أولئك الذين لم أقبلهم، فإننى بالرغم من ذلك أقول لكل واحد منهم: "رغم أنك ارتكبت هذه الشرور فى جهل وغباوة قلب، فإنه توجد لك توبة، ولكن ليس فى حياة الشركة، ويمكنك أن تذهب إلى مكان منفرد وتمارس هناك حياة النسك والتقشف فى صوم وصلاة أمام الله ليلاً ونهاراً، باكياً بدموع غزيرة من أجل آثامك الكثيرة التى أحزنت بها قلب الله، حتى يخلصك الرب ويمحو كل آثامك. اسهر على نفسك وراقبها جيداً حتى لا تعود إلى حياة النجاسة مرة أخرى، ولا تطيع الأفكار الشريرة التى يلقي الشيطان بذارها فى قلبك. هذه الكلمات وضعتها فى أذن كل واحد منهم حتى أكون بريئاً من دمهم أمام الرب فى يوم الدينونة، وحتى لا يتهمونى بأننى لم أعطهم مكاناً للتوبة أمام الله."

أما عن الأخ الذى جئ به من الإسكندرية والذى قال عنه آبا باخوميوس أنه من الزوان، فقد سمح له أن يكون له مكاناً بين الأخوة، وبعد أن وضع عليه تداريباً روحية متنوعة فى النسك والرياضات الروحية، حتى يستطيع أن ينجو من العذاب الأبدى. وأوصاه بشدة أن يصوم كل يوم حتى المساء وألا يأكل طبيخاً قط، وقال له: "إذا شعرت يوماً ما بضعف، فلا تصدق نفسك أنك مريض إلا بعد أن تخبرنى، وأنا سوف أبحث الأمر حتى أعرف هل هذا الضعف من الله أم هو فخ من الشيطان قد نصبه لك حتى يقتنصك لذاته من خلال سقوطك فى الخطايا التى سقطت فيها قبلاً فى العالم قبل مجيئك. فمتى اتضح لى أنه مرض من قبل الرب فإننى سآمر الأخوة المسئولين عن المرضى أن يعتنوا بك حتى تعافى. ولكن فقط عليك من اليوم فصاعداً أن تحفظ جسدك ونفسك طاهرين، ولا تعطى للشرير فرصة أن يلقى الأفكار الدنسة فى قلبك. ابذل كل جهدك فى السهر والصلاة وذرف الدموع الغزيرة أمام الرب، وبذلك لن يجد الروح النجس الذى جعل منك مسكناً له، مناصاً من الرحيل عنك. كن متواضع القلب وقل  لنفسك متى أتممت كل الوصايا التى أوصيت بها فإننى بالكاد استحق أن أحيا وأنجو من النار التى لا تطفأ والدود الذى لا يموت. ومتى رأى الأخوة نسكك وجهادك ومدحوك على ذلك، وهم لا يعرفون ماضيك والآثام التى اقترفتها، ارفع  قلبك وصلى قائلاً: "ياربى يسوع إنهم لو علموا مدى الأعمال النجسة التى فعلتها أمامك ليلاً ونهاراً، ومدى الأدناس التى أخطأت بها إليك، فلن يكفوا فقط عن مديحى بل وأيضاً لن يفكروا أن ينظروا حتى إلى وجهى، بسبب رائحة الخطايا الكريهة التى عملتها قدامك." واستمر آبا باخوميوس يوصيه قائلاً: "راقب نفسك جيداً ولا تسمح لأفكار الغرور والكبرياء أن تدخل إلى عقلك، لئلا تزود رصيد خطاياك وتطرح بعدئذ فى العذاب الأبدى، وإذا أهانك أحد أو سبب لك ضرراً، فاحتمل ذلك فى شكر وقل فى نفسك: "إننى كثيراً ما أغضبت الله بأدناسى وأعمالى الأثيمة." كذلك أيضاً عليك أن تكون خاضعاً لكل الأخوة سالكاً بكل وداعة. ولا تكن متذمراً قط بل كن ملتزماً بكل قوانين الشركة المرسومة لنا. ومتى نظر الله دعتك وجهادك فحينئذ سيتحنن عليك ويمحو كل آثامك، ولا يعود يذكر أدناسك ورجاساتك التى صنعتها أمامه وعندئذ ستنجو من العذاب الأبدى. وكل ما تفعله ليكن دافعه خوف الله، ولا تعمل شيئاً من أجل كسب مجد من الناس، لئلا يضيع كل تعبك باطلاً. ويملك عليك الشيطان ثانية وترجع وتصير خادماً له."

فلما سمع الأخ هذه الوصايا من آبا باخوميوس، بذل قصارى جهده فى حياة التقشف والنسك حتى تعجب الأخوة. على أن أحداً لم يكن يعرف أن هذا النسك كان بناءاً على وصية الشيخ له. بل كانوا يظنون أنه يفعل ذلك من ذاته. كما لم يكن هناك أحد يعلم شيئاً عن حياة النجاسة التى عاش فيها قبل مجيئه للدير، سوى آبا باخوميوس ومقدم الأخوة الذى جاء به من الإسكندرية، وكان الأول قد أوصى الأخير ألا يخبر أحداً بماضى هذا الأخ.

وقد كان ذاك الأخ شاباً قوى البنية، وهو قد استمر فى حياة النسك والتقشف لمدة تسع سنوات، ولكن للأسف لم يكن دافعه هو التوبة وخوف الله، لذلك ظلت الشهوات والأفكار الشريرة تملأ قلبه.

وكان أنه بعد هذه السنوات التسع النسكية، مال قلبه نحو النجاسة، ووقع مرة أخرى فى حبائل الشيطان الذى أراد أن يسقطه فى نفس الخطايا السابقة، ولكن رجل الله آبا باخوميوس الذى علم بالروح ما نوى الأخ على ارتكابه بعد أن أطاع الشيطان الذى أصبح مسيطراً عليه لأنه قبل أفكاره الرديئة، وبدأ فعلاً فى تنفيذ تلك الخطيئة الكريهة منفذاً خطة الشيطان أبيه، أن قام باستدعائه وسط جميع الأخوة وسأله عن الأفكار الدنسة التى تدور فى قلبه ليتممها دون خوف من الله. فاضطرب ذاك الإنسان وملأ الخوف قلبه لا سيما لما رآه على وجه آبا باخوميوس من هيبة ومخافة، وللحال أقر بخطيته التى عزم على إتمامها بلا حياء. فما كان من آبا باخوميوس إلا أن قام بطرده من وسط الأخوة، الذين لما علموا بذلك انتابهم خوف عظيم، متعجبين من نعمة الله الساكنة فى أبيهم وانصرفوا وهم يمجدوا الله.

