30 أمشير: البابا كيرلس السادس[1]

عن كتاب: مذكراتى عن حياة البابا كيرلس السادس. بقلم حنا يوسف عطا شقيق قداسة البابا والقس رافائيل آفا مينا (الشماس روفائيل صبحى الشماس الخاص لقداسته

ينتمى البابا إلى عائلة زيكى التى نزحت من الزوك الغربية فى صعيد مصر فى آواخر عهد المماليك، إلى بلدة طوخ النصارى بالمنوفية. وكان والده "يوسف" شماساً مشهوداً له بحسن السيرة وجمال الصوت والخط. وكان يحلو له أن يقضى وقت فراغه فى رحاب البيعة، ليعلم الشمامسة الصغار الألحان والكتابة والحساب، أو يقوم بنسخ الكتب بخطه الجميل، وكان متمسكاً بتعاليم الكنيسة مواظباً على الصلاة حريصاً على الأصوام. والمتعة العائلية سهرة يلتف فيها الأبناء حول والدهم يقرأ لهم فى الكتاب المقدس ويقص عليهم سير القديسين. والأم مثالية فى معاملة أبنائها حريصة على أن تؤلف بين قلوبهم وتنمى محبتهم لبعض، وقلما تعاقب أحدهم. وكانت سير القديسين حلوة فى أفواههم، وصورهم التى تملأ أركان البيت، ماثلة أمام عيونهم، فيقدسونهم ويحفظون مواعيد أعيادهم ويحتفلون بها، إما بكنائسهم أو بالمنزل. ويحرصون على زيارة كنيسة العذراء ببلدتهم طوخ النصارى فى 21 بؤونة من كل سنة، وبكنيستها ببلدة العطف بالبحيرة فى 15مسرى وكذا عيد الشهيد العظيم مار جرجس. أما عيد الشهيد مارمينا العجائبى، فكان له أثر عميق فى نفوسهم وأحب الأعياد إلى قلب عازر. يذهبون سنوياً لبلدة إبيار غربية فى عيده، ويمكثون بالدير أسبوعا. وقد انطبعت هذه الأمور على قلب عازر، وتركت أحسن الأثر فى نفسه.

عمل الوالد لدى أحد كبار الملاك وكيلاً عاماً لجميع أعماله بالغربية والمنوفية والبحيرة، وازدهرت على يديه تجارة هذا الرجل وفلاحته، فأحبه واجله.

واستقر فى مدينة دمنهور، وأنجب ثلاثة أبناء: حنا ثم عازر (البابا كيرلس السادس) فى 2 أغسطس 1902م، وميخائيل (القمص ميخائيل). وجعل من بيته محط رحال الكثيرين خاصة الرهبان الذين كان يطيب لهم الإقامة به لما يلاقون فيه من كرم الوفادة.

كان من بين المترددين على البيت شيخ متقدم فى الأيام، كلت عيناه لكبر سنه، يدعى القمص تادرس البراموسى، وكان يطوف البلاد مع قائد له يدعى ساويرس ليجمع عوايد الدير السنوية ممن اعتادوا أن يقدموها. وكان عازر وهو لم يتجاوز الرابعة من عمره يأنس بهذا الراهب، ويرتاح لبهاء طلعته وجمال لحيته البيضاء، ويمضى كل أوقاته يمرح بجواره. وفى ليلة نام على ركبتيه فجاءت والدته تعتذر للراهب، وتحمل الصبى عنه فقال لها دعيه لأنه من نصيبنا. وقد كان، فصار عازر حقاً من نصيبهم. فكان لا يحلو له أن يلبس بدلة جديدة إلا إذا لبس فوقها مريلة من القماش الأسود اللامع، مثل التى يلبسها أبونا تادرس. وقد أحزن هذا الإصرار الشديد والديه فى بادئ الأمر، ولكنهما سلما فى النهاية بالأمر الواقع[2].

كان عازر يحتج على والديه عندما يرى المائدة ممدودة وعليها عديد من أنواع الطعام. وكان يقول: "لماذا نأكل نحن هذه الأطعمة، والآخرون يأكلون الخبز الجاف؟" وحدث فى يوم رفاع الصوم الكبير، أن ازدحمت المائدة بأطايب الطعام، فثار عازر، وقال لأمه أمام أبيه: "إننا نأكل كل يوم من هذا الطعام الفاخر، وبجوارنا عائلة "الكردى[3]" فقيرة محتاجة، ألا يحسن إهداء هذا الطعام لهم من أجل المسيح الذى سنصوم له باكراً، ونكتفى نحن بوجبة متواضعة." انشرح قلب والديه لهذا الشعور النبيل. وعندما ذهبوا إلى عائلة الكردى بالطعام، استقبلتهم بالدهشة والاستفسار. ولما علموا أن صاحب هذه الفكرة هو عازر قبلوه ودعوا له.

كان بالبلدة كتاب لفقيه يدعى الشيخ أحمد علوش ، زار عائلة عازر، واقترح على والده أن يرسله أثناء عطلة الدراسة للكتاب. فوافق والده على ذلك، وواظب عازر على الكتاب، ووجد فيه متعة جميلة، إذ اقترح الفقيه عليه يوماً أن يحضر معه إنجيلاً ليدرس فيه فأعطاه إنجيل يوحنا مكتوباً بحروف كبيرة. وكم دهش الجميع فقد حفظ عازر والفقيه إنجيل يوحنا.

انتقلت أسرة عازر إلى الإسكندرية حيث عمل والده وكيلاً لدائرة "أحمد يحى باشا"، وبعد أن أنهى عازر دراسته الثانوية التحق بشركة "كوكس شيبنج للملاحة" وكان رئيسه المباشر رجلاً لبنانياً، صديقاً حميماً وكان المدير العام استرالياً، متشدداً فى معاملته للموظفين، فخافوه وتجنبوا مقابلته، وكان هو يعلم ذلك، وكان يقف أحياناً فى الصباح على رأس السلم فى مواجهة الباب العمومى وذلك لمراقبة حضور الموظفين.

كانت أعمال عازر تبدأ الساعة التاسعة صباحاً، فكان يعرج على الكنيسة المرقسية كل صباح قبل ذهابه للعمل، وتصادف دخوله يوماً فوجد المدير العام واقفاً على السلم، فصعد وحياه، فسأله عن سبب تأخره فى الحضور فعرفه أن عمله يبدأ فى الساعة التاسعة كل يوم. وتركه وشأنه فقال المدير لرئيسه المباشر: إن هذا الشاب علمنى كيف أحترمه، وأعجبنى فيه رباطة جأشه، وحسن تصرفه، ولم يتجنب مقابلتى كما يفعل زملاؤه.

كلف يوماً أن يشرف على الإجراءات الجمركية الخاصة بحاجيات أحد كبار القادة الإنجليز العائد إلى بلده. وفوجئ عازر عند فتح حقائب القائد فى صالة التفتيش، بوجود حافظة نقود القائد فى طيات ملابسه، فسلمها له المفتش بعد أن حرزها، وبعد ذلك عاد عازر إلى الشركة وطمأن المدير العام على إنهاء الإجراءات، وسلمه حافظة النقود وأختامها سليمة. وكان القائد يجلس بجوار المدير فانفرجت أسارير وجهه، وأخذها منه شاكراً، وقدم له مائة جنيه إسترليني مكافأة له على أمانته فرفض بأدب رغم إلحاحهما عليه بشدة، ثم حياهما وانصرف.

وفى صباح اليوم التالى زف إليه رئيسه المباشر بشرى صدور قرار بزيادة مرتبه عشرة جنيهات دفعة واحدة. وكان لهذا القرار صدى كبير بين زملائه، إذ لم يمض على منح العلاوات الدورية سوى شهور قلائل.

وهكذا تدرج عازر فى عمله، محوطاً بالتقدير والثقة من الجميع[4].

كان حبه لله واضحاً فى سلوكه فى هذه الفترة من عمره فقد كان يقضى وقت فراغه فى الكنيسة مواظباً على حضور القداسات والصلوات، ويمضى الليل فى حجرته ساهراً يقرأ الكتب المقدسة أو يصلى، وكان يبغض المزاح، كما منع أهله من دخول حجرته أو معرفة محتوياتها إذ كان يعتبر حياته فيها تدريب على حياة القلالى والوحدة[5]

فوجئت[6] يوماً بمحادثة تليفونية يطالبنى فيها محدثى بالحضور لمقابلة مدير عام الشركة التى يعمل بها عازر. فأثار هذا الطلب مخاوفى إذ أن فى عهدة شقيقى أموالاً طائلة تصل أحياناً إلى آلاف الجنيهات لتصريف الأعمال اليومية بالشركة. ولكن محدثى ـ وهو رجل صديق ـ طمأننى على ذلك. وتوجهت لمقابلة المدير العام الذى فاجأنى بخبر غريب، أن عازر قدم له استقالته، وأنه جاءت فى عبارة موجزة: "بما أن لدى أعمالاً هامة لا يسعنى أن أتخلى عنها، فلذلك أقدم استقالتى من العمل، وأرجو أن يتم قبولها حتى نهاية يونيو 1927م.

سألنى المدير: "أى عمل هذا الذى فضله عازر على عمله هنا، وعلى مركزه الممتاز." فأكدت له جهلى بأمر هذه الاستقالة ووعدته باستطلاع الأمر.

وعند المساء ـ وفى جلسة عائلية ـ سألنا عازر عن سر هذه الاستقالة فقال: "أيهما أفضل حياة البر والقداسة والسعادة الحقة، أم حياة الشقاء والكد والتعب فيما لا ينفع. وماذا يفيد الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، أو ماذا يعطى الإنسان فداء نفسه."

أشعلت هذه الكلمات نار حرب لا هوادة فيها. تضافر الأهل والأقارب والأصدقاء لاقتلاع هذه الفكرة من قلبه ناصحين إياه بالحرص على ما وهبه الله من توفيق. ولكنهم لم يفلحوا، وانتصر هو على إغرائهم ونصحهم وإشفاقهم. وحالفه التوفيق فى كل خطواته حتى تم له ما أراد، وأصبح راهباً بدير البراموس[7] فكيف كان ذلك.

ذهب عازر لمقابلة الأنبا يؤنس الذى كان وقتها مطراناً للبحيرة والمنوفية ووكيلاً للكرازة المرقسية، والتمس منه أن يقبله راهباً. فسأله: "من تكون، ومن أى البلاد؟" فلما علم أنه من عائلة زيكى ـ العائلة الصديقة منذ زمن بعيد ـ وأنه ابن يوسف عطا، قال له: "أين أبوك وشقيقك؟ ولماذا لم يخبرانى برغبتك هذه؟ لا شك أنهما يرفضان هذه الرغبة. فإن لم يحضرا معك ويوافقا على طلبك، فلن أقبل رهبنتك البتة."

عاد عازر إلى البيت حزيناً هذه الليلة، وظن الأهل أن هناك عراكاً نفسياً فى داخله نتيجة تضارب رغباته. وظنوا أن الفرصة مهيأة ليثنوه عن عزمه، وليستمر فى عمله. فعرفوه أن مدير الشركة وعد أن يمنحه علاوة استثنائية من أول يوليو وأعادوا على مسامعه نصائحهم المعهودة. ولكنه أظهر تصميمه على ما أراد، وأنه اعتزم أمراً سيتم بإذن الله. وأبان لهم أن مرجع حزنه هو ما جرى بينه وبين الأنبا يؤنس.

ولما كان والده يعرف عنه أنه لا يتراجع عما اعتزم، وأنه يقابل الصعاب بصدر رحب، وقلب ثابت، اقترح عليه أن يذهب إلى الكنيسة ويتقدم إلى الأسرار المقدسة، ثم يصنع بعد ذلك ما يرتاح إليه ضميره، ولن يعارضه فيه أحد.

كان أب اعترافه القمص يوحنا جرجس الكبير، وكان رجل ذو مشورة صالحة، محبوباً من شعبه، شبابه وشيوخه، وكان يدعو عازر بعازر المبروك لحسن سيرته. فقابله والده، وكان اليوم يوم جمعة وأحاطه علماً بما انتواه ابنه فتناقش القمص حنا مع عازر فى الأمر وقربه من الأسرار الإلهية.

وبعد انتهاء القداس أخبر والده صراحة أنه من صالح عازر ومن الخير له مساعدته على إتمام قصده، لأنه يعلم طريقه جيداً، ورسم لنفسه طريقاً مستقيماً من زمن بعيد، وهو به عليم. وأكد لوالده أنه سيقف بجانب عازر لتحقيق أمنيته، وأن قلبه يحدثه أن الله هو الذى أختار له هذا الطريق المبارك.

وإزاء ذلك صاحبه والده وشقيقه إلى الأنبا يؤنس فظهرت عليه علامات الرضا، ولكنه أخذ يناقش عازر بحزم وشدة مبيناً له متاعب الرهبنة ومشقتها، ووعورة طريقها، وما سيحيق به من آلام وإهانات وما سيلحقه من تجارب وحروب متنوعة، وأنه لن ينعم يوماً بالراحة وخلو البال. فأجابه عازر: "كل هذا رسمته أمامى، كما إنى مارست طريق الرهبنة بكل حرص منذ خمس سنوات فى بيت أبى، وكل ما سوف يصادفنى لن يكون جديداً علىَّ." فقال له: "يا ابنى إنى أرى أولاد المدن لا يحتملون مشقة الرهبنة، والقليل منهم هو الذى ينجح فى هذا الطريق." فأجاب عازر: "رجائى بالله قوى. وأنا أؤمن لو باركتنى، وسألت لأجلى القوة والتوفيق سوف أنجح، والمسيح نفسه ليس بظالم ولا ينسى تعب المحبة."

وهنا باركه الأنبا يؤنس وقال سأهيئ لك سبيل الانخراط فى الرهبنة، فتهلل عازر فرحاً، وانحنى أمامه ساجداً عدة مرات، وعاد مع والده موفور السعادة. وقال لنا: "من أنا الحقير؟ وأين أنا من مقام أولاد الملوك مكسيموس ودوماديوس الذين تركا ملك العالم لينالا الملك الدائم، زهداً فى الممالك والمال ومحبة فى ملك السموات. ياليتنى تراباً تحت أقدامهما." وكانت ليلة قاسية على الجميع.

لازم عازر الآباء الرهبان الذين كانوا يدرسون بالكلية اللاهوتية بالإسكندرية، منتظراً يوم الانطلاق إلى الدير، وبقى مدة صوم الرسل ملازماً الكنيسة ليلاً ونهاراً. وفى يوم عيد الرسل 12 يوليو 1927م ذهب إلى الكنيسة باكراً يحمل على كتفه قفة مملوءة فطيراً أعدته العائلة، ورفض أن يحملها أحد عنه أو يستقل عربة مستكثرين عليه أن يحمل القفة، وهو يرتدى بدلة وطربوشاً، ويسير هكذا فى الطريق، ويراه الناس على هذا الحال. ولكنه قال لهم: "ألم يحمل رسل المسيح الأطهار كل منهم قفة مملوءة من الكسر مما فضل من الخمس خبزات؟ ولما وصل الكنيسة وزع الفطير معلناً اغتباطه برضا الله، وقبوله ليسلك طريق الرهبنة.

ثم أعد ملفاً ضمه أوراقاً خاصة به على ضوء ما يتبع عند قبول إنسان فى عمل جديد وإن لم يطلب منه هذا، ولكنه صمم عليه.

بعد انتهاء الدراسة بالكلية اللاهوتية عاد الرهبان كل إلى ديره. واستدعاه الأنبا يؤنس. وحدد له ميعاد السفر إلى دير البراموس مع القس بشارة البراموسى[8]وزوده بخطاب توصية لأمين الدير لقبوله فى سلك الرهبنة، وزكاه بشهادة حسنة عنه وعن عائلته. وأوصى القس بشارة بأنه عند عودته فى أول أكتوبر سنة 1927م تكون الأمور قد تكشفت أمام عازر، فاحفظوا له ملابسه فى القصر الملحق بالدير ليستخدمها إذا أراد العودة.

فى صباح يوم 27يوليو 1927م بكر عازر ورتب متاعه وتوجه إلى محطة السكة الحديد وكان فى وداعه الكثيرون.. واستقل القطار إلى محطة الخطاطبة. ثم استقل قطار شركة الملح والصودا ـ الخاص بنقل النطرون والملح من بير هوكر للخطاطبة ـ ووصلا بير هوكر[9]عند الغروب. وكان فى انتظارهم رهبان من الدير ومعهم دواب لنقل الأمتعة.. ووصلوا الدير الساعة الثامنة مساء. فاستقبلهم الرهبان بحفاوة وغسلوا لهم أرجلهم، كما هى عادة الرهبان. وقدم القس بشارة لأمين الدير "القمص شنودة" مرافقه عازر على أنه زائر من الإسكندرية من أبناء الأنبا يؤنس لذا أنزله بقصر الدير، وأدار له ماكينة النور لينير القصر. وقدموا له العشاء.

وفى الصباح سلم القس بشارة خطاب الأنبا يؤنس لأمين الدير، وعرف منه أن عازر طالب رهبنة وليس بزائر، فدق جرس الدير وحضر جميع الرهبان عند سماع دقاته ليستطلعوا الخبر، فأعلمهم أمين الدير بما كان فاستبشروا خيراً وقالوا له هذا أول طالب رهبنة يقابل بهذه الحفاوة، لابد أن يكون له شأن يذكر.

أرشده أمين الدير إلى قلاية خصصها له ليقيم فيها. وكانت خالية متروكة من زمن تحتاج إلى الكثير من النظافة، كما أرشده إلى المكان الذى يوضع فيه الخبز، ليأخذ منه من هو فى حاجة إليه، ثم تركه ومضى.

فقام عازر وأخذ حجر الجبس قبل حرقه ودقه جيداً فى أرضية القلاية، ورشه بالماء، فصار متماسكاً جداً، وأخرج من حقيبته ورقاً سميكاً أحضره معه، وفرش به أرضية القلاية، ورتب مكاناً لنومه، ومكاناً لجلوسه ورتب حقائبه لتصبح كمائدة تتوسط المكان. وارتدى جلباباً أسوداً وطاقية، وأصبح وكأنه ولد راهباً منذ زمان.

كان القس بشارة متلهفاً على الاطمئنان على عازر إذ لم يقدم له أحد فى الدير أى مساعدة. ولكن أمين الدير نبهه أن يتركه وشأنه حيناً من الزمن لتظهر آثار مالقيه من معاملة فى نفسه. وليعلم قدرته على تحمل صعاب الطريق الجديد.

أما عازر فكان مواظباً على الصلوات، فإذا مادق جرس نصف الليل، فإنه يقوم متوجهاً إلى الكنيسة ليشترك فى التسبحة والصلاة، ويعود إلى قلايته نحو الساعة السابعة صباحاً دون أن يختلط بالرهبان.

فى مساء أحد السبوت، وقد مضى على عازر عدة أيام، ولم يسأل عنه أحد، قال أمين الدير للقس بشارة، والقمص باسيليوس والقمص عبد المسيح المسعودى، وكلهم من شيوخ الدير، هيا بنا نفتقد الأخ طالب الرهبنة لنرى كيف حاله. فذهبوا إلى قلايته فوجدوا أمامها مكنوساً مرشوشاً. ولما دخلوا القلاية أعجبهم ترتيبها الجميل، وتعجبوا مما رأوا، فقال لهم القمص عبد المسيح المسعودى: "أصله حارت ، ومستنى السيل[10]." وعند انصرافهم، ودعهم عازر بملء الاحترام، فقال له القمص عبد المسيح: "يا ابنى إن نعمة الرهبنة هى بتسليم القلب لله وهى أعظم المقتنيات، وأثمن من كنوز الأرض وخيراتها والراهب الذى افتقر باختياره وجهز نفسه ليكون جندياً أميناً للمسيح لهو أعظم من ملوك الأرض وحكامها قوة ومكانة. وقد اتسع قلبى لك، وأسأل ربى يسوع المسيح أن يوفقك، ويفتح لك باب النعمة، ويهديك إلى سبيل البر، ويملأ قلبك اطمئناناً لتسير فى غربة الحياة آمناً، فلا تخاف شراً، والله معك، وعصاه وعكازه يهديانك." فسجد له عازر وقبل يديه، أما هو فقد احتضنه وقبله، وقال له: "منذ هذه الساعة قد وهبك لى الرب لتكون ابناً مباركاً." فتهلل الآباء فرحين.

ومنذ ذلك الوقت ابتدأت تلمذته للقمص عبد المسيح المسعودى الذى كشف له الكثير من أسرار الرهبنة، وطرقها المستقيمة، وتدرج على يديه فى النعمة، وصار عازر مضرب الأمثال فى الدير لطاعته وعبادته ووداعته، ولاختياره أشق الأعمال. كما أولى شيوخ الدير الذين تقدمت بهم الأيام عناية خاصة، يغسل لهم ملابسهم وينظف قلاليهم، ويهتم بمأكلهم. وكان سعيداً بهذا العمل، ولكنه ما كان يزور أحداً إلا لخدمته[11]. وكان الآباء الشيوخ يباركون جهوده، ويسألون الله لأجله. وكان أمين الدير يرتب الخدمة أول كل شهر بين الرهبان القادرين على العمل، وكان نصيب عازر أن يدير المطبخ مع راهبين آخرين، وكان ذلك فى بدء صوم الطاهرة العذراء أم النور أول مسرى 1927م. فقام عازر ونظف الأوانى النحاسية، ورمم كوانين المطبخ، واعتنى بمياه الشرب. وكان بالدير جرار كبيرة، فغسلها جيداً حتى صارت صالحة لحفظ مياه الشرب. وملأ جرة لكل شيخ من الآباء غير القادرين على الذهاب إلى طلمبة المياه. وقد صادف هذا العمل ارتياحاً عظيماً من الآباء الذين قدروا له حسن صنيعه. وكان رائده القمص عبد المسيح المسعودى يرشده، ويحثه على الاجتهاد دون أن يسمعه كلمة مديح، بل كان يحدثه عن فضائل الآباء الأولين، مبيناً عظم تواضعهم، وكيف كان الواحد منهم يملأ للرهبان جرارهم كل ليلة، بماء يجلبونه من آبار بعيدة عن الدير أميالاً كثيرة. ويرجون الله أن يتقبل أتعابهم رائحة بخور حمد وشكر.

وإلى جانب اهتمام عازر بخدمة الآباء الشيوخ كان يقوم بطحن الغلال وعمل الخبز وعجن القربان. كل هذا بجانب مداومته على الصلاة والتناول من الأسرار، ودراسة الكتب المقدسة وكتابات الآباء.

مضت شهور الصيف واحتفل الرهبان بمستهل سنة الشهداء. واستعد الآباء طلبة الكلية اللاهوتية للعودة إلى الإسكندرية فاستحضر أمين الدير عازر، وعرفه بميعاد سفرهم، فقال له: "تصحبهم السلامة، ورائدهم التوفيق. أما أنا فاسمح لى أن أسير فى الطريق الذى بدأته، ويقينى أن الله لا يترك طالبه." فقال له القس بشارة: "أما ترسل لذويك خطاباً تطمئنهم عليك." فقال له: "لم يرسل يوسف لأبيه خطاباً عندما دعاه ليحضر لمصر بل قال لأخوته أخبروا أبى بما رأت عيونكم وما سمعته آذانكم. وها أنا ذا الضعيف أتنشبه بما فعله يوسف. وأرجو من آبائى المسافرين أن يعلموا أهلى بما منحنى الله من نعمة على يد أبائى."

بعد ذلك أشار عليه القمص عبد المسيح أن يصدر مجلة دينية باسم مجلة ميناء الخلاص، فاطلع عازر بهذا العمل وكان يكتبها بخط يده وكان عدد النسخ لا يقل عن خمسين نسخة مكونة من اثنى عشر صفحة، مبوبة تبويباً حسناً. وكان يرسلها شهرياً لتوزع بيت الأخوة والأحباء، ونجح هذا العمل الذى كلفه الكثير من الجهد والدرس والبحث. وقد استمر فى كتابة هذه المجلة عدة سنوات.

كان الراهب أرمانيوس[12]مكلفاً بتوصيل البريد يومياً من بير هوكر مستخدماً بغلاً حرون صعب القيادة، فأوقعه على الأرض وهرب فى الجبل. وتعب الراهب فى البحث عنه طول اليوم، حتى نفذت قواه وعاد الدير متأخراً فوجد الرهبان ينتظرون مجيئه قلقين عليه، لكن أحدهم ـ وكان مشهوراً بالغيرة الشديدة على ممتلكات الدير ـ سأله عن البغل وكيف جاء بدونها، وطلب منه ألا يدخل الدير إلا ومعه البغل. فتقدم عازر ـ رغم حداثة عهده بالدير ـ وقال له: "يا أبى دعه يدخل ويستريح، وسوف يجد أحد الأعراب البغل ويحضره للدير كما هى عادتهم. ولكن هذا الأخ لم يقتنع وظل فى ثورته، فنصحه الرهبان بالهدوء وعرفوه أن رأى عازر رأى حكيم، فضلاً عن أنه قد أكد له أنه سيشترى دابة أخرى على حسابه، وما هى إلا لحظات حتى دق الجرس، وإذ بالباب أحد العربان ومعه الدابة الجموح، فأخذها منه، ومنحوه عطايا كان من أجملها منحة عازر.

وفى الصباح وهم يتشاورون فى أمر إحضار البريد وإرساله إلى بير هوكر، تطوع عازر لأداء هذه المهمة، وحاول أمين الدير أن يثنيه عن عزمه، فأصر بالأكثر، وقال إنه متمرن على ركوب الخيل. وركب البغل الذى أخذ يشب ويجمح ليوقعه كما اعتاد، ولكن عازر ساسها حتى جعلها مطية ذلول.

بعد أن اكتسب عازر رضا الرهبان كبيرهم وصغيرهم وبعد أن اطمأن شيوخهم إلى طهارة سيرته وقوة عزيمته، وفى يوم 25 فبراير 1928م مع بدء الصوم الكبير، زكوه جميعاً ليكون راهباً بينهم[13]. فابتدأوا بصلاة عشية ، ثم صلاة نصف الليل، وسجد عازر أمام الهيكل بكنيسة العذراء الأثرية، وعن يمينه جسد أنبا موسى الأسود، وعن يساره جسد أنبا إيسيذورس قس القلالى. وتمت طقوس رهبنته ودعوا اسمه مينا وحضر القداس فى الصباح. وبعد ذلك طافوا به أرجاء الكنيسة بالشموع، والصلبان، وتبارك من أيقونات القديسين. وتقدم إليه القمص يعقوب البراموسى ـ شقيق القمص عبد المسيح المسعودى ـ الشيخ الصامت الذى لا يتحدث مع أحد، ولا يرغب فى أن يحدثه أحد، ولكن محبته للراهب مينا، رغم أنه كان يظهر له عدم رضاه بخدمته له ـ هذه المحبة دفعته إلى أن يتكلم، وباركه قائلاً: "يا ابنى ليباركك الرب، ويؤهلك للنعمة، وينجح طريقك لتسير فى فلاح وتوفيق، ويفيض عليك من روحه القدوس لتكون أميناً إلى النفس الأخير على الوزنات التى سيسلمها لك يسوع لتتاجر بها، وتربح." وكانت هذه الكلمات مصدر سعادة الآباء، وقالوا جميعاً A*m/n ece>swpi[14]

دخل الراهب مينا حياة جديدة. ووضع رجله على أول درجة فى سلم جهاده بعد الرهبنة، ووضع لنفسه قانوناً سار عليه مدى حياته هو: "أن يحب الكل، وهو بعيد عن الكل." وظل يمارس العبادات الشاقة بإرشاد أبيه الروحى، فداوم على الصلوات[15]، والأصوام[16]، والتقرب من الأسرار المقدسة. كما كان وديعاً متسامحاً لا يسلم نفسه للغضب مهما قابل من صعاب أو لقى من إهانات، دافعاً الإساءة بالإحسان.

تعاون مع أخوته الرهبان فى كل أمر، فكان يخفف عن الشيوخ أثقال الأعمال، ويتولى خدمة الضعيف، ويعتنى بالمريض، ولم يكن يبغى فى هذا كله مديحاً أو مجداً زائفاً، بل تمسكاً بالوصية المقدسة.

كما اعتنى بمكتبة الدير ورتب كتبها ولازم قراءة الكتب المقدسة وتعاليم الآباء، فتفتحت أمامه أبواب المعرفة، وانجلت أمامه الغوامض. وقد انكب على كتابات مار اسحق السريانى العظيم فى العارفين، فأرشدته كيف يسلك الطريق الملوكى[17]. ومن شدة شغفه بهذه الكتابات نسخها فى خمس مجلدات جلدها تجليداً حسناً، حسبما تعلم من راهب متقدم فى الأيام اسمه القمص باخوم كان الأب مينا يخدمه. ولما راى أنه قد استفاد كثيراً من نسخ هذا الكتاب، عاود نسخه أربع مرات، طمعاً فى زيادة المعرفة والتعمق فى الدرس ولنفع الآخرين.

كما استرشد فى حياته بأقوال قديسين كثيرين مثل الأنبا أنطونيوس، والأنبا شنودة رئيس المتوحدين، والقديس مكاريوس وغيرهم كثير من المعلمين العظام.

كما كان يتولى عمل القربان بصفة مستديمة مولياً إياه عناية خاصة، وكان يستخلص الدقيق الذى يعجن منه ثلاث أو أربع مراحل حتى يصير نقياً خالياً من كل شائبة ويخبزه بنفسه.

فى يوم الأحد المبارك الموافق 18يوليو سنة 1931م رسم الراهب مينا قساً باسم القس مينا، وصلى قداس الرسامة الأنبا ديمتريوس مطران المنوفية الأسبق. وقد ظل القس مينا يبكى طوال القداس، وأبكانا معه، وبعد ذلك طافوا به الكنيسة الأثرية بالدفوف والألحان، وأمامه الصلبان. وقد استأذنت البابا فى ذلك الوقت فى أن استحضر بعض الأشجار لزراعتها فى حديقة الدير لتكون تذكار رسامة القس مينا، فأذن لى، وطلب منى أن أوزعها على الأديرة الأربعة الموجودة بوادى النطرون. وقد تم ذلك فى شهر أمشير التالى.

ثم وقع عليه الاختيار للدراسة فى كلية الرهبان اللاهوتية بحلوان، فأطاع مرغماً، لأنه أحب حياة العزلة فى الدير فانتظم فى الكلية وأظهر تفوقاً ملحوظاً. واختار له زميلاً أنس إليه وارتاحت نفسه لمصاحبته هو القمص كيرلس[18] الأنبا بولا. وقد رتبا معاً أن يقوما برفع بخور عشية كل ليلة، وإقامة القداس فى الصباح الباكر قبل بدء الدراسة. وسار هذا النظام أياماً، وكان القس مينا يتعهد بخبز القربان. ولكن هذا الترتيب لم يعجب البعض، فقاموا فى الليل وهدموا فرن القربان سراً. ولما قام القس مينا ـ كعادته ـ وعجن القربان، وعند الثالثة فجراً ذهب ليخبزه، فإذا به يجد الفرن قد هدم. فأيقظ على الفور القس كيرلس، وتشاورا معاً لإيجاد حل لهذه المشكلة. وجاءت فكرة للقس مينا نفذها فى الحال. ذهب إلى صاحب مخبز أفرنجى كان فى مواجهة بيت الرهبان، وطلب منه أن يخبز القربان عنده، فرحب الرجل بالطلب. وقام القس مينا بخبز القربان بنفسه بإتقان أثار إعجاب صاحب المخبز. وأقيم القداس كالمعتاد، ثم عرض هو وصديقه القس كيرلس الأنبا بولا الأمر على مدير الكلية المتنيح القمص ميخائيل مينا، فعقد مجمعاً من الآباء الرهبان، وأقروا عمل قداس يومى، بالمناوبة بين جميع الآباء من كل الأديرة بالترتيب، فاستقر هذا النظام، وأصبح متمماً لبرنامج الدراسة وصارت العشية فرصة سانحة للآباء لإلقاء كلمة الوعظ.