106. حدث فى يوم آخر أن ذهب آبا باخوميوس مع بعض الأخوة جنوبا لجمع بعض نباتات الأسل ولما وصلوا إلى طبانيس أراد  أن يزور الأخوة هناك. فدخل مع الأخوة وهم يرددون ما يحفظونه من الأسفار المقدسة. وبينما هو يقبل جميع الأخوة، نظر فرأى أحدهم وقد جرح بسهام الشرير. وفى الليلة التالية صلى إلى الرب قائلا: "أيها الرب الإله القادر على كل شئ، أبو ربنا يسوع المسيح. يا من رتبت هذا المكان المقدس، ليكون مكانا لحياة الشركة المقدسة، هذه الحياة التى تأسست من البدء عن طريق الآباء الرسل الذين أحببتهم واخترتهم. والتي من أجل هذه الحياة أيضا أقمتنا نحن أخيرا لنحيا فيها بكل طهارة، حتى نمجدك ونبارك اسمك إلى دهر الدهور آمين. يا إلهنا الصالح ، المحب ، نسألك من أجل هذا التعس البائس الذى فى وسطنا، الذى تنكر لصلاحك ووجودك، واختار بإرادته أن يصير آنية للهلاك، بدلا من أن يكون آنية للكرامة ومكانا لسكنى روحك القدوس. هذا الذى ألقى معثرة للآخرين، فى بيتك المقدس، محرضا إياهم على قبول الأفكار الدنسة التى ملأ بها الشيطان قلبه هذا الذى صار ابناً لإبليس، مع أنه لم يكن جاهلا بالأسفار المقدسة، إلى هذه الدرجة، لأنه كان على علم بكل الحقائق الإلهية. وهو نفسه قد علم كثيرين آخرين أن يسلكوا فى طريقك وأن يتمموا مشيئتك الصالحة. وجميع الخطايا والأدناس التى حذر الآخرين منها، قد سقط فيها، وبدون حياء تممها، من أجل ذلك كان هذا الإنسان مستحقا للموت، ولكنني مع ذلك، لن أستطيع أن أفعل شيئا معه والذين تبعوه إن لم تعلن لى إرادتك الصالحة. أيها الرب إله جميع القديسين يا من كشفت شروره وآثامه، أنت القادر أن ترشدني. ماذا أفعل معهم."

        وفيما هو يصلى ظهر له ملاك الرب بهيئة مهيبة وفى يده سيف ناري مسلول خاطبه قائلا: "كما أن الله قد محا أسماءهم من سفر الحياة، هكذا أنت أيضا عليك أن تطردهم من وسط الأخوة لأنهم لم يكونوا جاهلين بما يفعلون، لأن ارتكاب هذه النجاسات، حتى لو كانت بجهل هى بالحقيقة رجس أمام الله."

        وما أن جاء الصباح حتى نزع عنهم ملابس الرهبنة وألبسهم ملابس العلمانيين وقال لهم: "اذهبوا وافعلوا حسب الملابس التى صرتم فيها، لأنكم سرتم وراء ذواتكم." وهكذا طردهم من وسط الأخوة، وتم فيهم قول هوشع النبي: "من أجل سوء أفعالهم أطرهم من بيتي، ولا أعود أحبهم."

        وبعد ذلك جلس مع الأخوة وتحدث معهم بكلمة الله، معلما إياهم خوف الله. واضعا أمامهم مثل الأخوة الذين طردهم، عبرة لهم، الذين صار يذكرهم باكيا بدموع غزيرة من أجل نهايتهم التعسة التى صارت لهم من جراء ارتكابهم الرجاسات أمام الله ليلا ونهارا. ثم قام وصلى معهم. وبعدها عاد كل واحد منهم إلى موضعه بهدوء وهو يردد ما يحفظه من الكتاب المقدس. وكذلك أيضا عاد آبا باخوميوس مع الأخوة الذين جاءوا معه لجمع النباتات. وكل منهم يلهج فى كلمه الله حتى وصلوا شمالا إلى فابو.

     107. وحدث أيضا أن جاءوا  له بأحد الأخوة من أحد الأديرة به روح نجس. فلما تكلم معه آبا باخوميوس أجاب الأخ حسنا وكأنه لم يكن به داء قط. فخاطب آبا باخوميوس الأخوة الذين جاءوا معه قائلا: "إننى متيقن أن الروح النجس محتفى فيه ولكنه لا يريد التكلم (حتى لا يظهر) ولكنني مع ذلك سوف أفحص جسده كله حتى يتبين لى فى أى عضو محتفى." وفيما هو يفحصه، وصل إلى أصابع يديه، وحينئذ قال للأخوة: "أن الروح النجس قد دخل من هنا من أصابع يديه." وكان أنه لما وصل إلى الرقبة، حيث كان الروح الشرير مختبئا، صرخ الروح الشرير صرخة مدوية، وانتاب الرجل نوبات تشنجية شديدة حتى أصبح من الصعب على الأخوة أن يمسكوه. عندئذ أمسك آبا باخوميوس بذلك العضو، وصلى للرب يسوع المسيح من أجل ذلك الأخ حتى يشفيه. وبينما هو يصلى خرج الروح النجس، وللحال عوفي الرجل وشكر آبا باخوميوس على صلاته من أجله. أما الذين رأوا ذلك فقد مجدوا الله من أجل عظمه أعماله التى يظهرها على أيدي قديسيه.