كان الأنبا يؤنس موجوداً فى الكلية، وكانت نوبة رفع بخور عشية على القس مينا، وألقى عظة استغرقت ساعة كاملة، أعجب بها البابا وسر من كلماته التى أفعمها بأقوال القديسين، وبالأخص أقوال مار اسحق العظيم فى العارفين. وبعد انتهاء كلمته تقدم بطلب البركة كما يقضى النظام، فأثنى عليه ثناء مستطاباً، وبارك جهوده، ودعى له أن يكون عاموداً فى هيكل الرب. وفى محادثة مع مدير الكلية المتنيح القمص ميخائيل مينا أبدى البابا رغبته فى رسامة مطران للغربية والبحيرة، وصرح له أنه يود لو رسم القس مينا البراموسى أسقفاً لهذا الكرسى. زف القمص ميخائيل البشرى إلى القس مينا ظناً منه أنها ستنال منه استحساناً ولكن القس مينا عاد إلى قلايته مهموماً، وقابل صديقه وأخاه القس كيرلس الأنبا بولا وأسر إليه بعزمه على السفر إلى دير القديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين ليحيا هناك حياة الوحدة. وتعب معه القس كيرلس الليل كله لكى يرجعه عما اعتزم. ويسلم الأمر لله ويطيع ويقبل هذه الموهبة، ولكنه أصر على ما انتوى.

وفى الصباح استقل القطار إلى سوهاج، ومنها توجه إلى الدير. وسبب هذا الاختفاء انزعاجاً ليس بقليل. إذ كتم القس كيرلس الأمر عن كل أحد. واستدعى شقيقه، وسئل عن مستقر القس مينا، فاندهش لهذا السؤال إذ كان خالى الذهن تماماً، وطلب إليه البحث عنه، لئلا ينال غضب البابا.

رجع أخوه للقس كيرلس الأنبا بولا، وتوسل إليه بدموع أن يكشف له سر اختفاء أخيه، فتحنن قلبه، وعرفه الحقيقة.

وبعد جهود مشكورة بذلها أحد التجار بسوهاج رجع القس مينا ليقابل الأنبا يؤنس. وكان العتاب واللوم الذى لقاه القس مينا قاسياً للغاية، ولكنه احتمل فى صبر، ثم كشف له مكنونات قلبه ألا وهى رغبته فى الوحدة. وقد قدر له البابا هذه الرغبة، وصرح له بالرجوع إلى الدير ليستريح وعليه بعد ذلك أن يتبع الطريق الذى يرسمه له أبوه ورائده القمص عبد المسيح المسعودى.

عاد القس مينا للدير متهللاً، واجتمع مجمع الرهبان، وحاولوا إقناعه بالعدول عن ولوج الوحدة، خوفاً عليه من مخاطرها الروحية، وقالوا له: "أنت ابن ثلاثين سنة عمراً وسنوات رهبنتك خمسة، فهل تريد أن تسلك طريق الوحدة الذى فشل فيه قبلك رهبان جاهدوا ثلاثين وأربعين سنة؟ ألعلك تريد الهروب من المسئولية سواء كانت بالكلية، أو بالدير هذا فضلاً عن مخاطر جسدية تجعلنا نخشى عليك الإقامة فى مغارة منفرداً بالصحراء، حيث ستهاجمك وحوشها، وحياتها السامة المهلكة. ولهذا كله نحن لا نوافق البتة على سلوكك هذا الطريق الوعر."

صبر القس مينا على هذه الحملة العنيفة، ثم ابتدأ يتكلم بهدوء قائلاً: "آبائى وأخوتى، إنى أعتز بمحبتكم وغيرتكم المحبوبة لى. ولكنى أتقدم إليكم بالتماس الابن الطائع الخاضع لرأى آبائه الذين ساروا فى طريق العبادة شوطاً بعيداً، ويعلمون من أسرار هذا الطريق التى تتوق نفسى إليه أكثر مما أعلم، ويقينى أن اسم الرب يسوع يهيئ لى المسير فى هذا الطريق الضيق المؤدى للحياة لكل طالبيه بضمير نقى، وفكر خال من جميع الشهوات فاطمئنوا كل الاطمئنان، وسأكون الابن الخاضع بكل قوتى للإرشاد والنصيحة ولن أقدم على عمل أو أسير خطوة دون أن أسترشد برأى أبى ورائدى الذى تفضل الله وملأ قلبه محبة، وحناناً لشخصى الضعيف."

هنا اتجهت الأنظار نحو القمص عبد المسيح المسعودى ليسمعوا رأيه فى الأمر. أما هو فأجاب وقال: "أما من جهة القس مينا، وخطورة وجوده بالمغارة فاطمئنوا بالله. لأن وليه القوى، وهو بقدرته سيمسك بيده ويهديه الطريق، وقد اطمأن قلبى لتصرفاته، لأنه يسير فى طريقه بحكمة الشيوخ، وبقلب مؤمن. وإنى أرى بعين الإيمان أن القس مينا سينجح فى طريقه، لأنه مفروز من بطن أمه لهذه النعمة، فلا تقفوا فى طريقه حجر عثرة."

وهنا انبرى له شيخ من الآباء غيور، وخاطبه بحدة بدافع محبته للقس مينا، وقال له: "يا أبانا ألست أنت ابن أربعين سنة فى طريق الرهبنة، هل فكرت يوماً أن تسير فى طريق الوحدة؟ أليس من أبنائنا من هم شيوخ بالدير، فهل فكر فى هذا الطريق أحد. أرجوك أن تترك هذا الراهب الصغير وشأنه، وانصحه أن يرجع إلى الكلية حتى ينال شهادتها، ويعود لخدمة الدير، حتى يشاء الله ويعطيه رتبة حسنة كمن سبقوه من الآباء."

فأجاب القمص عبد المسيح بروح الوداعة: "دع ابنك القس مينا يسير فى طريقه، ولا تغلبنك عاطفة الشفقة، والمحبة فتمنع عنه نعم الله."

ازداد هذا السيخ المحب حماساً، وقال له: "لماذا لم تسر أنت فى هذا الطريق، وكيف تدفع غيرك للمسير فيه، وهو الطريق الشاق الضيق الذى لا يقوى على السير فيه إلا من أعانه الله، وأيده بروحه القدوس." فقال القمص عبد المسيح: "إننى احتكم فى هذا الأمر للأخوة، وسأنزل، وسينزل القس مينا معى لقرار الآباء."

ساد الصمت برهة، ثم قام القمص شنودة والقمص باسيليوس، والقمص باخوم، والقمص جورجيوس، والقمص لوقا، وقالوا بلسان واحد: "قلتكن مشيئة الرب. وليسلم القس مينا لعناية الله، وإرشاد أبيه القمص عبد المسيح، والله أمين، وعادل سيهديه إلى سبيل البر ويقوده إلى طريق السلامة."

فصرخ القس مينا بصوت الفرح[19] والتهليل: "ليكن اسم الرب مباركاً ها مطانية يا أبائى وأخوتى." وسجد لهم ثلاث سجدات اعترافاً بمحبته الغالية لهم. 

عاين القس مينا المغارة التى سوف يتوحد بها[20] وهى تبعد عن الدير مسافة ساعة سيراً على الأقدام، وكانت من قبل سكناً للقمص صرابامون البراموسى رئيس الدير الأسبق، وهى عبارة عن متسع 6x 8متر نقر فى الصخر لعمق ثلاثة أمتار، فوجدها تحتاج إلى ترميم، فنقل إليها جبس من الموجود بالدير بكثرة إذ كان الرهبان يحرقونه ويقومون بطحنه بطاحونة خاصة، ونقل إليها الماء، وابتدأ فى ترميم السقف والأرضية والحوائط بمهارة وحذق، وجعل لها باباً يرفع إلى أعلى. وبعد أن أصبحت صالحة للسكن نقل إليها جميع حاجاته، وطاولة من الخشب، وجرار فخار للماء، وبعض الأوانى. كما أخذ بعض البقول والدقيق، ولم يأخذ خبزاً حتى لا يبقى عنده اكثر من قوت يومه. ثم ودعه الآباء، وهم يدعون له بالتوفيق، وأخذ عليهم العهود ألا يزوره أحد، وألا يهتم به أحد. وتعهد هو ـ كما أمره أبوه ـ أن يحضر للدير مساء كل سبت ليغسل ملابسه وملابس الآباء الذين أقعدتهم الشيخوخة أو المرض عن قضاء حوائجهم بأنفسهم، ولكى يحضر صلاة عشية الأحد وليتمكن من التقرب من الأسرار المقدسة صباح الأحد.

استقر القس مينا بالمغارة، ورتب إقامته فيها كترتيب القلاية بالدير ومارس العبادة طبقاً لطريق الوحدة، من مداومة الصلاة وعمل المطانيات ونسخ الكتب، وكانت ساعات عمله اليومى عشرون ساعة[21].

وفى نهاية الأسبوع الأول عاد إلى الدير، وحضر العشية، وجلس مع آبائه الرهبان، وحدثهم عن قوة الله التى تسنده. ولما تواترت أسئلة الآباء عما رآه، وما كابده من مشقات قال لهم: "إنى لم أجاهد بعد حتى الدم، فاطمئنوا[22]." ثم انفرد بعد ذلك بأبيه القمص عبد المسيح كاشفاً له خفايا قلبه، إذ قد عاهده قبل التوحد فى المغارة ألا يخالف له رأياً، ولا يخفى عنه أمراً. وكان يشجع قلبه ويزوده بالنصائح.

واستمر الحال على هذا المنوال، واستراحت قلوب آباء الدير من جهته، إذ كانوا يرونه والسعادة بادية على وجهه[23]، ولم لا، وقد صار شريكاً للملائكة فى تسبيح الله، وتمجيد اسمه القدوس. وكانوا ينتظرون مقدمه للدير كل يوم سبت ليأنسوا به، ويطمئنوا عليه. وكم كان منظره خاشعاً وهو عائد إلى مغارته حاملاً الماء والزاد، مرتدياً زعبوطاً خشن الملمس، وبيده عصاه يتوكأ عليها أو يعلق عليها حاجاته.

فى أحد الأيام من عام 1933م سمع القس مينا باباً يطرق على باب مغارته لأول مرة منذ توحده، ففتح الباب ونظر إذ بالأعرابي الذى اعتاد أن يراه من حين لآخر، معه رجلان أحدهما مصرى والآخر أجنبى، فبش لهما، ودعاهما للدخول. فنزلا سلم المغارة بحذر، وأجلسهما على بطانية فرشت فوقها ملاءة بيضاء جديدة نظيفة. وعرفاه بنفسهما: فأحدهما دكتور حسن فؤاد مدير الآثار العربية فى ذلك الوقت، والآخر هو مدير كلية اللاهوت بنيويورك.

ولما دار بينهم الحديث شعر الزائر الأمريكى أن هذا المتوحد يعرف الإنجليزية، وأراد أن يتحدث معه بها. وكان الأب مينا قبل الرهبنة يجيدها كأحد أبنائها ولكنه اعتذر لضيفه بعدم قدرته على متابعة الحديث باللغة الإنجليزية التى هجرها من مدة طويلة.

قال له زائره إنى جئت إلى مصر خصيصاً إذ شرعت فى وضع كتاب عن أصل الرهبنة ونشأتها فى مصر، وأنا أحاول أن أتعرف على تعاليم أب الرهبان جميعاً القديس أنطونيوس، وآباء برية شيهيت، وآباء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية العريقة. وقد بذلت جهداً كبيراً فى الاطلاع فى مكتبة البطريركية والمتحف القبطى، كما زرت أديرة وادى النطرون، واقتبست شذرات من هنا وهناك. ولكنى أرى أنها غير كافية. واليوم طلبت من زميلى الفاضل أن نتريض فى الصحراء خارج دير البراموس، وسرنا مسافة طويلة دون هدف حتى قابلنا هذا الأعرابى، وسألنا هل ترغبون فى زيارة العابد بالمغارة، ولو أننا لا نعلم عنك شيئاً، لكن حب الاستطلاع قادنا محوك.

فجلس القس مينا يروى حياة آباء الرهبنة مثل القديس أنطونيوس والأنبا بولا أول السواح، والقديس مكاريوس أب برية شيهيت، والقديس باخوميوس أب الشركة. ثم قرأ عليهما أجزاء من كتب مار اسحق السريانى، موضحاً لهما فلسفة الرهبنة وطرقها، وكيف يعد الراهب نفسه لنوال المواهب.

واستمر هذا الحديث وقتاً طويلاً والباحث الأمريكى يدون ما يسمع، وفى النهاية قال له إن ما جمعته من معلومات فى شهرين لهو شئ ضئيل جداً بالنسبة إلى ما عرفته اليوم.

ولما عزما على الانصراف أخرج الباحث الأمريكى ما فى جيبه من ريالات وعملة فضية أمام القس مينا، قائلاً له: "إن هذه هدية رمزية تذكروننى بها." ولكن القس مينا المتوحد رفض قبول هذه العطية، وقال: "ما حاجتى إلى هذا المال إن محبته أصل لكل الشرور، وهو معوق فى طريق الوحدة. أرجوك أن ترد نقودك إلى جيبك مشكوراً، وسيكون هذا مبعث سرورى وراحتى." فنزل الرجل على رغبته، وازداد إعجابه واحترامه له. أما مدير الآثار العربية فحيا القس مينا تحية حارة، وقال له: "يا أبى لقد رفعت رأس الرهبان، وشرفت الرجل المصرى، فلك منى تحية حارة، وأرجو أن أبرهن عن عمق تقديرى واحترامى لك يوماً ما." وانصرفا متأثرين بما رأيا، ولكنهما أسفا لرفض القس مينا أن تؤخذ له صورة ليضعها فى صدر الكتاب المزمع إصداره.

فى يوم من الأيام أراد الأنبا يؤنس أن يزور القس مينا المتوحد فى مغارته، وكانت تبعد عن الدير نحو الساعة مشياً على الأقدام. وأراد رئيس الدير ومن معه أن يثنوه عن عزمه تجنباً للمشقة، ولكنه لم يستجب لرجائهم وأثناء سيرهم فى الصحراء أرسل رئيس الدير راهباً للقس مينا يطلب إليه المجئ لمقابلة الأنبا يؤنس فى منتصف الطريق، ويوفر عليه مؤونة التعب. فجاء القس مينا مسرعاً ليقابله، وسجد له وقال له يا سيدى لست مستحقاً أن تتعب لأجلى. ولكن الأنبا يؤنس فطن إلى أن رئيس الدير قد دبر حضور القس مينا، فقال له: "لا بل إنى أريد أن آخذ بركة هذا المكان." الذى صار أرضاً مقدسة بعرق وجهاد هذا المتوحد. فنزل الجميع على رغبته طائعين. فذهب إلى المغارة ونزل سلمها الضيق، وجلس على فراش القس مينا، وتذوق الخبز الذى كان يعمله يومياً. كما عرفه ترتيب حياته اليومية. فباركه ودعى له بالتوفيق. وفى العودة إلى الدير سار بمعيته مسافة قصيرة فأشفق عليه الأنبا يؤنس، وأمره بالرجوع إلى مغارته فأطاع.

فى أوائل عام 1936م قصد القس مينا الدير، وكان ذلك اليوم هو سبت لعازر، وإذ به يرى حركة غير عادية حول الدير، خيول وجمال وجنود، فدخل مستغرباً، وعرف أن رئيس الدير حضر ومعه عمدة الوادى، وضابط بوليس وجنود ليطردوا بعض الرهبان. فوضع حاجاته جانباً، ودخل قاعة الاستقبال بالقصر، فوجد رئيس الدير جالساً فى الصدارة وبجانبه العمدة، وضباط البوليس والجنود، وبعض الآباء الرهبان.

فسجد أمام رئيس الدير، وحيا الجالسين، وقال: "يا أبانا إنى جئت لأهنئك بسلامة الوصول، وأسأل عن صحة ما سمعته حول طرد الآباء الرهبان السبعة." فقال له: "يا ابنى هذا أمر سيدنا، وأنا جئت لأنفذه." فأجابه: "إن سيدنا يحزنه، ويؤلمه طرد الرهبان فى ليلة أحد الشعانين المبارك، فلا يمكن أن يرضى بقطع رجاء أخوة فى المسيح، وأنت رئيسنا وأب الرهبان وراعيهم ومسئول أمام الله عن المريض والتائه والضال، وبيدك سلطان قوى مستمد من قوانين الرهبنة، وأحكامها الشديدة الصارمة التى تهدى الضال. أرجوك باسم صاحب هذه الأيام المباركة أن ترجئ أمر طردهم حتى يتقدم آباء الدير بالتماس للبابا يقرر مصيرهم ومحاكمتهم داخل الدير، فلا تطردهم فى هذه الأيام المقدسة."