108. ودفعه أخرى حضر إنسان إلى الدير ليترهب. وقد كان به روح شرير يزعجه كثيرا ويسبب له بعض الأمراض وبالرغم من أن الرجل كان شريف الجنس ذى شهرة واسعة، إلا أنه كان متواضعا جدا. فلما نظر آبا باخوميوس إلى وجهه، علم أن به روحا نجسا، فأخذه على انفراد وصلى للرب من أجله لكى يشفيه. ولكن الروح الشرير أجاب قائلا: " يا باخوميوس، ماذا تريد منى؟، هل تريد أن أخرج من هذا الإنسان؟ هل منعته أنا من أن يتمم مشيئة الله كاملة؟ إن الرب هو الذى أعطاني هذا الإنسان مسكنا لأبقى فيه إلى أن يموت. وأنت إذا حاولت أن تخرجني منه فاعلم جيدا أننى لن أطيعك، بل سأقتله وحينئذ أخرج منه ولدى القوة التى أحقق بها ذلك". فلما سمع آبا باخوميوس ذلك، بدأ ثانية فى الصلاة لأجله لكى يشفيه الرب. وبينما هو يتضرع إلى الله لكى يتحنن على ذلك الإنسان ويطرد الروح الشرير إذا ملاك الرب يظهر له قائلا: "يا باخوميوس كفى صلاة من أجل هذا الإنسان، فإن الرب قد سمح له بهذا الداء لأجل خلاصه. لأنه لو نال البرء والشفاء فانه سيرتد ويرجع إلى الوراء." عندئذ قال باخوميوس لذلك الإنسان: "لا تحزن من أجل ذلك المرض، لأن الرب قد أرسله لك من أجل خلاص نفسك. والآن اشكره على كل شئ قائلاً: "حي هو الرب ومبارك صخرتي ومرتفع إله خلاصي." ومن ذلك اليوم فصاعدا كان متى جاء إليه بعض المرضى بهذا الداء وعلم انهم لن ينتفعوا من الشفاء، كان يقول لهم:
"إن ذلك من أجل خلاصكم فقدموا الشكر لله حتى تنالوا الحياة الأبدية."

109. فى دير فابو كان يوجد أخ يداهمه المرض فى كل ثالث يوم. فجاء إلى أبينا باخوميوس وتوسل إليه بدموع قائلاً: "إنك تشفى كثيرين، يأتون إليك من العالم ولكنك لم تصلى من أجلى قط لكى أشقى من هذا الداء العسير." فأجابه: "إن أولئك الناس تشفى أجسادهم من أجل إيمانهم. ولكنهم يرجعون للخطية لأنهم قد نالوا راحه من أمراضهم. أما خدام الله فإنهم ينالون الراحة الأبدية فى الدهر الآتى، الراحة التى بلا مرض أو حزن. لأنهم ساروا بإرادتهم بكل شجاعة فى طريق الصليب متممين قول الإنجيل: "من أراد أن يخلص نفسه يهلكها ومن يهلك نفسه من أجلى فهذا يخلصها." فلما سمع ذلك الأخ المريض هذه الكلمات من فم أبينا باخوميوس، تشجع وتعزى جدا ولكن لما اشتد عليه المرض بعد ذلك، ذهب ومعه بعض شيوخ الدير إلى أبينا باخوميوس يلتمسون منه الصلاة لأجله، حتى يمن الله عليه بالشفاء، فلما وجد آبا باخوميوس أنه مضطر للصلاة لأجله أراد أن يطيب خاطرهم فللحال أخذ معه أحد الشيوخ الكبار الذين ترجوه وكان مملوءا من محبة الله وذهبا معا إلى مكان ما للصلاة من أجل الأخ المريض. فلما ابتدئا فى الصلاة، جاء صوت من السماء قائلا: "لا تطلبوا من أجل شفاء الأخ المريض. فإن الرب أرسل له هذه التجربة لكى يخلصه من الشهوات الشبابية التى يحاول الشيطان أن يسقطه فيها." عندئذ كف أبونا باخوميوس عن الصلاة ورجع ومعه الشيخ. وقد ظن آبا باخوميوس أن الأخوة  الذين بالخارج قد سمعوا الصوت السمائى. فقال له الأخوة: "لماذا رجعت هكذا سريعا ولم تصل من أجل الأخ المريض؟" فأجابهم: "ألم تسمعوا الصوت الذى جاء من السماء." فقالوا: "لا." وقال أيضا الشيخ الذى كان معه: "وأنا أيضا لم اسمع ذلك الصوت." فأخبرهم آبا باخوميوس بجميع ما حدث وكيف أن ذاك الصوت قد جاء له وهو يصلى. فلما سمع الأخوة ذلك تعجبوا قائلين: "عظيمة هى أعمال الله لأنه صالح ويهتم بكل طالبيه وبدونه لا يحيا كائن قط."

110. حدث فى أحد الأيام، بينما كان آبا باخوميوس جالسا يعمل فى ضفر الخوص ظهر له الشيطان بنفس الهيئة التى اعتاد الرب أن يظهر له فيها ولما حياه الشيطان تعجب آبا باخوميوس وفكر فى نفسه، "من عسى أن يكون هذا يا ترى؟" ولكنه لما بقى فكر آبا باخوميوس كالعادة ثابتا بدون تغيير، عرف عندئذ أن هذا هو الشيطان فلما رأى الشيطان أن فكره ما زال ثابتا، بدأ فى انتزاع أفكاره منه ولكن باخوميوس قال فى نفسه ثانيه: "كيف إننى لم أعد أفكر؟ بل وأن أفكاري جميعها قد تلاشت؟ وفى الحال نهض واقفا كما أرشده الله، ونفخ فى وجه الشيطان عندئذ بدأ الشيطان يختفي تدريجيا حتى تبخر مثل الدخان، ولما اختفى الشيطان قام آبا باخوميوس للحال وصلى إلى الله قائلا: "مبارك أنت أيها الرب إله القديسين يا من خلصتني من التجارب ومن كل فخاخ العدو."

111. ذات مرة مرض آبا باخوميوس وتألم كثيرا. وفى أثناء ذلك اختطفت روحه لتعاين العالم الآخر  فلما اقترب من باب الفردوس، أمر الله أن ترجع روحه إلى جسده مرة أخرى فحزن جدا. لأنه لم يرد أن يعود مرة أخرى إلى جسده إذ رأى النور العجيب والجمال البهي غير الموصوف. وفيما هو حزين، اتجه إليه شخص كان على الباب، وكان وجهه مشرقا جداً ومضيئا وجسمه كله ملتحفا بالنور. وقال له: "يا ابني، أذهب وارجع فقد بقى لك شهادة قليلة فى العالم حتى تكمل جهادك." فلما سمع ذلك فرح جدا لأنه كم كان مشتاقا أن يصير شهيداً من أجل اسمه القدوس وأما الملائكة الذين كانوا معه وفرحوا لفرحه فقد أخبروه بأن الذى كان يتكلم معه هو بولس الرسول. ولما أحضروه إلى حيث جسده نظرت النفس إلى جسدها وإذا هو ميت ولكن بمجرد أن اقتربت إليه انبسطت جميع الأعضاء بطريقة سرية ودخلت النفس إلى جسدها مرة أخرى، وعندئذ دبت الحياة فى الجسد وقام حيا. أما الأخوة الذين كانوا معه فقد كانوا جميعا نياما. وفى الواقع ما أكثر المرات التى اختطف فيها آبا باخوميوس إلى الفردوس، ولكن بآيه كيفيه؟ الله يعلم كما قال بولس الرسول: "أفي الجسد أم خارج الجسد لست أعلم الله يعلم. اختطف هذا إلى السماء الثالثة… أنه اختطف إلى الفردوس وسمع كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها." هكذا أيضا أبونا باخوميوس فقد حمل إلى ذاك الموضع ورأى مدن القديسين والتي من بهائها وعظمتها لا يمكن وصفها. كما هو مكتوب: "ما لم ترى عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان  ما أعده الله للذين يحبونه." ولما رأى تلك المدن تذكر ما قاله الرب لعبيده فى مثل الوزنات، للذي تاجر وربح عشر وزنات والذى ربح خمسه وزنات: "ادخل إلى فرح سيدك." وكذلك ما قاله لآخر:" وأنت فلتكن على عشر مدن""ولآخر وأنت كن على خمس مدن."

        وهذه المدن تتسم بالهدوء والطمائنينة وأما عن اتساعها فهي بلا حدود ومن جهة أشجار الفاكهة والكروم فهي ذات أثمار روحية، غير فاسدة، وهى إذا ما قورنت بثمار أشجار هذا الدهر فالأخيرة تعد من الحقارة بمكان بحيث أنها لا تساوى شيئا. وليس فى الفردوس شجرة أو نبات قط خاليا من الثمر، بل الجميع يثمر بوفرة والثمر ذو رائحة ذكية عطرة. بحيث لا يستطيع إنسان أن يتحمل شذاها إن لم يكن قد أخذ نعمة من الله.

        وأن الحياة فى العالم الآتى تفوق الحياة هنا، وهى تبعد عن الأرض وعن الفلك وأن كل نور الأرض ونور الفلك (الشمس والقمر والنجوم)، لا يساوى شيئا بالمقارنة مع نور الملكوت كما قال اشعياء النبي: "لا تكون لك بعد الشمس نورا فى النهار ولا القمر ينير لك مضئيا بل الرب يكون لك نورا أبديا، وإلهك  زينتك. لا تغيب بعد شمسك وقمرك لا ينقص لأن الرب يكون لك نورا أبديا وتكمل أيام نوحك."

كما أنه لا يوجد هناك ليل أو نهار حيث هناك النور الكامل الذى لا يغيب قط ومتى قورن هذا العالم به فانه يعتبر لا شئ بالنسبة للعالم الآتى. وخارج الفردوس قليلا توجد أشجار فاكهة وكروم وعنب تشبه تماما تلك الموجودة فى هذا العالم. ولما أبصر آبا باخوميوس تلك الأشجار تذكر الأشجار التى زرعها نوح بعد الطوفان وانه ربما يكون قد أخذ بعضا منها وزرعا فى الأرض ثانية بعد أن غرقت الأرض بالطوفان. حيث تذكر ذاك المكتوب فى سفر التكوين: "وابتدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرما." وكذلك كان هذا الفردوس محاطا من الخارج بطبقة كثيفة من الظلمة المليئة بأنواع الحشرات المختلفة، حتى أن أحدا لا يستطيع الدخول (إلى الفردوس) ما لم يسمح له الرب بذلك.

112. حدث بعد ذلك أن حضر أحد الأخوة إلى الدير لكى يصير راهبا. فخرج آبا باخوميوس لكى يراه ويتحدث إليه. فسأله: "هل تريد أن تصر راهبا؟" فأجاب: "لقد كانت هذه رغبتي فى الماضي، ولكن الإهمال قادني إلى الانهماك والاهتمام بهذا العالم الزائل. ولكن منذ فترة وجيزة بينما أنا سائر فى هذا الطريق، سمعت صوتا يناديني باسمي، فأجبت ماذا تريد يارب؟ فتحدث معي الصوت ثانية قائلا لى: إلى متى ستعيش متوانيا هكذا، وترفض أن تتوب عن شرورك؟ هيا قم الآن لتصير راهبا تحت إرشاد باخوميوس الطبنيسى، وجاهد من أجل خلاص نفسك، حتى لا تلقى فى العذاب بعد موتك، بسبب خطاياك. والآن يا سيدى القديس، ها أنا قد حضرت إليك لكى أصير راهبا." فقال له أبونا باخوميوس: "الآن نحن نفرح معك لأنك تريد أن تخلص، وأطعت الصوت الذى سمعته من قبل الرب. وأنني كأب للدير سأعتني بك فى كل شئ من أجل خلاص نفسك. ولكن عليك أنت آلا تهتم بأمور هذا العالم، بل ضع فى قلبك دائما خوف الله، وأن تعمل جاهدا لأجل خلاص نفسك." فأجابه ذلك الأخ قائلا: "حينما تخبرني، فإنني واثق بمشيئة الرب، وبصلواتك. إنك سوف تستريح من جهتي." وحينئذ قبله أبونا باخوميوس ورسمه راهبا عنده. وكان أنه حينما دخل هذا الأخ فى حياة الشركة، ورأى غيرة الأخوة وحماسهم، وعظمة اتضاعهم ومحبتهم لله، أن شحذت همته، وبدأ فى ممارسة حياة النسك والتقشف والسهر طوال الليل، فى صلاة دائمة، وصوم متواصل وكان متواضعا جدا كالطفل فى براءته وبساطته. حتى أنه إذا وبخه أحد أو أهانه، لم يكن يحزن قط أو يتضايق بل كان يقول فى نفسه: "لقد أغضبت الله كثيرا بأفعالي الأثيمة التى كنت أسلك فيها قبلا، ومع ذلك لم يجازني حسب آثامي، ولم ينتقم منى لكثرة شروري بل على العكس من ذلك غمرني بصلاحه وردني إلى طريق الحياة. فكم بالحرى يجب على أن أحتمل الإهانات والتجارب البسيطة التى تأتى على." وكان إذا رأى أخوة يتخاصمون أو يتعاركون كان يذهب إليهم ويقول لهم باتضاع: "اغفروا لى يا أخوتي، فأنني أنا الذى أخطأت." عندئذ يكف أولئك عن خصامهم ويرجع إليهم سلامهم .