ثار الرئيس لكبريائه، إذ كيف يتجاسر قس حديث الرهبنة ـ وأمام هذا الجمع ـ أن يعترض أوامره، وشيوخ الدير الأقدم منه لم يفتح أحدهم فاه بكلمة. فقال له: "اسمع يا ابنى لا تعارضنى فيما أفعل، حتى لا تكون خارجاً على طاعة سيدنا. كما انك رجل متوحد لا شأن لك فيما يجرى الآن." ولكن القس مينا عاد ليقول له: "أسألك يا أبى من أجل المسيح الذى بذل نفسه عنا أن تتمهل، ولنتصرف بما يرضى أرواح آبائنا القديسين، لأن تعاليمهم تشفع فى المخالفين، والخارجين على القانون، وتعطى كل واحد جزاءه دون أن تقطع رجاءه." فثار الرئيس وأمر الجنود أن يخرجوا الرهبان بالقوة، وأمر القس مينا أن يبقى بالدير، ولا يعود إلى مغارته حتى يرفع أمره للبابا، لأنه ارتكب جريمة الاعتراض على أوامره.

فأجاب القس مينا قائلاً: "يا أبى لقد وهبت نفسى لخدمة هؤلاء الآباء الذين طردوا بالقوة وبلا رحمة، وسأكون لهم عبداً حتى يعودوا إلى ديرهم آمنين بقوة الله."

ارتاع رئيس الدير لما بعلمه من مكانة القس مينا عند البابا، وشعر أن الحقيقة لابد وأن تظهر. فأوعز للمقدس اسحق ميخائيل وكيل الدير أن يثنى القس مينا عن عزمه، ويقنعه بأنه ما يجب أن تكون له صلة بهذه المسألة، ولا يقحم نفسه فيها. ولكن محاولة وكيل الدير ذهبت سدى.

طرد الرهبان السبعة، ولهم جميعاً ماض مجيد فى خدمة الدير، وخرج معهم القس مينا مواسياً ومشجعاً. وقصدوا القاهرة، ونزلوا بمصر القديمة فى دير الملاك القبلى. وكان راعيه رجل فاضل هو المتنيح القمص داود[24]، فرحب بقدومهم واستضافهم ليلة بالدير كما حضر الأستاذ راغب مفتاح لزيارة القس مينا لما علم بقدومه، وكان معه القمص يوحنا شنودة راعى كنيسة المعلقة، ومرقس بك فهمى، فاهتموا جميعاً بأمر الرهبان، واستأجروا لهم بيتاً من دورين، به عشر غرف، فسكن كل راهب فى غرفة، وجعلوا واحدة للمائدة، وأخرى لاجتماعاتهم. وتولى القس مينا أمر شراء الحصر والبطاطين وبعض الأدوات الضرورية، واستقروا فى مقرهم الجديد حتى يهئ الله الأمر.

بادر رئيس الدير بالسفر إلى الإسكندرية لمقابلة البابا، وقدم شكواه ضد القس مينا، أنه خارج عن النظام وقوانين الرهبنة، وأنه هجم عليه وأراد ضربه بعصا غليظة لولا مبادرة الجنود للحيلولة دون ذلك.

دهش البابا، وقال: "لا أكاد أصدق ما تقوله عن القس مينا، لأن كل تصرفاته بحكمة وتدبير، وأنت أول من يشهد له عندى بذلك، فكيف يكون هذا؟ ثم استدعى شقيق القس مينا الذى كان دائم الاتصال بالبابا فلما حضر وجده على خلاف ما تعود، وبادره قائلاً: "إن أخاك أتى عملاً يستحق عليه قانوناً." فأجابه: "يا سيدنا أبناءك طائعين لإرادتك." فقال له: "كيف يتدخل فى شئون الدير، ويعترض رئيسه، ويعتدى عليه بالقول، وكاد أن يشجب رأسه بالعصا." فأجابه: "أنا أجهل الأمر، ولكنى أؤكد أنه دائماً عند حسن ظنكم به، كما أن قلبى يحدثنى أن هذا الخبر غير صحيح، وعندما يفحص سيدنا الأمر ستظهر الحقيقة."

فقال له: "لقد أمرت بطرد سبعة من رهبان الدير، ولما أراد رئيس الدير تنفيذ الأمر، تعرض له القس مينا."

فأجابه: "يا سيدنا إنى أتجاسر وأعرض على مسامعكم ما يجول بخاطرى. إنى أحب دير البراموس، الذى تحبه أنت، وتدعوه دوماً دير البراموس البهى، دير البابا كيرلس الخامس، فيحز فى نفسى، ويحزن قلبى أنا الرجل العلمانى أن أسمع أن الدير طرد سبع شيوخ من الرهبان. وإنى أرجو أن يكون الحكم لك وحدك فى أولادك، ولاتسمح أن يسلموا لعدو الخير للسقوط، وتقطع رجائهم."

وبناء على أمر البابا سافر شقيق القس مينا إلى القاهرة، وفى مصر القديمة قابل الرهبان، وكانت له بهم صلة مودة، وانفرد بالقس مينا، وعلم منه الحقيقة، فأخبره بضرورة مقابلة البابا الذى حضر إلى القاهرة خصيصاً لمعالجة هذا الأمر. فصمم القس مينا على أن يقابل هو البابا بمفرده أولاً، وبعدها يذهب الرهبان لمقابلته بعد أن يكون البابا قد علم ببواطن الأمور منه، واشترط ألا يبقى أخوه بالقاهرة، وأن يتركه لمشيئة الله، فسافر مترقباً ما سيأتى به الغد.

ولما توجه القس مينا إلى البطريركية لمقابلة البابا، أراد البعض مجاملة رئيس الدير، فقابلوا القس مينا مقابلة غير كريمة، فلم يكترث بهم، ودخل الكنيسة أولاً لتقديم الشكر لله، وبعدها سيكون ما أراد الله. وكان البابا يصلى بالكنيسة الصغرى، وبعد القداس تقدم إليه القس مينا، فقال له البابا سألقاك فى صالة الانتظار.

وهناك بادره البابا قائلاً فى حدة: "أنت ما زلت على أول درجات العبادة، هل خدعك الشيطان، وأراد أن يبعدك عن طريق الخلاص. فأجابه: "إن سيدى يسوع المسيح أمين وعادل لا ينسى طالبيه ويحوطهم دائماً بملائكته."

فقال له: "هل تعاليم المسيح تسمح لك أن تتدخل فى أمور ليست لك؟" فأجابه: "أن الله علمنا أن نجاهد عن الأمانة حتى الدم، والذى لا يدافع عن الحق يكون مثل شيطان. أنا ابن الدير، كيف أرى أموراً تخالف نواميس الدير، وتسئ إليه وأقف مكتوف اليدين. لم أقاوم أبى رئيس الدير، ولم أسئ إليه، بل بكل احترام وإجلال التمست منه، من أجل خاطر المسيح الذى جند نفسه لخدمته، ألا يقطع رجاء هؤلاء الآباء، وأن يحاكمهم بقانون الرهبنة، ولا يبعدهم عن حظيرة الرجاء فى وقت تذكار دخول سيدنا، ومخلصنا يسوع المسيح أورشليم منتصراً، والكل يفرحون. تضرعت إليه أن يرجئ طردهم من الدير حتى تنقضى جمعة الآلام، وبعد التماس مراحم سيدنا."

فقال البابا بشدة: "لماذا تتدخل أنت فى هذا الأمر، وأنت عابد بعيد عن الدير والرهبان؟"

فأجابه: "إنى كنت استحق غضبك لو أهملت الدفاع عن شرف دير البراموس البهى، دير سيدنا، وأترك سبعة شيوخ أفاضل لهم ماضى مجيد فى الدير، يطردون شر طردة، ويخورون، وينقطع رجائهم فى مراحم الله، فى جمعة آلام الفادى."

"ألم تثر على رئيس الدير، وكنت تريد تحطيم رأسه بعصاك الغليظة؟" هكذا سأله البابا

أجاب القس مينا: "حاشا لله يا سيدى أن يصدر هذا الأمر منى، إنى لم أطلب سوى أن ينظر فى أمر هؤلاء الرهبان بعين محبته ورعايته استناداً إلى قوانين الكنيسة." وبكى القس مينا، فأبكى البابا.

وبعد ذلك هدأ البابا وارتاح جداً بعد هذا الحديث، وقال له: "يا أبونا مينا أنا راضى عنك، وقد عفوت عنهم، فعرفهم أن يحضروا ليأخذوا البركة ويرجعوا الدير بسلام."

فقال القس مينا: "إني التمس منكم أن تشعرهم بعطفك، فـأمر أحد أبنائكم بإبلاغهم رضاك وصفحك."

وهكذا انتهى الأمر على خير ما كان يرجو القس مينا ويتمنى. وعاد إلى الآباء الرهبان ومعه بعض الحاجيات، اشتراها بما منحه البابا من مال لهم، واندهش الرهبان عندما علموا أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد.

أوفد البابا الأنبا توماس مطران الغربية بهيبته، ومعه القمص صليب ميخائيل إلى هؤلاء الآباء، فحدثهم بخشونة أزعجتهم، ونظروا إلى القس مينا متسائلين، فقد خيب المطران آمالهم. فاستحضروا له كرسياً من الجيران ليجلس عليه، حتى لا تتسخ ملابسه الأنيقة، فابتدأ يوبخهم على خروجهم من طاعة رئيس الدير فاحتج الآباء على قوله هذا لأنه يتكلم عن غير علم، وأرادوا أن يقاطعوا جلسته، ولكن القس مينا انبرى له، وأخذ يكلمه بأقوال القديسين وتحدث معه عن التواضع وانسحاق الروح، وكيف يعمل لاختطاف الساقطين. وذكره يوم كان راهباً معه بالكلية بحلوان، وكيف كان راهباً متواضعاً فقير الحال، ونبهه إلى ماهو عليه اليوم من عظمة وأبهة الملبس، وأنه يجب أن يستبدل ذلك كله بنعمة الله، وبانسكاب الروح، إذ أن هذه المظاهر ليست مقبولة أمام الله.

أثر هذا الكلام فى نفس المطران تأثيراً بالغاً، وأبكاه كثيراً وأسف على ما بدر منه، واستسمح الآباء الرهبان. وتصافحوا فى محبة، ثم ودعوه فى النهاية بما يليق بمقامه كأمير من أمراء الكنيسة. ولم ينس هو أن يعطيهم نقوداً أمر بها البابا حتى يمكن لهم العودة إلى الدير.

ذهبوا إلى البابا ليأذن لهم بالسفر، فصرح لهم وانصرفوا ولكن بقى القس مينا ملتمساً أمراً. فقال له البابا: "ماذا تريد."

قال: "لقد اعتزمت بمشيئة الله أن أسكن فى الجبل الشرقى قريباً من دير الملاك ميخائيل القبلى فى طاحونة من طواحين الهواء، منعزلة تصلح قلاية وقد وفقنى الله فى الحصول على ترخيص من مدير الآثار العربية بإيجار رمزى[25]، وإنى التمس التصريح بالإقامة فيها."

فقال له: "إن هذا الجبل مكمن للصوص، وإقامتك هناك فيها خطر على حياتك."

فأجاب قائلاً: "إن قلبى يحدثنى إنى سأنال نعمة التعزية فى هذا المكان، ومثله مثل مغارة وادى النطرون، لأنه بعيد عن العمران. فوافق البابا على طلبه."

انصرف القس مينا فرحاً، وذهب إلى مقره الجديد. وهو عبارة عن طاحونة مستديرة ارتفاعها ستة أمتار فى أقصى الجنوب الشرقى من الجبل، وتحتها واد سحيق. وأقام هناك أياماً مفترشاً الأرض، وملتحفاً بالسماء. وكان يبكر كل يوم أحد فى الذهاب إلى كنيسة الملاك القبلى ليحضر التسبحة والقداس الإلهى وينصرف بعد التوزيع مباشرة دون أن يحدث إنساناً. لاحظ ذلك القمص داود، وحفظ الأمر فى نفسه حتى جاء مرقس بك فهمى ليصلى فى الدير، فلمح القس مينا بالكنيسة، ولكنه لم يره بعد الصلاة، فسأل القمص داود عنه، فقال له هذه عادته. فقال له لا بد أن نعلم أين يقيم، وكيف يعيش. وفى الأحد التالى استدعى القمص داود أحد أبنائه بالكنيسة، وقال له اتبع القس مينا أينما ذهب لنعلم أين يقيم. فتتبعه ذاك من بعيد دون أن يلمحه، ورآه يقيم فى طاحونة لاسقف لها، ولا باب. وعاد وأخبر بما رأى. فاتصل القمص داود بمرقس بك وأعلمه بالأمر. فذهب إليه مع يعقوب بك مكارى والقمص يوحنا شنودة فوجدوه جالساً على الأرض يسند ظهره إلى الحائط يقرأ كتاب للشيخ الروحانى. فاندهشوا، وعتبوا عليه كثيراً لما رأوه على هذا الحال، فأجابهم: "ومن أنا، ما أنا إلا دودة لا إنسان، وياليت الرب يعيننى لأتشبه بأولئك الأبرار الذين تاهوا فى البرارى، والجبال محبة فى اسم المسيح." وجلسوا معه أرضاً مدة، ورجعوا يمجدون الله، وقلوبهم ممتلئة حنواً، وشفقة على ذلك الراهب المسكين الذى اختار هذا الطريق الصعب. وفى اليوم التالى حضر رجال وعملوا للطاحونة سقفاً وباباً وجعلوها دورين: الأول لإقامة الراهب مينا، والثانى ليكون هيكلاً. وهيأ الله له شماساً عجوزاً يدعى المقدس مليكة كان يطلع الجبل يومياً الساعة الثانية صباحاً صيفاً وشتاءً دون إهمال.

ومضى وقت حتى أصبحت الطاحونة مكاناً منسقاً جميلاً. وعمل مذبحاً من الخشب. وابتدأ بأول قداس حضره القمص يوحنا شنودة الذى ساهم فى احتياجات الهيكل، والقمص داود الذى زوده بالقربان، ومرقس بك فهمى، ويعقوب بك مكارى وفرح الجميع فرحاً ليس بقليل.

وبعد ذلك عرفه الناس وذاع صيته، وابتدأوا يتوافدون عليه من أنحاء متفرقة من البلاد لما رأوا استجابة الله لصلواته والمعجزات التى تمت ببركة دعواته فحدد مواعيداً محددة يفتح فيها باب قلايته. وفى غيرها ما كان يقابل أحداً. ولما زاد عدد قاصديه أكثر فأكثر اضطر تحت ضغط الرجاء أن ينظم أوقات القداسات اليومية ليتمكن أكبر عدد ممكن من نوال البركة.

قصده يوماً أحد الكهنة وكان شريكاً للمتنيح القمص إبراهيم لوقا فى الخدمة بكنيسة مار مرقس بمصر الجديدة، وقال له: "يا أبى إن القمص إبراهيم لوقا يود أن تزوره فى بيته وتصلى له." فقال له: "إن أبانا القمص إبراهيم لوقا رجل عظيم، ومن أنا الحقير الذى يطلب منه أن أصلى له." ولكن بعد رجاء حار قبل أن يزوره فى منزله بمصر الجديدة، فطلب منه الكاهن أن ينتظره عند باب دير الملاك القبلى، لأنه سيحضر فى الغد فى الساعة السابعة صباحاً بالسيارة ليتوجه معه إلى المنزل. فتظاهر القس مينا بالقبول، وسأله عن عنوان منزل القمص إبراهيم لوقا، وقال له: "الله يدبر." وفى الساعة السابعة صباحاً كان رجل طويل القامة يلبس زعبوطاً، وعلى رأسه شال أسود وبيده عصا، يقرع على باب منزل القمص إبراهيم لوقا، ولما دخل حيث يرقد قبل يده وقال له: "يا أبى جئت لنوال بركتك." فقال له: "بل أنا الذى التمس بركتك، وبرجاء الإيمان أطلب منك أن تصلى لأجلى وتمسحنى بالزيت كقول الرسول." فصلى له القس مينا، ودهنه بالزيت، ثم انصرف مسرعاً غير مستجيب لتوسلات أحد بالبقاء بعض الوقت، وكتب الله السلامة للقمص إبراهيم لوقا، وصار يتحدث بهذه الأعجوبة ووطد العزم أن يزوره فى الجبل ليشكره، ولكن هذه الزيارة تأجلت إلى حين.