هكذا عاش هذا الأخ لمدة أربعة شهور ثم تنيح بسلام.

113. كان يعيش وسط الأخوة يوم ذاك، أحد الأخوة النساك، وكانت سيرة حياته أنه يصوم يومين يومين، ويحيا فى الوحدة والسكون، ويلبس الملابس الخشنة جدا، ولا يأكل سوى الخبز والملح ولكن مع ذلك كان إذا ما ضايقه أحد أو أهانه بكلمة، تأججت فيه نار البغضة والغضب، ورد الشر بشر مثله. وحدث أن مات هذا الأخ، وفى حين اختطاف الأنبا باخوميوس إلى العالم الآخر ـ كما روى سابقا ـ رأى ذلك الأخ التائب (الذى لبى الدعوة الأخيرة)، الذى كان قد عاش فى حياة النسك والأتضاع لمدة أربعة شهور فقط ثم مات، رآه يحيا فى فرح وسلام. ولما رأى ذلك الأخ، آبا باخوميوس وهو يتمشى مع الملائكة ليكشفوا له بهاء ومجد العالم الآخر، جرى نحوه قائلا: "تعال يا أبى وانظر الميراث الذى وهبني أياه الرب، بسبب التعاليم الصالحة التى علمتني أن أسير فيها." فأراه الفردوس الروحى ذا الثمار غير الفاسدة، كما رآه ذلك المكان الذى أعطى له ليسكن فيه، وكان جميلا جدا ومملوءا من مجد الرب. ففرح رجل الله جدا من أجله.

        وبعد أن خرج باخوميوس ومعه الملائكة من الفردوس البهي إلى الخارج، رأوا ذلك الأخ الناسك الغضوب، يحيا فى مكان شديد القيظ، وهو ككلب موثق فى شجرة ممتلئة بالثمار، يشتهى الثمر ولا يقدر أن يتحرك من شدة وثاقه، فلما رأوه تفرسوا فيه ونظروا إليه فى حسره وألم، أما هو فقد أحنى رأسه خجلا وحياء حتى عبروا، عندئذ قال ذلك الأخ التائب للأنبا باخوميوس: "ها قد رأيت الشيخ الناسك الذى جاهدت لتعلمه وتهذبه، ولكن لأنه لم يسلك باتضاع، انظر الآن فى أى عذاب وألم يحيا، بسبب عدم طاعته."

114. دفعة أخرى مرض أبونا باخوميوس، ولم يخبر أحد بمرضه، بل لشدة عزيمته ذهب مع الأخوة ليعمل فى الحصاد، وبينما هو يجمع الثمار معهم إذ به يسقط وسط الرهبان على وجهه، فرفعه الأخوة، وأحضروه إلى الدير، حيث اكتشفوا أنه مريض بالحمى. وهناك رقد على الأرض رابطاً المنطقة على حقويه. فتوسل إليه الأخوة أن ينام على السرير ويفك المنطقة كبقية المرضى.إلا أنه رفض الإذعان لهم وظل راقداً على الأرض. فجلس بجواره أحد الأخوة يهوى له بغطاء رأسه (قلنسوته) وكان هذا الوباء شديداً جداً، حتى أن كثيرين من الأخوة تأثروا به ورزخوا تحت نيره. ولما جاء أحد الأخوة ليسأل عنه، قال لذلك الأخ الجالس بجواره يهوى له: "ألا توجد هناك مروحة للتهوية، حتى أنك تستخدم القلنسوة؟" فلما سمع ذلك أبونا باخوميوس أشار بيده على الأخوة المرضى قائلاَ: "أليس كل هؤلاء مرضى؟ هل ستجد لكل منهم مروحة، حتى تجد لى أنا أيضاً واحدة؟"

115. طال مرض باخوميوس، وكان ذلك خلال الأربعين المقدسة. ولما جاء الأسبوع الأخير( أسبوع الآلام)، وحضر جميع الأخوة من كل الأديرة إلى فابو، حتى يعيدوا الفصح معاً، جاء له ملاك الرب وقال له : "إن الرب سيقبل منك تقدمة عظيمة، فى يوم القيامة." فظن أن الرب سيفتقده فى سبت النور السابق للعيد. فاستمر صائماً طوال الأربعة أيام الأولى فى أسبوع البصخة. متأوهاً حزيناً فى نفسه، حتى لا تنحل الشركة بين أديرته من بعده.

وفى مساء يوم الجمعة العظيمة، جمع كل الأخوة وتحدث إليهم كما تحدث صموئيل إلى شعبه فى ذلك الوقت، معلماً إياهم جميع أحكام الرب، وفتح باخوميوس فاه قائلاً : "يا اخوتي وأبنائي، لقد اقترب الوقت، الذى أذهب فيه إلى طريق الأرض كلها. مثل كل آبائي، وها أنتم تعلمون كيف سلكت بينكم بكل تواضع وإنكار ذات، غير مميز نفسى عن أى أحد منكم فى أى شئ، بل على العكس عشنا معاً كفرد واحد، وأنني لم أخف شيئاً عنكم من أحكام الرب فى هذا المكان المقدس. والرب شاهد على ضميرى، إننى لا أتكلم بهذا لكى أتباهى به أو أفتخر، وعلى ذلك فإنني لن أقول لكم عما فعلته، بل سأكشف لكم عن الأمور التى لم تعلن لكم من قبل حتى تطمئن قلوبكم. الرب يعلم إننى لم أتسبب فى عثرة أى واحد منكم، والقوانين التى وضعتها لكم، إن أهملتموها، ولم تمارسوها فلن تكون هناك راحة لنفوسكم قط. وأنا أقول لكم ذلك لأننى لا أعلم ماذا سيحدث لنا. فالإنجيل يوصينا قائلاً: إسهروا لأنكم لا تعلمون اليوم ولا الساعة التى فيها يأتى ابن الإنسان. وأنتم تعرفون إننى لم أؤنب أى واحد منكم استغلالاً لسلطان، بل من أجل خلاص نفسه، كنت أقومه. ولا نقلت أحد من مكان لآخر، أو من عمل لآخر إلا من أجل فائدة نفسه ومنفعته، كما إننى لم أجاز عن شر بشر، ولا شتمت قط واحداً يكون قد شتمنى فى لحظة ثورة أو غضب، بل على العكس كنت أعلمه بطول أناة حتى لا يخطئ إلى الله، وكنت أقول له: "رغم أنك قد أخطأت إلىَّ إلا أن هذا لا يهم لأننى إنسان مثلك، ولكن احذر لئلا تخطئ إلى الله الذى خلقك. وحينما كان أحد منكم يوبخنى بحق لم أكن أغضب قط، حتى لو كان أصغر واحد فى الأخوة، بل كنت أقبل ذلك التوبيخ من أجل الله كما من الرب ذاته. وعندما كنت أذهب لمكان ما أو دير لم أكن أطلب حماراً من أى منكم مستخدماً السلطان قائلاً: "أعطنى حماراً لأركبه." بل كنت أسير ماشياً على قدمى بشكر وفرح، وإذا ما تعقبنى واحد منكم ومعه حمار لكى أركبه بعد أن أكون قد سرت مسافة، وأدركنى فى الطريق فإننى لم أكن أقبل الركوب إلا إذا شعرت بأن جسدى مريض ولن يقو على مواصلة السير، وفى غير ذلك لم أكن أقبل قط. أما بخصوص الأكل والشرب وكل ما يتعلق بمتعة الجسد، فهى أمور غير خافية على أحد منكم ولستم تجهلونها."