لما تنيح الأنبا يؤنس حزن القس مينا كثيراً، وداوم على عمل ترحيم يومى له لمدة أربعين يوماً، وفى تمامها كان نائماً فى الظهيرة ورأى إذ الأنبا يؤنس يأتى إليه، فاستغرب القس مينا صعوده الجبل وتحمله المشقة. ولما تقدم إليه قال له: "انظر يا أبونا مينا عصا الرعاية انكسرت منى أثناء صعودى الجبل فأنا حزين عليها جداً." فقال له: "يتفضل سيدنا يتركها لى قليلاً." فأعطاها له فأصلحها وأعادها له، ففرح بها كثيراً وتأملها بإمعان، ثم قال له: "خذها يا أبونا مينا قد وهبتها لك." فتسلمها من يده فرحاً، واستيقظ من النوم متفكراً فى هذه الرؤية، وفى أمر العصا والحديث الذى جرى.

مرت الأيام، وكان الأنبا يوساب مطران جرجا قائم مقام البابا، وعرض عليه المتنيح الأنبا أثناسيوس مطران بنى سويف أمر دير الأنبا صموئيل، لأنه تحت رعايته، وطلب الموافقة على تعيين القس مينا البراموسى رئيساً للدير كى يرعاه، ويهتم برهبانه ويدبر احتياجاتهم، لأنه دير ليست له أطيان أو عقارات، فوافق الأنبا يؤنس على ذلك وكلف الأنبا أثناسيوس القس مينا القيام بهذه المهمة مرغماً، لأنه لا يريد أن يهجر قلايته. ثم سافر إلى الدير فى بلدة الزورة مركز مغاغة، فوجد أن موقعه حسن لأنه على ترعة الابراهيمية ولكنه مبنى باللبن[26]، والكنيسة قديمة وآيلة للسقوط، ففكر فى إعادة بنائها فوراً، وإقامة مركز للدير. وجاء إلى القاهرة وقابل كثيرين من محبيه، وأظهر لهم رغبته، وطلب منهم معاونته لتحقيقها. وفى الحال نظموا العمل فيما بينهم، وتم شحن صندلين كبيرين بالحديد والأسمنت والفحم الحجرى لحرق الطوب.

وصلت الأدوات وخزنها لحين البدء فى العمل، وفرح أهالى الزورة وأهالى دير الجرنوس بما رأوا والتفوا حول القس مينا ليساعدوه. فابتدأ بضرب الطوب وحرقه، وأزال الأنقاض وحفر الأساسات، وصب الأعمدة، وأتم سقف الكنيسة وأقام مسكناً من طابقين. وصار العمل مثار حديث المنطقة كلها وأقبل الكثيرون يعضدونه، ويقدمون له المعونة.

ولم يمض وقت طويل حتى صارت الكنيسة معدة للصلاة، والمسكن جاهز للسكنى، ولما أتم كل شئ حضر الأنبا أثناسيوس لتدشين الكنيسة وافتتحها باحتفال كبير شهدته جموع كثيرة من كل المناطق المجاورة. وأقام قداساً حبرياً منح فيه القس مينا رتبة الايغومانس[27].

استقرت الأمور وابتدأ يفكر فى دير جبل القلمون الذى يبعد سبع ساعات عن الزورة. فأحاط الأهالى علماً بعزمه على زيارة الدير، فبادروا إلى تقديم العطايا وتجمع لديه الكثير من المؤن؛ كالقمح والعسل والجبن. وتحركت قافلة من سبعة جمال، ولما وصل الدير فرح الرهبان، ودقوا أجراس الكنيسة وأقام هناك أياماً، عاين الدير ومبانيه وعمل ترتيب الترميم والبناء وتقدم المؤمنون من مديرتي الفيوم والمنيا بالمساعدات والمعونة. وتم ترميم مبانى الدير وتجديد الكنيسة ورتب وصول قافلة من الزورة للدير مرة كل خمسة عشر يوماً تحمل للرهبان احتياجاتهم. فازدهر الدير، ورجع إليه رهبانه الذين هجروه بسبب إهمال أمرهم فيما مضى.

لما اطمأن القمص مينا على استقرار أمور الدير ونجاح مهمته، ترك وكيلاً له بالزورة، القس مينا الصموئيلى الذى تربى فى كنف القمص مينا زمنا طويلاً بمصر القديمة وقد منحه الأنبا أثناسيوس رتبة قس بمناسبة افتتاح الكنيسة ومقر الدير بالزورة.

رجع القمص مينا إلى القاهرة، وكانت الحرب العالمية الثانية على أشدها، واتخذت قوات الحلفاء الجبل الشرقى ـ حيث يقيم القمص مينا ـ نقطة دفاعية عن مدينة القاهرة. وكان القمص مينا محل تقدير هذه القوات. ولما اشتدت وطأة الغارات الجوية، أشفق قائد القوة عليه وخشى أن يلحقه ضرر من جراء بقائه فى وسطهم، وطلب منه النزول من الجبل والاحتماء بالمساكن، فنزل على إرادته وأقام فترة متنقلاً بين دير الملاك القبلى وكنيسة بابليون الدرج. ومن ثم فكر، وفكر معه محبوه فى إقامة مكان ليقيم فيه يحتوى مسكناً صغيراً، وكنيسة باسم الشهيد العظيم مار مينا. وابتدأ فى تنفيذ الفكرة. فاشترى قطعة أرض لم تكن تتجاوز المائة وخمسون متراً، ثم زيدت إلى خمسمائة لتتسع للكنيسة وملحقاتها الضرورية.. وبعد فترة وجيزة تم بناء دير الشهيد مارمينا ليأوى إليه الغرباء من طلبة الكليات بالقاهرة، وأصبح الدير خلية عامرة بالأبناء المباركين.

صدر أمر بابوى يلزم الرهبان بالرجوع إلى أديرتهم، ولا يبقى خارجها منهم إلا من كان له عمل يؤديه بالمدن. ولما كانت إقامة القمص مينا بالقاهرة هى لضرورة ماسة مرتبطة برعاية دير الأنبا صموئيل بصفته رئيساً له. وبالتالى لا يمكنه العودة إلى دير البراموس، لذلك أرسل للقمص إبراهيم لوقا ـ وكان وكيلاً للبطريركية ـ خطاباً يعلمه فيه بحقيقة موقفه، ويطلب منه العمل على إصدار تصريح للإقامة فى القاهرة. حرك هذا الخطاب مشاعر القمص إبراهيم لوقا، وبادر بزيارته وفرح بلقياه وسلمه التصريح.

لما تم بناء الكنيسة على خير وجه، قام المتنيح الأنبا أثناسيوس بتدشينها، وأقام قداساً حبرياً اشترك معه الأنبا ابرام مطران الجيزة الأسبق الذى كانت تربطه بالقمص مينا صلة مودة منذ كانا زميلين بالكلية اللاهوتية بحلوان. وأصبحت الكنيسة وما حولها من مبان تشكل ديراً يدخله القادم لأول مرة فيظن أنه كان قائماً منذ سنين.

وقد اختص الأب مينا طلبة الجامعة المغتربين بالرعاية، وكان يهتم بأحوالهم بنفسه، حتى شعر الجميع أنهم أسرة واحدة لهم أب حنون يدخل أعماق كل واحد منهم، فيحل مشاكله ويقوده لطريق النعمة. وقد جاءه مرة أحد الشبان، بعد أن تخرج من كلية الصيدلة وعرفه أنه بعد أن فتح صيدلية فى بلدته يود أن يسلك طريق الرهبنة، ويخدم الله. وقد له النقود التى باع بها الصيدلية ليستعين بها على إتمام مشاريعه، فقال له القمص مينا: "المسيح يقول من يأتى إلىَّ لا أدعه خارجاً، ولكنه لم يقل ويكون معه نقوده. فإن أردت أن تتبع المسيح أترك كل شئ، وتعال اتبعه. تصرف فى نقودك كيفما شئت وتعال فقيراً لا تملك شيئاً، وتذوق حلاوة الفقر الاختيارى لتشعر بغنى المسيح." فنزل هذا الابن على أمره، وغاب أياماً، ورجع إليه فقيراً لا يملك شيئاً.

وأصبح دير مار مينا بمصر القديمة مصدر بركة عظيمة، فلا ينقطع زواره صباحاً أو مساءً. فمنه بزغت أنوار النعمة، واشتم الجميع رائحة المسيح الزكية، وجرت آيات ومعجزات كثيرة، فكم من مريض أتى للدير، ونظر الله إليه بعين الرحمة فنال نعمة الشفاء. وكم من متضايق بهموم الحياة دخل الدير يحمل أثقالاً، وخرج وقد أزاح الله عنه أتعابه، وارتسم على قلبه نور الخلاص. وكم من معذب من الأرواح النجسة أتى وهو أسير فعاد وهو حر، فكت عنه قيود الشر. بل إنه فى أحد الليالى تسلم الأب مينا برقية يطلب فيها صاحبها الصلاة لأجله، لأنه فى ضيقة شديدة.

ولكن كلما زادت نعمة الله مع القمص مينا، كلما كثر حاسدوه، فابتدأوا يكيدون له لدى البابا، الذى أراد أن يرتاح من القيل والقال، ومن الشكوك التى كانت تساوره، فأمر بعودته إلى دير البراموس، ويسلم دير الشهيد مارمينا للبطريركية،ولكن الله هيأ له أبناء أبرار لهم مكانة لدى البابا، أمكنهما إقناعه بأن القمص مينا ابن بار، وأن الله يتمجد فى كل أفعاله، وليس له مطمع فى الحياة إلا أن يتمكن من عبادة الله.

مرت بالكنيسة أحداث كانت غمامة قاتمة شعر فيها المؤمنون بالأسى والحزن العميق. ولكن مراحم الله أدركتها لما رفعت أنظارها إلى فوق حيث المسيح، الذى سمع صراخها قائلة: خلص يارب، ولا تسلم ميراثك للعار.

استقر الرأى على انتخاب راع يسوس الكنيسة، واتفق الرأى على ترشيح رهبان مشهود لهم، فقدمت تزكيات لكل من: القمص دميان[28]، القمص انجيلوس المحرقى[29]، والقمص تيموثاوس[30]، والقمص مينا بدير الشهيدة دميانة.

أما القمص مينا المتوحد فكان بعيداً عن هذا المعترك، ولكن الأنبا أثناسيوس، قدم تزكية باسم القمص مينا دون أن يخطره. وانتهى الميعاد، وقفل باب الترشيح، وطلب القائم مقام القمص مينا ليحادثه تليفونياً، وبادره قائلاً:

- "لماذا لم تقدم تزكية لترشيح نفسك يا أبونا مينا."

+ "يا سيدنا حفظ الله حياتك، والله يختار الراعى الصالح الذى يرعى شعبه ببر وطهارة قلب."

- "كان يجب ألا يفوتك هذا الواجب."

+ "من أنا الدودة الصغيرة حتى أتطلع لهذه المهمة العظيمة الخطيرة، وأحمل هذه الأمانة العظمى التى تعطى لمن يختاره الله وليس لمن يشاء أو يبغى."

- "لكنى مازلت انتظر منك الجواب، لماذا لم تقدم تزكية، وتترك الله يدبر ما يشاء."

+ "يا سيدنا أبائى الرهبان كثيرون، وتقدموا بتزكياتهم، وكلهم أهل لهذا المنصب الخطير. أما أنا فتكفينى نعمة الله التى معى."

- "يا أبونا مينا أنا قدمت تزكية باسمك فى الوقت المناسب."

+ "حفظ الله حياتك يا سيدنا، رايح فين الصعلوك بين الملوك."

- "الله يرفع الفقير من المزبلة ويجلسه مع رؤساء شعبه."

+ "دامت حياتكم يا سيدنا، والرب يدبر."

شدد القمص مينا على محبيه وعارفى فضل الله عليه، وحذرهم من عمل دعاية له سواء بالنشر أو بعقد الاجتماعات، ونزل الجميع على رغبته. وفى الانتخابات التى جرت يوم الجمعة 17 إبريل 1959م فاز ثلاث رهبان هم بالترتيب: القمص دميان المحرقى، القمص انجيلوس المحرقى، القمص مينا البراموسى المتوحد.

وفى يوم الأحد 19 إبريل 1959م وهو اليوم المحدد لإجراء القرعة الهيكلية، أقيم قداس حضره أحبار الكنيسة برئاسة المتنيح الأنبا أثناسيوس، وفى مظروف ختمه بالشمع الأحمر وضعت ثلاث ورقات تحمل كل منها اسم أحد المرشحين الفائزين فى الانتخاب أمام جميع الشعب، وفى نهاية القداس سحب شماس صغير ورقة خرجت تحمل اسم "القمص مينا البراموسى المتوحد."، فدقت أجراس الكاتدرائية دقات الفرح معلنة الاختيار الإلهى.وفرح الجميع.

وأبلغ النبأ للقمص مينا المتوحد فبكى كثيراً وهو يصلى، ورفض أن تدق أجراس كنيسة الدير فرحاً بهذه المناسبة، بل أمر الانتظار حتى ينهى القداس. وتوافدت على دير مارمينا بمصر القديمة جموع الشعب والأحبار، فقال وهو خارج من الهيكل لاستقبالهم: "المجد لك يارب. اخترتنى أنا الضعيف لتظهر قوتك فى ضعفى من عندك القوة أعنى. من عندك القوة. من عندك العون يا إلهنا وفادينا."

وفى فجر السبت 9مايو1959م وحسب طقس الكنيسة ذهب المختار من الله إلى ديره دير البراموس العامر وتبارك من كل موضع فى الدير ومن أجساد القديسين، وزار أديرة السريان والأنبا بيشوى وأبو مقار، وعاد إلى القاهرة، ودخل الكنيسة المرقسية الكبرى، التى ازدحمت بالمصلين. وفى باكر 10مايو1959م نزل القمص مينا البراموسى من المقر البابوى خاضعاً لإرادة الله ليكون البابا كيرلس السادس البطريرك المائة والسادس عشر من باباوات الكرازة المرقسية. وقد كتب البابا الرسالة البابوية الأولى بنفسه والتى وجهها إلى شعبه يوم رسامته، فقال:

 

        "اخوتنا الأعزاء الكهنة والشمامسة وكل الشعب بأنحاء الكرازة المرقسية.

        لتكثر لكم جميعاً النعمة والبركة والسلام من الله أبينا وربنا ومخلصنا يسوع المسيح. أشكر إلهى الصالح رب المجد، الذى دعانى واختار ضعفى لهذه الخدمة المقدسة، لا عن استحقاق، بل بمقتضى نعمته لرعاية شعبه المبارك ولخدمة غايتها مجده تعالى، وإعداد الأفراد والشعوب لميراث الحياة الأبدية.

أيها الأحباء.. إننى أشعر فى قرارة نفسى بثقل المسئولية التى وضعت على عاتقى، وبالأمانة المقدسة التى ربطت فى عنقى، وبالوزنات التى سلمت لى من رب الكنيسة ـ تلك الوزنات التى علىَّ أن استثمرها لتزداد وتربح. ولكن أنا ما أنا، بل هى نعمة الله التى ستعمل فينا وبنا. ولابد أن الذى دعانى سيعيننى على خدمة الكرازة الرسولية. وأمامى وعده المبارك: "أنا أسير قدامك والهضاب أمهد. أكسر مصاريع النحاس، ومغاليق الحديد أقصف[31]." إنى كل ثقة فى مراحم إلهنا الذى يقول لكنيسته: "لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك عظيمة سأجمعك، بفيضان الغضب حجبت وجهى عنك لحظة، وبإحسان أبدى أرحمك. قال وليك الرب.[32]"

        ما أحوج البشر إلى خدمة الروح فى عصر سادت فيه المادية والكفر والألحاد والإتجاهات الفكرية المنحرفة. ما أحوج الناس أن يروا المسيح فى حياتنا ويشموا رائحته الزكية فينا. إن على الكنيسة واجباً خطيراً فى هذه الآونة التى يجتازها العالم اليوم. عليها أن تدعم الإيمان فى القلوب، وتنشر الفضيلة، وتدخل السلام والطمأنينة إلى كل نفس متعبة، ليتوافر الاستقرار، وتكثر السعادة. لأن رسالة السيد المسيح هى توفير الحياة الفضلى للناس: "أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل.[33]"

        الحياة الطاهرة النقية الهادئة المطمئنة الفاعلة التى تكون المواطن الصالح المنتج، والعضو العامل بالكنيسة، الذى يعرف أن يكون أميناً دائماً لله وللوطن وللمجتمع الإنسانى العالمى، متعاوناً مع الجميع بروح التعاون والإخاء والإيثار.

        إنى معتمد على معونة الله ومحبتكم جميعاً التى أعتز بها مستلهماً روح الآباء القديسين والبابوات البطاركة السالفين خلفاء القديس مرقص الرسول، الذين جاهدوا الجهاد الحسن وكملوا السعى وحفظوا الإيمان، وسلموا إلينا الوديعة المقدسة.

        لكم أتمنى أن أفتح قلبى لتبصروا المحبة العميقة التى نحو الجميع، وهى المحبة النابعة من قلب مخلصنا الذى أحبنا وافتدانا بدمه. فأطلب إلى الجميع أن يداوموا على رفع الصلوات من أجل سلامة الكنيسة ومن أجل ضعفى، ومن أجل الخدام والعاملين. "يا ذاكرى الرب لا تسكتوا ولا تدعوه يسكت حتى يثبت، ويجعل (كنيسته) تسبيحه فى الأرض.[34]"

        وإذا كانت رسالتنا عظيمة وخطيرة بهذا المقدار، فالأمر يتطلب تضافر القوى والجهود حتى نتمم جميعاً بفرح سعينا. إنى واثق أن أخوتنا المطارنة والأساقفة وأبنائنا المباركين الكهنة والشمامسة وأعضاء المجالس الملية العامة والفرعية ومختلف الهيئات والجمعيات العاملة، وسائر الخدام فى كرم الرب، سيعملون متضامنين معنا فى محبة وإخلاص وبذل وإنكار للذات، بقيادة ونعمة رئيس الرعاة الأعظم. ولنختف نحن لكى يظهر هو بمجده المبارك.

        والرب أسأل أن يعطينا جميعاً الروح الواحد والقلب الواحد والفكر الواحد، ولنعمل برأى ومشورة واحدة هى مشورة الروح القدس الذى قاد الكنيسة فى كل تاريخها الطويل المجيد، ولنا هدف مقدس واحد هو مجد الله وخدمة الحق والمثل العليا. "وإنى لست أحتسب لشئ ولا لنفسى ثمينة عندى حتى أتمم بفرح سعيى والخدمة التى أخذتها من الرب يسوع.[35]" عالماً أن فرحى ومسرتى وإكليل افتخارى هو أنتم، فمسرتى فى نجاحكم، وابتهاجى فى ثبات إيمانك وقوة رجائكم وازدياد محبتكم."

       

كان ترتيب حياة البابا أنه يقوم عادة فى الثالثة صباحاً مهما تأخرت ساعة إيوائه للفراش.. يقوم يصلى مزامير نصف الليل، وبعدها يتجه للكنيسة ليؤدى التسبحة التى يشبهها بالمن الذى كان يجمعه بنو إسرائيل قبل شروق الشمس، والذى إذا ما أشرقت الشمس يسيل ولا يمكن جمعه.. وكان يصليها فى قلايته إذا كان متعباً، ولا يقوى على مغادرتها… أما صلاة القداس فقد كانت هى الكنز الذى يفتحه يومياً ليغترف منه التعزيات الإلهية، وعندما أمره الأطباء بملازمة الفراش بعد النوبات القلبية التى أصابته فى أيام عمره الأخيرة.. تأثرت نفسه تأثراً بالغاً لفراقه المذبح الذى لازمه أكثر من أربعين عاماً رافعاً القرابين المقدسة كل يوم، والبخور فى الصباح والمساء.

        وقد قام البابا بأعمال عظيمة فجدد بناء الكاتدرائية المرقسية القديمة وافتتحها البابا للاحتفال فى عيد الميلاد سنة 1966م، وقام بعمل الميرون فى إبريل 1967م، كما قام فى 24 يوليو 1965م بوضع حجر الأساس للكاتدرائية المرقسية الجديدة بالأنبا رويس بالعباسية وبحضور رئيس الجمهورية الرئيس جمال عبد الناصر. وافتتحت فى 25 يونيه 1968م بحضور الأمبراطور هيلاسلاسى ورئيس الجمهورية وممثلون لمختلف كنائس العالم بلغ عددهم مائة واثنان وسبعون ضيفاً.

        ومنذ مساء الثلاثاء 2 إبريل 1968م الموافق 24 برمهات 1684ش توالت ظهور العذراء أم النور فى كنيستها بحى الزيتون وذلك فى عهد البابا كيرلس السادس. كما عاد فى عهده جسد القديس مارمرقس كاروز الديار المصرية وذلك 24 يونيو 1968وكان ذلك فى السنة العاشرة من حبرية البابا كيرلس السادس.

        كما اهتم برعاية كنيسة أثيوبيا وقام برسامة بطريرك جاثليق لها، كما زار أثيوبيا مرتين، والتقى بالأمبراطور هيلاسلاسى الأول.

        كما قام البابا بالاهتمام بكنائس المهجر وإيفاد كهنة إلى بلاد أوربا وأمريكا وكندا واستراليا. كما بعث البابا كيرلس السادس الحياة والعمران مرة أخرى فى تلك الأرض التى ملأها مارمينا من قبل بالحياة والعمران، وذلك فى صحراء مريوط.

        فقد أرسل البابا إلى هيئة تعمير الصحارى بطلب لشراء خمسين فداناً بجوار المدينة الأثرية بمريوك مدينة "بومينا" التى كانت مزدهرة فى القديم، ومزار عظيم للشهيد مارمينا العجائبى، ثم طلب البابا شراء خمسن فداناً أخرى.

        وفى عام 1959م وفى أول عيد للشهيد مارمينا بعد رسامة البابا أقيم بالكنيسة الأثرية سرادق كبير، وأوفد البابا فى عشية العيد سكرتيره الخاص ليقيم صلاة رفع بخور عشية العيد، وفى صباح الغد أقام البابا هناك صلاة التسبحة، والقداس الإلهى، ووضع حجر أساس دير مارمينا.

        فى سنة 1970م وفى آخر زيارة للبابا كيرلس للدير قبل انتقاله إلى السماء، أرسل إلى بابا روما يطلب إعادة جسد القديس أثناسيوس الرسولى، البطريرك العشرون من بطاركة الإسكندرية، وكان البابا ينوى دفنه فى الكنيسة المسماة باسمه فى منطقة السيوف بالإسكندرية والموقوفة على دير الشهيد مارمينا بمريوط.

                لقد قبل البابا نعم عظيمة وتجارب كثيرة، وجاهد جهاد الإيمان الحسن، ناظراً الإكليل المعد له فى أحضان القديسين الذين عاش بينهم مسبحاً وعابداً. وفى يوم وقف أحد أولاد البابا يمتدح أعماله ومشروعاته داعياً له بطول العمر. فأجابه البابا بقوله: "كلها يا ابنى خمس سنين." وقبل نياحة البابا بأيام قليلة قال لأحد أقاربه كان فى زيارته: "أنا عاوز .. عاوز.." فقال له: "ماذا تريد يا سيدنا ونحن نحضره لك من أعيننا." فقال البابا: "عاوز.. عاوز أسافر." وظن السامع أنه يقصد السفر إلى دير مارمينا.

        فى مايو 1970م ودع البابا دير مارمينا بطريقة تختلف عن كل مرة. فقد استدعى القمص مينا أفامينا أمين الدير وتحدث معه حديثاً قصيراً وهو يحاول أن يغلب دموعه، ولكنها هى التى غلبته، ثم سلمه عدد من القلنسوات بعدد رهبان الدير، ثم توجه إلى الكنيستين الموجودتين بالدير، وعمل تمجيد للشهيد مار مرقص الرسول والشهيد مارمينا، وكان ممسكاً بصورة للقديس مار مرقص كانت معه منذ توحده بالجبل. وقد حاول البابا أن يبتسم ولكن دموعه الغزيرة سبقته. ولم يجلس مع أحد منا، بل ركب سيارته ودموعه لم ينقطع سيلها.

        وفى يوم الثلاثاء 9مارس 1971م الموافق 30 أمشير 1687ش استيقظ البابا فى الساعة الخامسة والنصف صباحاً، وصلى فى قلايته وبعدها استمع إلى القداسات التى أقيمت فى الكاتدرائية عن طريق السماعة المركبة بقلايته. وقام الطبيب المقيم بالمقر البابوى بالكشف على قداسته والأطمئنان على صحته. وبعد ذلك سمح بدخول أبنائه إليه ليمنحهم البركة ويطمئن عليهم، وكان يقول لهم: "الرب معكم.. الرب يدبر أموركم..الرب يدبر مصالحكم.."

وبعد خروج الجميع سافر البابا إلى السماء. ودفن حسب وصيته فى دير مارمينا الذى أحبه

 

إنه من غير المنصف على الإطلاق أن تعبر بضع سطور عن تاريخ حياة وجهاد إنسان. فكم وكم بعملاق مثل البابا كيرلس السادس الذى أحب المسيح من كل قلبه وأنارت النعمة طريقه، وجاهد جهاد الإيمان الحسن، وكانت له عشرة قوية بالقديسين خاصة مارمينا العجائبى ولما لم تحتمل روحه البقاء بعيداً عنهم سافر إلى مجمع القديسين فى الكنيسة المنتصرة يصلى عنا، ويفرح بأولاده وهم ينضمون إلى ملكوت الفادى ملكوت ابن محبته.

        بركة صلواته وطلباته تكون معنا أمين.


 

صلاة من أجل المحبة كتبها البابا كيرلس السادس

 

"ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح فاحص القلوب ومختبر الكلى، الذى تهب المحبة وتغرسها فى القلوب فنشعر بها ونعرف قدرها وإن كانت الأجسام متفرقة فى بلاد بعيدة. نعم يارب هذه نعمة عظيمة تهبها مجاناً لأناس قد اتفقوا بقلب واحد أن يطلبوها دوماً فى صلواتهم وتضرعاتهم قائلين: "يارب أغرس شجرة المحبة الطاهرة فينا." نسألك اللهم أن تنميها أكثر فأكثر لتأتى بأثمار ثلاثين وستين ومائة. يا مسيح الله يا غنى بالمراحم احفظنا بيدك القوية من عدو الخير الذى على حين غفلة يكدر أنفسنا بالغضب ويجعلنا نتكلم كلاماً يؤلم الغير بينما نرجع نندم عليه عند انفرادنا. وأنت تعلم ياسيد بأننا ليس لنا قوة على حيل هذا العدو، فانصرنا عليه، ولجم فمه لكيلا يقترب إلينا. وضع يارب حافظاً على فمنا وباباً حصيناً لشفاهنا. اجعلنا أن نعتبر الإهانات التى تصادفنا من الغير نافعة لنا لكى نتضع. امسكنا بيمينك واحرسنا بظل جناحيك، واهد خطواتنا فى طريق الحق. ولك مع أبيك الصالح والروح القدس كل مجد وكرامة وعز وسجود من الآن وإلى الأبد آمين.

 


[1] Cyril VI,  116th patriarch of Alexandria

 عن كتاب: مذكراتى عن حياة البابا كيرلس السادس. بقلم حنا يوسف عطا شقيق قداسة البابا والقس رافائيل آفا مينا (الشماس روفائيل صبحى الشماس الخاص لقداسته)

[2] كتب البابا كيرلس بخطه عن هذه الفترة فقال: "ولدت فى شهر أغسطس سنة 1902ميلادية فربانى والدى وعلمنى السلوك بمخافة الله وكنت أتعلم بالكُتَّاب. ومن صغر سنى كنت أميل إلى الهدوء والوحدة ولبس الملابس السوداء.." (عن كتاب: السلوك المسيحى والرهبنة فى فكر البابا كيرلس السادس. إصدار أبناء البابا كيرلس السادس)

[3] رجل تركى أقعده الكبر  يعيش عيشة الكفاف مع عائلته

[4] فى إحدى رسائله فى بدء حياته الرهبانية يقول لشاب: "اجتهد أن تكون أميناً فى عملك، واحتفظ من حيل العدو. كن مطيعاً لرؤسائك خاضعاً لهم ولو كانوا ذوى أخلاق غير حميدة. تمسك بالتواضع، لأن من يتضع يرتفع، والمتواضع محبوب من الله والناس، ومنظره مخيف للشياطين، بل ومحبوب من الملائكة والقديسين، والله يعطى نعمة للمتواضعين. واعلم أنه إذا كانت الكبرياء أشر الرذائل فيكون التواضع أعظم الفضائل وأجلها وأسماها. وليس من يقول عن نفسه أنه متواضع هو متواضع حقيقة، أو من يقول عنه الناس أنه متواضع هو كذلك، بل المتواضع الحقيقى هو الذى يشعر فى ذاته أنه حقير وينظر فى إخوانه أنهم أفضل منه علماً ومقاماً ومركزاً، ومهما عمل أعمالاً صالحة أو أتقن فضائل جليلة ينظر فى نفسه أنه ما عمل شيئاً، ويذكر قول الإنجيل: "إننا عملنا ما كان يجب علينا."

          لا تحاب بالوجوه، أعنى بذلك إذا جاء إليك واحد ذو مقام رفيع لأجل عمل، ويكون آخر فقير ربما يكون واقفاً له وقت من الزمن، فتؤخر عمل هذا الفقير وتبحث وتنهى عمل هذا الغنى، هذا لا يكون. إذا تصادف معك هذا الأمر فاعمل جهدك أن تنهى عمل الفقير الواقف أمامك ثم التفت لعمل الثانى، لأنك طبعاً ستكرمه وتحضر له كرسياً وقهوة وخلافه. الغرض لا تغش ضميرك."

          إياك والمعاشرات الرديئة، لأنك تعرف أنها تفسد الأخلاق الجيدة، والمثل يقول: "الطبع سراق." لا تكن كثير الكلام لأن كثرة الكلام لا تخلو من المعصية. وقال أحد الآباء القديسين إن كثرة الكلام تولد الضجر عند المتكلم والسامع. جرب هذا الأمر بنفسك تجد أن الإنسان بعد كثرة الكلام استولى عليه الضجر والسآمة والملل. لا تضحك كثيراً لأن كثرة الضحك تميت مخافة الله من قلب الإنسان، وإذا ضحكت فلا تعُل صوتك كما لاحظت عليك مراراً كثيرة بل إذا كان الأمر مستوجباً للضحك إضحك بهدوء أو تبسم فقط. إحذر من المزاح وكلام الهزل لأنه يبرد حرارة النعمة من قلب الإنسان، ولا تقل أنها كلمة بسيطة..لا.. لأن الإنسان سيعطى حساباً عن كل كلمة بطالة، بل مَجِّد الله فى أقوالك وأعمالك. ولا تكن صاحب نكت كما يقول البعض؛ إن فلاناً صاحب نكت ويفتخرون بمثل هذه. أما أنت فلا تجعل هذه العادات تتأسس فيك، لأنه كما يقال "العادة طبع ثانٍ فى الإنسان." فلا تُربِّ عادة من العادات الرديئة عندك."