وبينما كان يقول ذلك، كان تادرس يجلس بالقرب منه، يبكى واضعاً رأسه بين ركبتيه، كما بكى كثير من الأخوة، متذكرين خدمته الدائمة لكل فرد منهم، واتضاعه العجيب، وسلوكه معهم فى خوف الله، كما قال بولس الرسول: كنا مترفقين فى وسطكم كما تربى المرضعة أولادها. هكذا إذ كنا حانين إليكم كنا نرضى أن نعطيكم لا إنجيل الله فقط بل انفسنا أيضاً لأنكم صرتم محبوبين إلينا."

وكان أبونا باخوميوس يؤكد هذه الأمور للأخوة، وهو راقد على فراش المرض، صائماً. لم يذق طعاماً قط والكل من حوله يبكى لا سيما لأن وقت رحيله قد قرب، ولخوفهم من الشدة التى قد تحيق بهم بعد أن يفتقده الرب.

116. كان من جراء انتشار الطاعون. أن مرض أيضاً آبا بفنوتيوس، الذى كان وكيلاً لكل الأديرة وشقيق تادرس. وقد تنيح فى مساء سبت النور وعندئذ تذكر باخوميوس ما قاله له الملاك من قبل، أن الرب سوف يقبل منه تقدمة فى يوم العيد، وبسبب تفشى الوباء، مات كثير من الأخوة، حتى أنه كان يموت واحد كل يوم، وفى أحيان كثيرة كان يموت فى اليوم الواحد اثنان وفى أيام أخرى ثلاثة وأربعة وقد سمح الرب بذلك لكل أديرة الشركة. وفى هذا الوباء أيضاً مات كثير من القادة، وحينما كانت تجتاحهم الحمى كان لون بشرتهم يتغير قجأة، وتصير أعينهم حمراء كالدم. ويصيروا كمن أصيبوا بصدمة حتى يسلموا الروح، فمات بفنوتيوس الوكيل العام لدير فابو وشقيق تادرس وكذلك آبا سوروس أب دير فانوم وأيضاً آبا كرنيليوس أب دير طومسون، وقد بلغ عدد الذين ماتوا بسبب هذا الوباء فى دير فابو فقط حوالى المائة والثلاثون.

117. لما كان آبا باخوميوس مريضاً يرقد فى مكان المرض مدة أربعين يوماً فى المكان الذى يرقد فيه جميع الأخوة المرضى، وكان تادرس يقوم بخدمته وكان فى تلك الفترة يُخدم مثل بقية الأخوة تماماً دون تفرقة بينه وبينهم، وذلك حسب التعليمات التى كان قد أعطاها لهم من قبل وبالرغم من أن جسده أصبح هزيلاً جداً بسبب المرض الطويل، إلا أن قلبه وعينيه كانا يشعان بالنور دائماً. وقد طلب من تادرس أن يضع عليه الغطاء الخفيف قائلاً: "ضع علىَّ الغطاء الخفيف بدلاً من ذلك الغطاء لأنه ثقيل ولا أستطيع أن أحتمله. لأن لى الآن فى المرض أربعون يوماً ولكنى أشكر الله على كل حال." عندئذ ذهب تادرس وأحضر من الوكيل غطاء خفيفاً قيماً. ووضعه عليه ولكنه ما أن لاحظ آبا باخوميوس الفرق بين الغطائين حتى غضب وقال له: "أى ظلم هذا الذى فعلته يا تادرس؟ هل تريد أن تجعل منى عثرة لبقية الأخوة، حيث سيقولون أن آبا باخوميوس كانت حياته مترفهة عن بقية الأخوة. وأكون بذلك مستحقاً الدينونة. والآن ارفع عنى هذا الغطاء وأنا سأحتمل الآخر حتى أذهب إلى الرب."

118. استمر آبا باخوميوس مريضاً حتى جاءت الخمسين المقدسة وقبل نياحته بثلاثة أيام استدعى جميع المسئولين من بين الأخوة وتحدث معهم قائلاً: "أنتم تعلمون أننى على وشك أن أنتقل إلى الرب الذى خلقنا وجمعنا معاً لكى نصنع مشيئته. والآن قرروا من يكون أباً لكم بعد انتقالى." فبكوا جميعاً. وبسبب الحزن الذى انتابهم لم ينطق أحد ببنت شفة متذكرين البؤس الذى ينتظرهم بعد رحيله من وسطهم. وأنهم سيكونون مثل الرعية التى بلا راعى وعندئذ تكلم أبا اورزسيوس قائلاً له: "تحدث معهم لكى تعرف منهم، من الذى يرغبون فيه أباً لهم." فقالوا جميعاً لآبا باخوميوس: "إن كان الأمر كذلك. فنحن لا نعرف إلا الرب وسواك. والذى تختاره أنت نحن نقبله." فقال لهم: "إن الرجل الذى فى وسطكم والذى أعلنه لى الرب هو بترونيوس أب دير تاسمين وهو يقدر أن يبنى أرواحكم فى مخافة الله، حيث أنه أب مقتدر ويتمتع بنقاوة القلب. وأنا أعلم أنه مريض ولكن إذا عاش فهو سيكون أبا لكم." ثم أرسل واستدعى بعض الشيوخ ليودعهم وقال لهم: "أنتم ترون إننى ذاهب فى طريق الأرض كلها." عندئذ ذهبوا جميعاً إلى المجمع واستمروا فى الصلاة لمدة ثلاثة أيام، قضوها فى التذلل أمام الله، لكى يتركه لهم مدة أطول ليبقى فى وسطهم ولكن بعد انقضاء الثلاثة أيام أرسل آبا باخوميوس لهم تادرس وقال لهم: "كفوا عن البكاء لأن الأمر قد صدر من قبل الرب بأن الحق بآبائى." ورجع الأخوة والتفوا حوله وهم يبكون بحزن عظيم.