          كن مستقيم الطريق من البيت إلى عملك، ومن عملك إلى البيت، ومن البيت إلى الكنيسة وإلى الاجتماعات الروحية. لا تسرع فى مشيك بغير أمر ضرورى. لا تلتفت يميناً ولا شمالاً عند سيرك. اجعل نظرك أمامك فى أثناء سيرك فى الطريق. قل فى قلبك: "يارب حافظ علىَّ، يارب يسوع استرنى بظل جناحيك، ياربى يسوع المسيح خلصنى من العثرات." ومثل هذه الأقوال، فإنك تجد معونة عظيمة وتصير عندك أحلى من الشهد.. هذا فى الطريق. (عن كتاب: السلوك المسيحى والرهبنة فى فكر البابا كيرلس السادس. إصدار أبناء البابا كيرلس السادس)

[5] لقد كتب البابا كيرلس رسائل لأحد أولاده الروحيين يوضح له كيف يسلك فى هذه الحياة وكانت هذه الرسائل فى بدء حياته الرهبانية مما يدلنا إن ما كان يقوله لهذا الابن كان هو سلوكه قبل دخوله الدير قال له: "يجب أن يكون كل شئ عندكم بترتيب ونظام، لأن إلهنا إله ترتيب ونظام، وإذا ما وجد الترتيب والنظام وجدت البركة والنعمة، تأمل ياعزيزى فى المعجزة التى عملها السيد المسيح له المجد عند إشباعه الجموع من الخمس خبزات والسمكتين، كيف أمر التلاميذ أن يتكئوا الجموع فرقاً فرقاً، خمسين خمسين، ألم يدل هذا على الترتيب والنظام. ولعلك تقول: وما هو الداعى لذلك أو ماهى المناسبة؟ أقول لك: يجب ومن الضرورى أن توجدوا فى الترتيب عندكم، فى أكلكم، وفى شربكم، فى جلوسكم، فى ملابسكم، فى تصرفكم، وأقول فى ضحككم، فى صلاتكم، فى صومكم، فى ترتيلكم، فى كلامكم، فى معاملاتكم.

          قلت: الترتيب فى صلاتكم أعنى بذلك تكون الصلاة بصوت غير مرتفع كثيراً، ويقف الإنسان يتلو الصلاة على قدر الإمكان وقدر الوقت. إن كان مزمور أو اثنين، كما قلت حسب الوقت ثم الإنجيل وبعض الطلبات، على شرط تكون بمداومة، لأن الشئ إذا كان بمداومة كنوز عظيمة يربى.

          قلت فى صومكم: أعنى بذلك تصومون بالجسد، وتصومون بالقلب، تصومون عن أكل اللحم، وتصومون عن النميمة ومسك السيرة: "فلان طيب، وفلان ردئ." هذا لا يكون، بل صوم اللسان أفضل من صوم الفم، وصوم القلب من الغضب والأفكار من الاضطراب أفضل من الاثنين.

          قلت فى صدقتكم: أعنى بذلك لا تعطى حباً فى الافتخار، ولا حباً فى الظهور..يقول الكتاب: "لا تعرف شمالك ما تفعل يمينك.

نم باكراً وقم باكراً. وعندما تستيقظ من النوم لا تظل نائماً فى الفراش. قم ارسم علامة الصليب على وجهك، وقل باسم الآب والابن والروح القدس له المجد الآن وكل آوان وإلى دهر الداهرين. أمين. وقم وقف على قدميك وصلَّ أبانا الذى فى السموات."

          واسجد لله بخشوع بقدر ما يمكنك عشرين أو ثلاثين دفعة، لأن هذه الفضيلة يا أخى ليس فى جميع الفضائل التى يصنعها بنوا البشر أفضل منها. أنظر قول أحد القديسين عن السجود لله بخوف: "محبوب من الله وملائكته الإنسان الذى يقوم بهذا العمل، لأنه مفيض الرحمة، ويزيد النعمة، ومفرح الروح، ويصنع أثماراً حلوة لذيذة، بل ومخيف للشياطين، ومرعب للجن."

          بعد ذلك اذهب اغسل وجهك وقف أمام الله واشكره الذى حفظك فى هذه الليلة وأتى بك إلى الصباح، واسأله أن يحافظ عليك فى هذا اليوم. اقرأ فى الكتاب المقدس بترتيب، واعطه وقتاً كالجرائد مثلاً، لأن كلمة الله شهية وأحلى من العسل وقطر الشهد."

          لا تكسل عن الذهاب إلى الكنيسة، ولاسيما يوم الجمعة تظل نائماً وتقول إنه راحة وتكسل عن الذهاب لسماع القداس الإلهى. هب أنك وعدت أحد أصدقائك ميعاداً، هل تخلف الميعاد وتظل نائماً؟ أقول كلا، بل إنك تحافظ على الميعاد بكل جهدك، أفما يليق بك أن تعامل إلهك معاملة أحد أصحابك؟ لا تكسل.

          اعترف دائماً بهفواتك لكى الرب يغفرها لك وتكون مرتاح الضمير واحرص أن لا تعاودها مرة أخرى. تناول من جسد الرب ودمه لكى تثبت فيه وهو فيك.

          وقف فى القداس بخشوع، ولا تنظر إلى الأصوات، وتلذذ سمعك فقط بل ضع فى نفسك أنك واقف أمام الله، وهو منتظر لتطلب منه النعم والبركات لكى يهبها لك مجاناً. قال: "اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم." كن كتاجر نشيط ماهر يعرف ربحه من خسارته، أنظر هل فى هذا اليوم أنت متقدم فى النعمة عن أمس وأول أمس؟

          عند حضورك من الشغل اخلع ملابسك واغسل وجهك واسترح قليلاً. وإذا أردت الرياضة فاذهب فى الأماكن الخالية من الضوضاء وتأمل أعمال الخالق وجمال الطبيعة، واشكر وسبح. لا تفكر كثيراً فى أمور الحياة ولا تدبر لك أمراً. ألق على الرب همك وهو يعولك. لا تتأخر كثيراً فى الخارج إن أمكن للساعة الثامنة فقط، كذا لا تتأخر خارجاً عن غرفتك إن أمكن للساعة العاشرة فقط، لكى يمكنك تقرأ قليلاً وتصلى. هذه الوصايا ليست ثقيلة، فلا تكسل وتطرحها وراء ظهرك وتقول: "أنا فاضى لكلام زى ده."

          إذا عودت نفسك على مثل هذه الأعمال ليس فى حقارتى كفؤاً أن أصف الأثمار التى تنتج منها. جرب تجده سهلاً. نعم إن فى الأول عدو الخير يجعله ثقيلاً جداً، ولكن يوماً بعد يوم تجد الأمر فى غاية السهولة، وترغب أن تزيد على هذه الأعمال. فيا أخى كما تهتم بجسدك اهتم أيضاً بروحك لأن لها حقوقاً عليك."

          فابتدئ أن تحارب العوائد القديمة لتقتلها واحدة فواحدة. فمثلاً أشهرت الحرب ضد الكذب لكى تقلعه منك، فإذا ما انتصرت على ذلك قم ضد الحلف لكى تبطله، وإذا ما غلبت ذلك أيضاً قم ضد النميمة ومسك السيرة لتطردها، وهكذا واحداً فواحداً حتى تبطل بنعمة يسوع كل هذه العوائد وتقلع الإنسان العتيق وتلبس الإنسان الجديد، وحينئذ تشعر بهذه النعمة العظيمة التى يهبها لك الرب والتعزية الحلوة التى يمنحها لك يسوع حتى انك فى وسط الضيق تصرخ مع داود النبى: "عند كثرة همومى فى داخلى تعزياتك تلذذ نفسى." أسأل يسوع أن يعطينا هذه النعم..

أتعشم أن تكون رتبت لك مكتبة وتجمع لها كتباً مفيدة لكى تطلع، لأن هذا نافع للرياضة الروحية. وإن شاء الرب تكون مداوماً على القراءة فى اللغة القبطية، وكل ربع من التسبحة يلزمك أن تكرره جملة مرات حتى يقارب للحفظ، وبذلك يمكنك تتعلم قليلاً قليلاً لأن القبطى سهل جداً، فقط يحتاج لكثرة التكرار." (عن كتاب: السلوك المسيحى والرهبنة فى فكر البابا كيرلس السادس. إصدار أبناء البابا كيرلس السادس)

[6] كاتب هذه السطور هو حنا يوسف عطا شقيق قداسة البابا

[7] يكتب البابا كيرلس بخطه عن هذه الأيام فيقول: "ولما بلغت سن الرشد وكنت أسمع كثيراً عن الأديرة والرهبان فكان يلتهب قلبى ناراً وأشتاق للذهاب إلى الدير. إلى أن جاء اليوم المعين من قبل الله وعرضت الفكرة على والدى وأخوتى، ففى ابتداء الأمر وجدت مقاومة شديدة ورفضاً كلياً منهم، فلم ينثن عزمى بل داومت الصلاة إلى الله متضرعاً إليه تعالى أن يعطف قلوبهم وأن يسمحوا لى بالذهاب إلى الدير، فسمع الله صوت تضرعى واستجاب إلى طلبتى، وفعلاً سمح لى والدى بالذهاب وأوصلنى إلى المحطة وزودنى بصالح الدعوات. فذهبت إلى الدير سنة 1927م، ولم أذكر اليوم ولا الشهر. وكان يوم تركت العالم من أسعد أيام حياتى. فتوجهت لدير البراموس الكائن ببرية شيهيت، ووصلنا إلى بلدة الهوكارية الساعة العاشرة مساءً، ومنها الدير الساعة الثانية بعد نصف الليل، فدخلت الدير وكأنه الفردوس، والآباء الرهبان شبه الملائكة، فاسترحت قليلاً إلى أن دق الناقوس للصلاة، فذهبت للكنيسة وحضرت القداس وأخذنا نعمة فوق نعمة."

[8] نيافة الأنبا مرقص مطران أبو تيج

[9] بير هوكر أو الهوكارية قرية صغيرة من منطقة أديرة وادى النطرون.

[10] أى أنه أعد ذاته لقبول سيل نعمة الله.

[11] فى خطاب له إلى صديق روحى يكتب له عن هذا الأمر، الذى كان سلوكه طوال حياته فى الدير فيقول: "عزيزى .. وصلنى خطابكم الكريم وإنى أشكركم على عواطفكم، وعلى نصائحكم الغالية. أما من جهتى كما يعلم الله إننى مبسوط جداً مسالم الجميع بقدر الإمكان، غير متحيز لواحد دون الآخر، مختصر فى قلايتى، مرحب بكل من يأتى عندى وأعمل له الواجب وزيادة عن الواجب، محترم الصغير قبل الكبير ، غير متداخل فى ما لا يخصنى، من الكنيسة للقلاية، وإن يوجد واجب علىَّ عملته…، وأنا على ما أنا عليه، أى وأنا راهب مثل قبل أن أصير راهباً. فكن مطمئناً من جهتى جداً لأتى متوكل على الله. وهل نظرت إنساناً اتكل على الله ويخزى؟ حاشا. وإنى أؤكد لك إننى لم أتحيز لأحد ما، وغير مختصر عن البعض وأذهب عند البعض الآخر بل مختصر عن الكل، وإن بعض الآباء نسبوا هذا الاختصار إلى التحيز. فاعلم يا عزيزى إننى قد عملت بنصائح الآباء المحترمين القمص منصور والقمص بقطر، واختصر فى قلايتى ولم أتداخل فى شئ لا يخصنى، فوجدت أن هذا العمل فيه الراحة الكاملة. والآباء القديسون يقولون: "إن من يجلس فى قلايته ويبكى خطاياه فذاك يشبه إنساناً يتكلم مع الملك." فما أعظم جلوس الإنسان فى قلايته منفرداً، يداوم الطلب إلى الله أن يعطيه ينابيع دموع كثيرة ليبكى على خطاياه لكى الله يغفرها له.. أطلعت الأب القمص فيلبس أمين الدير على خطابكم فاندهش جداً وقال: "يا ابنى أنا لم أرك من يوم حضورك للدير متحيزاً لأحد ولا تخالط أحداً بل مختصر فى قلايتك.." 

[12] الأنبا مكارى رئيس دير البراموس المتنيح

[13] يكتب البابا كيرلس بخطه عن هذه الأيام فيقول: "فقضيت مدة الاختبار حوالى تسعة أشهر. وبعدها أراد الله بأن ألبس شكل الرهبنة، فأجمع الآباء المحترمون على تزكيتى فوافق الرئيس على ذلك، ورسمت راهباً بالكنيسة القديمة التى بها أجساد القديسين. وكان الآباء اختلفوا على الاسم، وأخيراً اتفقوا أن الاسم الذى بسنكسار اليوم هو الذى يكون أراد به الرب، وفعلاً كان تذكار نياحة الراهب مينا (سنكسار يوم 17 أمشير) فدعيت بهذا الاسم المبارك الذى للشهيد مار مينا العجائبى. فأخذت من هذا اليوم أتعلم قوانين الرهبنة من الآباء، وكنت أدرس فى كتب القديسين، ولا سيما كتاب القديس العظيم مار اسحق، فكنت أشعر بنعمة الله تزداد علىَّ يوماً بعد يوم. فمكثت بالدير نحو أربع سنوات، كنت مطيعاً للجميع لآخذ بركتهم. وكنت أشتاق لخدمة الشيوخ كثيراً، فمكثت فى خدمة القمص عبد المسيح المسعودى العلامة مدة سنة. وتعلمت التسبحة قبطى على يد جناب القمص باخوم وهو أب اعترافى. وخدمت القمص أنطونيوس مدة سنة…"

[14] نعم ليكون هذا

[15] كتب البابا كيرلس السادس ـ القس مينا المتوحد ـ خطاباً لابنه الروحى القمص مكارى الصموئيلى (المتنيح الأنبا صموئيل أسقف الخدمات) قال فيه: "احرص جداً على إتمام السبع صلوات والمطانيات. واحفظ لسانك من كثرة الكلام. وتضرع دائماً بالقلب، لأن داود النبى يقول: "لتكن أقوال فمى بمسرة وتلاوة قلبى مرضية أمامك." الشيطان عدونا كأسد زائر يريد أن يبتلع واحداً فقاوموه راسخين فى الإيمان، قاوموا إبليس فيهرب منكم. أحد القديسين أراه الله أمراً، وهو أنه نظر فى مدينة شيطاناً واحداً جالساً على باب المدينة، ونظر فى دير جملة شياطين تخرج وتدخل، فعرف أن المدينة التى على بابها شيطان واحد، كل ما أمرها (هذا الشيطان) بشئ تفعله بدون مقاومة، أما الدير فهؤلاء الشياطين كانت تُقاوم من الآباء الرهبان. ولذلك شددوا الحروب عليهم، فالرب يحافظ عليكم من فخاخ وأشراك إبليس المنصوبة."

كما كتب عن صلاة القلب يقول: "الرسول يقول: من كان فرحاً فليرتل. ولكن الصلاة أعظم من الترتيل ولها قوة فعالة.. من وقت لآخر وأنت فى محل شغلك تقول فى قلبك: "ياربى يسوع المسيح ساعدنى. ياربى يسوع المسيح خلصنى. أنا أسبحك ياربى يسوع المسيح." لأن اسم يسوع حلو لذيذ وهو السيف الذى نعذب به أعدائنا. عود نفسك على تلاوة هذه الألفاظ التى إذا قلتها بكل قلبك قامت مقام الصلاة."

[16] كتب البابا رسالة عن الصوم لأحد أبنائه الروحيين يقول: "لما كان من المحتم أن تجرى للإنسان فى هذه الحياة تجارب عدة ومحاربات شتى، اقتضت عناية الله ترتيب الأصوام لملاقاة التجارب والحروب الروحية بها. فكما فرض الله الصوم على شعبه فى العهد القديم، هكذا فرضه علينا فى العهد الجديد بممارسته إياه إذ قال الكتاب المقدس: "وبعدما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة جاع أخيرا" (متى 4: 2). والمؤمن جندى فى الحرب الروحية فسلاحنا نحن المسيحيين هو الصلاة والصوم. وكما أن للجواد عنانه، فللجسم قمع شهواته وملاذه. وهذا ما يوصى به الرسول فى قوله: "اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد، لأن الجسد يشتهى ضد الروح والروح ضد الجسد. وهذان يقاوم أحدهما ألاخر حتى تفعلون ما لاتريدون. ولكن إذا انقدتم بالروح فلستم تحت الناموس. وأعمال الجسد ظاهرة التى هى زنى عهارة نجاسة دعارة عبادة الأوثان سحر عداوة خصام غيرة سخط تحزب شقاق بدعة حسد قتل سكر بطر وأمثال هذه التى أسبق فأقول لكم عنها كما سبقت فقلت أيضاً إن الذين يفعلون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله. وأما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طول أناة لطف تواضع صلاح إيمان تعفف. ضد أمثال هذه ليس ناموس. ولكن الذين هم فى المسيح يسوع قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات." (غلا5: 16 ـ 24 ).