119. ثم التفت القديس باخوميوس إلى تادرس، وقال له: "حين يفتقدنى الرب، لا تترك جسدى فى المكان الذى سأدفن فيه." فأجاب تادرس بحزن عظيم : "سأفعل يا أبى ما تأمرنى به." ولم يكتف القديس بذلك بل أمسك بلحية تادرس وقرع على صدره قائلاً: "يا تادرس، أحذر. لا تترك جسدى فى المكان الذى سأدفن فيه." فأجابه تادرس ثانية : "يا سيدى الأب، سوف أنفذ بسرور كل ما توصينى به."

فتفكر تادرس فى كلام آبا باخوميوس، ولماذا أوصاه مؤكداً عليه؟ ألعل هذا بسبب خوفه من أن يأتى بعض الناس ويسرقون الجسد ويبنون عليه كنيسة كما يفعلون مع الشهداء والقديسين، لأنه مرات كثيرة سمع الأنبا باخوميوس ينتقد أولئك الذين يفعلون هذا الأمر قائلاً: "إن القديسين لا يسرون بأولئك الذين يسلكون هكذا مع أجسادهم. حتى لا تستغل أجساد القديسين للربح والتجارة."

وللمرة الثالثة أمسك القديس باخوميوس بلحية تادرس وقال له: "أحرص على أن تفعل ما أوصيتك به سريعاً، وإذا توانى الأخوة، عليك أن تنبههم للرجوع إلى الوصايا الإلهية." فتأمل تادرس فيما قاله القديس. وهل تعنى هذه الكلمات أنه سيؤتمن على الأخوة بعد وقت طال أو قصر؟ وفيما هو مستغرق فى التفكير. إذ بأبينا باخوميوس يجيبه قائلاً: "لا تكن متردداً، لا أقصد فقط ما قلته (بخصوص طلب نقل جسدى). بل أيضاً ما أنت تفكر به فى قلبك." (بخصوص قيادة الأخوة) حينئذ أجابه تادرس باكياً: "أمرك يا أبى."

120. بعد أن فرغ القديس من كلامه مع تادرس، ذهب فى غيبوبة لفترة من الزمن، ولم ينطق بكلمة أخرى لأحد حوله. ثم رشم علامة الصليب على نفسه ثلاث مرات. ثم فتح فمه وأسلم الروح فى يوم 14 بشنس. فى الساعة العاشرة من النهار. عندئذ اهتز المكان ثلاث مرات، فانتاب الأخوة خوف عظيم، ونظر بعض من الشيوخ الأتقياء وكشف لهم الرب عن أعينهم، فرأوا جنداً من الملائكة يحيطون بالأنبا باخوميوس، ويتقدمون روحه وهم يرنمون ويسبحون بفرح، حتى وصلت الروح إلى مكان راحتها. وانطلقت من المكان الذى فاضت فيه روحه رائحة بخور عطرة. استمرت لعدة أيام.

فتقدم تادرس وأغلق عينى القديس بيديه، كما فعل يوسف مع يعقوب الذى أوصاه الله قائلاً: "لا تخف من النزول إلى مصر. لأنى أجعلك أمة عظيمة هناك. أنا أنزل معك إلى مصر وأنا أصعدك أيضاً ويضع يوسف يده على عينيك." وبكى عليه الأخوة، واندفع كل منهم يقبل فمه وجسده. وأمضوا بقية النهار وكذلك الليل كله حول الجسد أمام الهيكل. وهم يقرأون فصولاً من الأسفار المقدسة.وحين انتهوا من صلاة المجمع الصباحية، أعدوا الجسد للدفن كما هى العادة مع بقية الأخوة. وقدموا فى صبيحة ذلك اليوم ذبيحة من أجله، وعندئذ تقدم الأخوة الجسد إلى حيث مكان الدفن فى الجبل وهم يرتلون المزامير، ودفنوا الجسد، وكان ذلك فى اليوم الخامس عشر من شهر بشنس. وفيما كان الأخوة راجعين من الجبل حزانى منسحقى النفوس، قال كل منهم للآخر : "بالحق لقد صرنا من اليوم أيتاماً." وبعد أن نزل جميع الأخوة من الجبل أخذ تادرس فى تلك الليلة ثلاثة من الأخوة، ونقلوا الجسد من المكان الذى دفن فيه، ووضعوه مع آبا بفنوتيوس شقيق تادرس والذى كان وكيلاً لكل أديرة الشركة. ولم يعلم أحد حتى اليوم المكان الذى دفن فيه.

وكانت أيام الأنبا باخوميوس على الأرض ستون عاماً. بدأ حياة الرهبنة وله من العمر واحد وعشرون عاماً، ثم قضى فى الحياة الرهبانية تسعاً وثلاثين سنة. ولما رأى الرب أنه قد صلب جسده وسلك بحسب مشيئته أراد أن يمنحه راحة، فضمه إليه حتى لا يسمح له أن يصل إلى حال الشيخوخة التى يعانى فيها من ضعف الجسد أكثر مما يمكن أن يحتمله.

بركة صلواته وطلباته تكون معنا ولربنا المجد الدائم أمين.

Pachomius of the Koinonia

عن كتاب حياة الشركة الباخومية ـ دير الأنبا باخوميوس حاجر أدفو ـ تعريب القمص أشعياء ميخائيل عن كتاب PACHOMIAN KOINONIA   البحيرى إصدار     ARMAND VEILLEUX وقد أورد السيرة من المخطوط البحيرى والمخطوط الصعيدى والترجمة اليونانية. وفى الترجمة اكتفى المترجم بترجمة السيرة حسب المخطوط البحيرى.

تك22: 17 ـ18

مت28: 19

حدث هذا فى 24 نوفمبر سنة 311م.

عب11: 37ـ 38

اش35 : 10

مز45 :2

1تس1: 3

مز65: 9

غل3: 4

عام 284 ـ 305م

عام 305 ـ 306م

مكان ولادة باخوميوس مدينة كينوبوسكيون Chenoboskion وهى الآن كفر الصياد بمركز دشنا محافظة قنا.

يبدو أنها سمكة كبيرة

جامعة 7: 29

وهى إحدى بلاد الإمبراطورية قديماً

وكان ذلك فى عام 313م

للتدفئة

خر21: 23

غلاطية 2: 10

1 تى 5: 18

يعقوب 5: 13

متى 26: 41

أم 27: 7

2صم22: 27

طبانيسى أو كما يلقبها البعض بطبانيسى أو طبانسين معناها نخيل إيزيس وهى تقع على الضفة اليمنى للنيل أمام بلدة دندرة فى المكان الذى يتجه فيه النيل إلى الغرب.

2كو 4 : 10 ، 11

متى 16: 24

رو8 : 6 ، 13

يع2: 10

غلا3: 13

مز46 :1،2

مز18: 37

1تى 6: 12

متى 5: 28

الكهنوت بصفة عامة

كان يسكن فى كل قلاية ثلاثة رهبان، وكل إثنتى عشرة قلاية تكوِّن بيتاً، وكل أربعة بيوت تكوّن قبيلة، وكل عشرة قبائل تكون ديراً. ويدير مجموع الأديرة الرئيس الأعلى الذى هو الأنبا باخوميوس (عن كتاب عبقرية الأنبا باخوم ـ مطبوعات مار مينا)

فى 2: 12

رو13: 10

تث4: 24؛ عب12: 29

1تى 3: 16؛1يو4:2،10

فى 11طوبة

سنة 328م

مزمور 77: 9

متى 5: 8

من الاثنين حتى الخميس

الجمعة العظيمة وسبت النور

على يوم الجمعة والسبت والاستمرار فى الصوم الانقطاعي حتى فجر الأحد هو تقليد آبائي قديم ولكن الأمر يحتاج إلى حكمة وإرشاد لتنفيذه

خر 32: 27، 28

المعترفون هم أولئك الذين تعذبوا وتألموا لأجل المسيح ولكنهم لم يستشهدوا.

مت 25: 40، 18: 6

مت 6: 10، 26: 42

مزمور 50: 6

تيطس 1 : 15

فابو Phbow تبعد ثلاثة كيلو مترات شمال دير طبانيس ومكانه الآن هو بلدة فاو عبر برية قنا.

Pmampesterposen

Tkahsmin

منطقة أسمين مشهورة بزراعة الزيتون.

تك 19: 26

فى ذلك الوقت كان ممكنا ممارسة حياة النسك والرهبنة للمتزوجين بموافقة زوجاتهم.

كو 4: 6

1 كو 9: 25

لو 14: 26

كان يوجد أحد الأخوة فى قلايته يرنم ترنيمة موسى النبي "نسبح الرب لأنه بالمجد قد تمجد." (خر 15: 1). فأنصت تادرس وفعلا سمع ما قالته الأرواح عن ذلك الأخ الذى كان يفعل ذلك بلذة وعجب. فحزن على الأخ وتعجب من حيل الشياطين وطلب فى قلبه إلى الله أن يخلص ذلك الأخ من هذا الوجع.

1 تس 5: 15

خزان الماء

أشعياء 57 : 15

تك23: 6

يع 3: 2

مت 18: 5

يو 6: 67

مز 34 : 18

عام 336- 337

مز105: 19

كو 3: 2

مت 22: 37

غلا 5: 22

لم ينل سر العماد ولكنه يستعد لذلك

كانت العادة أن يأخذوا الموعوظين إلى دير فابو للعماد خلال الأربعين المقدسة.

مع أن هذا الأخ لم ينل سر العماد لكنه كان فى نيته نوال السر وهو كموعوظ أتم كل واجباته واستعداده لنوال السر. ولذلك جعل الله له نصيب. وهو مثل الطفل الرضيع الذى يموت قبل نوال سر العماد.

 

مت 5: 8

مز 118: 19

مز 118: 20

اش26: 2، 3

أم 16: 4

جا 9: 2

اتس 2: 7

متى 5: 28

مزمور 119: 37

1كو5 : 28

1تى 4: 4

غل5: 24

مزمور5: 6

أع15: 16، عا9: 11

1كو3: 18

متى 20 : 26 – 28

1تى 5 : 18

مز16: 7

1كو 12: 26

1تى 2: 1، 2

أف 4: 30

مت 3: 8

أم 8 : 15

مز 146: 7

أش 33: 22

كو 4: 3

خر 32: 32

اشعياء 5: 7

خر21: 23، لا 24: 18

1 تس 4: 29

1 تس 4: 2

1 تس 4: 32

مت 13: 38

غل 6: 1

ومؤازرة النعمة

جا7: 29

حز18: 10، 14، 17

1 كو 12: 31

الأسل أو السمار: نبات تستعمل أوراقه الأسطوانية الطويلة فى صنع مقاعد الكراسي وغيرها.

هو 9: 15

ومن الطبيعى أن الروح الشرير قد خرج ولكن الله سمح ببقاء المرض لأجل خلاص نفسه.

مز 18: 46

لو 9: 24، مت 16: 25، مت 8: 35

2كو 12: 2، 4

1كو 2: 9

مت 25: 21، 23

لو 19: 17 – 19

اش 60: 19- 20

تك 9: 20

1مل 2 : 2

متى 25: 13

1تس 2: 7،8

Horsiesios

فى دير الشايب بالأقصر يعيدون له يوم عيد الصعود حيث تصادف أن كان يوم انتقاله هو يوم عيد الصعود وسار هذا التقليد للآن. وفى دير الأنبا باخوميوس بإدفو يعيدون له يوم 14 بشنس بغض النظر عن عيد الصعود.

تك 46: 3، 4