فعند ضبط الجسم تؤدى الروح وظيفتها وشوكة الجسد تضبط بالصوم. إذاً الذين لا يصومون يسمون جسدانيين أى ذوى شهوات. هؤلاء معرضون على الدوام للتجارب وتغلب الشياطين عليهم فى كل وقت، حيث يجتذبونهم إلى تنفيذ كل أعمال الجسد ويبعدونهم عن الحياة الأبدية. وقد أغرى الشيطان كثيرين واستهواهم إلى الميول الجسدية فماتوا ووقعوا فى الخطية، منهم أبوانا الأولان وقايين وداود. وهو الذى وسوس لبنى إسرائيل حتى عبدوا الآلهة الغريبة. فبالصوم نقوى على الشيطان ونغلبه ونبطل أشراكه ونهدم حصونه كما قال المسيح له المجد: "أما هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم." (متى 17: 21 )

الصوم أمر واجب لكل مسيحى فى الحياة، وقد صام السيد المسيح له المجد مع أنه لم يكن محتاجاً للصوم ولكن ليعلمنا أن تجارب إبليس لا تُدفع إلا بالصوم. بالصوم أيضاً ننال المواهب الروحية ونتقرب من العزة الإلهية. به نحصل على طلبنا، ويُقبل سؤالنا."

الصوم نريد أن يكون حسب الروح فإن الرسول يقول: "الذين حسب الجسد فبما للجسد يهتمون، ولكن الذين حسب الروح فبما للروح. لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله. لأن اهتمام الجسد هو موت، ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام. فالذين هم فى الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله. وأما أنتم فلستم فى الجسد بل فى الروح إن كان روح الله ساكناً فيكم." (رو 8: 5ـ 9).

فالذين لازموا العبادة والوحدة لم يكتفوا بالأصوام المفروضة بل كانوا يقضون أغلب أيامهم فى أصوام، ومنهم الأنبا دانيال الصانع العجائب، يقول: "من كثرة الصوم صرت مثل الميت." ومنهم من صام طوال عمره عن الطعام الشهى، وهذا كما قاله الرسول بولس: "إن اهتمام الجسد عداوة لله." (رو8: 7). ومما يذكر فى هذا الصدد أن أحد الأساقفة نزل ضيفاً على أحد العباد فى البرية فقدم له خبزاً وملحاً، وبعد الأكل اعتذر له. فقال له الأسقف: "فى السنة الآتية لا أجد خبزاً وملحاً."

فانظروا يا أبنائى وأولادى الأعزاء الموقرين ما كان عليه آباء كنيستكم من التقشف والزهد والتقوى العظيمة، وتأملوا فيما قدمه الأخ من الطعام للأسقف، وفى جواب هذا الأسقف على الاعتذار، مشجعاً الأخ فى الروحيات وأن لا يهتم بالجسديات."

[17] فى رسالة كتبها لأحد أبنائه الروحيين يقول: "داوم على القراءة إن أمكن أكثر من الصلاة. لأن القراءة هى ينبوع الصلاة الذكية. لأنه كما قلت لك إن أول عمل فى الفضيلة هى القراءة بغرض مستقيم، أعنى تقرأ لمعرفة السير فى طريق الفضيلة. فالذى يقرأ فى الكتب لأجل معرفة طريق الفضيلة ينفتح أمامه طريق الفضيلة.."

وكتب أيضاً: "اجتهد أن قبل ما تعُلم أعمل بما تريد أن تعُلمه، لأنه كتب عن السيد المسيح له المجد فى أول سفر أعمال الرسل عن الأشياء التى ابتدأ أن يعمل ويعلم بها يسوع. أما الذى يعمل ويعلم فهذا يدعى عظيماً فى ملكوت السموات.. أما كل التعاليم فهى فى كتب الآباء القديسين الذين لهم الفضل الأعظم."

[18] المتنيح الأنبا كيرلس مطران البلينا

[19]فى رسالة يرد فيها البابا كيرلس السادس ـ القس مينا المتوحد ـ على أخ أرسل لقداسته خطاباً يوضح له خطورة طريق الوحدة، والتخوف من سرعة الاختيار بدون تروى كتب له يقول: "هل تريد تجلس لوحدك فى المغارة طمعاً فى أخذ الشهرة ومديح الناس والحصول على مرتبة رفيعة؟ ما هذا القول؟ كان بالأولى لى لهذه الرغبة أن أستمر فى المدرسة لكى أحوذ الشهرة فى العلوم وغيرها، ثم من ذلك يمكنا الحصول على المراتب الرفيعة. تقولون أو لكونكم مملوئين حسداً، ولا تستطيعون أن تنظروا غيركم فى درجة أعلى منكم؟ هذا حسن وجميل أن يهرب الإنسان بعيداً ولا يحسد أخاه. تقولون هرباً من أشغال الدير؟ هذا عين الصواب لأنى أريد أن آكل خبز الكسل!! وكلام كثير لم أعرف أعيده! وفى الختام تقول إن الهموم والكدر لا سمح الله عاودتك! على إيه هناك؟ أنا أحسن من مين يا سيدى؟ أحسن من أولاد الملوك الذين سكنوا المغارة؟ أو أحسن من الآباء الأولين الذين لا أستحق تراب أرجلهم؟ كلا وألف كلا.

أنا لا يساوى أقل واصغر وأحقر راهب فى الأديرة. عموماً بل أرجو عدم المؤاخذة أنا لا يساوى الحمار الذى لا نطق له ولا عقل له. أريد السكن فى المغارة، تعرف لماذا؟ كلا بل أنت تأخذ الأمور على ظاهرها. لا يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الساكن فيه. هل أريد السكن فى المغارة لكونى أقدس من الرهبان؟ كلا بل أريد السكن بها كما قال أحد الآباء بالنص الصريح، بعد أن أوضح الحروب والقتالات التى مع الراهب، قال يجب أن يكون للراهب الذى عنده هذه الحروب سكون وهدوء فى قلايته لكى يقدر أن يصطاد الأفكار الرديئة. فإذا رأيت وطبقت الحروب الداخلية التى عندى على قول هذا القديس الذى لم يقل هذا الكلام إلا عن تجربة فى نفسه، هل تعرف هذه الفكرة بقيت عندى من كم سنة؟ من ثلاث سنين تقريباً، ربما لا تصدق ذلك، لكن الكلام الذى أقوله لك هو الصدق. عندما كانت تخطر بفكرى هذه المسألة كان قلبى يفزع وجسمى يقشعر من الخوف. صارت تتردد على كثيراً وكثيراً جداً هذه الأفكار. كنت عند ورودها أكون فى ضيق وكآبة لا تتُقدَّر لكونى لا أجسر على قدوم عمل مثل هذا. هل تعرف سبب إقامة القداديس الكثيرة؟ سببها هذه الفكرة. كنت أطلب من الله ليلاً ونهاراً لكى يرشدنى الطريق. هل تعرف سبب قيامى إلى سوهاج؟ هى هذه الفكرة. كنت أقصد السكن فى مغارة وليس فى الدير كما عرفتكم. هل تعرف سبب تركى المدرسة عندما خيرنى سيدنا البابا المعظم فى أحد الأمرين. هو هذه الفكرة، لأنى أقصد السكن فى مغارة. ولكن على كل حال يا سيدى علشان خاطرك، لكى تكون مرتاح الضمير سأقيم بالدير مبتهلاً ومتضرعاً إلى السيد المسيح أن ينظر إلىَّ بعين رحمته ويهيئ الطريق أمامى، وبعد أخذ أراء الآباء المخلصين، وكشف أفكارى لهم، والبحث فى كتب القديسين، وإقامة القداديس بالدير، حتى إذا كان هذا الأمر من الله يسهل لنا الأمر، وإن كان من عدو الخير يبطل فكن مطمئناً جداً جداً، ولا تفكر كثيراً، بل دع الأمر لمن بيده الأمر، لأن تفكير الإنسان لا يمنع أمراً محتم حدوثه.

          نعم أنا مقدر محبتك وعطفك ولا أستطيع أن أعبر عنهما، ولكن تذكر لمن أنا أخدم، هل لإنسان قاس أو سيد مستبد؟ كلا، بل أنا أخدم سيد رحيم وإله عظيم، لاتقف أمامه أية قوة تحت السماء، فهو الذى جعلنى أن أسلك طريق الرهبنة، فهو قادر يجعلنى أكمل سعيى حسناً. وماذا أقول: "ألق على الرب همك فهو يعولك." طوبى لجميع المتوكلين عليه، فلا تخف."

كما كتب البابا كيرلس عن هذه الفترة فقال: "عاودنى الشوق العظيم لطريق الوحدة فلم أر بداً من تنفيذ هذا الشعور. وفعلاً عند سفرى لطريق الدير أرشدنى السيد المسيح عن المغارة التى بالجبل التى بناها المتنيح القمص صرابامون. فأخذت أحد الفلاحين وتوجهت إليها وقمنا بتنظيفها ومكثت بها. ولا يمكننى أن أصف ما قد حصل فى أول ليلة أقمت فيها، فكنت أشعر بأن العدو جمع قواته علىَّ أنا الضعيف، وأحدث مخاوف شديدة وأصواتاً مزعجة وزلازل مخيفة، كل ذلك طبعاً، الطبع البشرى ضعيف والخوف لابد منه. ولكن انظروا عناية الرب، وكأنه بقوة خفية كانت تشجعنى وتقول لى: "لا تخف منهم ولا ترتاع أمامهم لأن الذى معك أكثر من الذين عليك. وكما يقول داود النبى: "تقدمت فرأيت الرب أمامى فى كل حين لأنه عن يمينى لكى لا أتزعزع، من أجل هذا فرح قلبى وتهلل لسانى." مثل هذه الأقوال كنت أسمع فذهب عنى الخوف وتشجع قلبى. وفى اليوم التالى حضر الآباء الرهبان وأرادوا أن يأخذونى معهم بالقوة فلم يفلحوا فأرسلوا تلغرافاً لغبطة البطريرك وآخر للرئيس. وبعد مقاومة شديدة من الجميع وافق البطريرك على بقائى، فشكراً للرب على إحساناته. سرت على بركة الله الطريق، وكنت أتوجه للدير كل أسبوع لتناول الأسرار المقدسة وأخذ مؤنتى من الدير، وصادفت فى طريق مدة إقامتى بالمغارة حروباً شديدة ومقاومات واضطهادات سأكتب عنها بالتفصيل."

[20] عن الخروج للوحدة كتب البابا كيرلس السادس هذه الرسالة من أقوال مار اسحق السريانى: "نبتدئ الآن نوضح من أقوال الآباء القديسين ماهو السكون. قال مار اسحق العظيم فى العارفين: "فى الأزمان القديمة أباؤنا القديسون كانوا يأذنون لكل أحد بالسكون فى الهدوء، الرجال والنساء والصبيان والشيوخ الحكماء والسذج. الذى يريد من الأخوة الرهبان أن يرضى سيدنا المسيح بتدبير سيرة السكون الكريم يؤمن ويصدق بمواعيد ربنا ويحمى نفسه بحمية المسيح رجائنا، ويدخل السكون على اتكال ورجاء نعمته، ولا يخاف من شئ. هوذا روح المزامير تعزيه وتشجعه قائلة: "لا تخف أيها المتوحد الجالس فى السكون على رجاء سيده. أورشليم.. الجبال محيطة بها والمسيح ربنا محيط بك، وأيضاً الذى يتكل على الرب نعمة الروح تحيط به، وأيضاً عساكر ملائكة الرب محيطة بخائفيه (مز34: 7) لأنه مع كل واحد منا ملاك لازق به ويخلصه ويصلى عليه وينير عقله ويملأه أفهاماً روحانية ويعزيه بالخفى. المتوحد الذى يسكن فى الهدوء وحده نعمة الرب محيطة به، وملاك فى كل حين يحرسه ويعزيه ويسليه، من إيش يخاف؟ مبارك ربنا يسوع المسيح الذى وهبنا السكون. طوبى للمتوحد الذى يحبه ويثبت فيه، ويصبر على ضيقاته أولاً ليتنعم بنياحاته الأخيرة. ويجاهد فى حروبه القديمة. ويتكلل بأكاليله الأخيرة..

أيها الحبيب.. بنعمة الله سأكتب لك على التوالى فى هذا المعنى لكى أوضح لك عظم مقدار شرف هذا الطريق، وكيف أن الإنسان إذا سلك فيها بحسب قوانين الآباء ينال ذلك الفرح الذى لا يوصف، ويمتلأ قلبه بالتعزية فى كل حين، وتذهب عنه الكآبة والضجر، ويحل مكانهما البهجة والسرور. وعندما يقايس كل ملك العالم بهذه النعم يجده كلا شئ. فالله قادر أن يعطينا كل هذا النصيب الصالح هبة مجانية ليس بأعمالنا ولا لبر فينا.."

كما كتب إلى بعض الرهبان يشجعهم على سلوك طريق الوحدة قال: "جيد للرجل أن يحمل النير منذ صباه ويجلس وحده." ، "هاأنذا أبتعد هارباً إلى البرية منتظراً الرب الذى يخلصنى من صغر النفس." قال القديس العظيم مار اسحق العظيم فى العارفين: "أحبب الوحدة ولو أنك عاجز عن جميع حقوقها. صلاة واحدة يصليها الإنسان وحده أفضل من مائة صلاة يصليها مع الناس. ومن شعر بخطاياه فقد عرف أن الوحدة خير من أن ينفع العالم بمنظره. ومن يبكى على نفسه فى الوحدة أفضل من الذى يقيم الموتى بصلاته." ويقول أيضاً: "نوم ليلة واحدة فى الوحدة أفضل من عمل مائة يوم بين الناس."

نعمة ربنا ورحمة وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح مخلصنا وفادينا والروح القدس مرشدنا ومعزينا. يا أولادى المحبوبين والذين أنا أحبهم بالحق، فرحت جداً جداً، فرحت لما علمت برغبتكم الصالحة واشتياقكم ومحبتكم للسير فى طريق الوحدة. وشكرت الرب جداً الذى وهبكم هذه النعمة العظيمة التى لا يمكن للإنسان أن يحصل عليها بدون عمل النعمة. نعم إن أصعب الجهاد هو الصبر على الوحدة والرضى بما يدبره الله. حقاً قديماً كان الآباء القديسون يشجعون على السلوك فى طريق الوحدة، بل ويأمرون ويشددون جداً على ذلك. قال مار اسحق: "يجب على الذين تركوا العالم وذهبوا إلى الدير، من بعد أن يمكثوا مدة فى الدير، يخدمون فى المجمع ويتعلمون طقس الرهبنة ويحتملون كل ما يأتى عليهم. ثم من بعد تكميل هذه الأشياء، تُعطى لهم النعمة الإلهية موهبة السلوك فى طريق الوحدة إذا ما بنعمة الله شعر الإنسان بذلك، أعنى أنه يشعر بل يتأكد من أن النعمة تدعوه للسلوك فى طريق الوحدة، وليس من شهوة فى نفسه أو طمعاً فى الحصول على النعم والبركات التى يتمتع بها السالكون فى هذه الطريق، بل متأكداً جداً من أن النعمة تقوده. لأن أول شرط فى طريق الوحدة هو الغرض المستقيم، أعنى يجب على الإنسان أن يتمسك بالغرض المستقيم لا طمعاً فى مواهب، ولا لأجل مديح الناس، ولا لأجل وظيفة عالمية، بل يضع فى فكره أنه يجلس وحده ويبكى على خطاياه، ويجعل نفسه أنه كلب عقور، ويحبس نفسه لئلا ينظر الناس ويعقرهم. وليس لأجل عمل الفضائل الكثيرة يجلس فى الوحدة، لأن وجودنا فى المجمع يشجع على عمل الفضائل. بل يجلس فى الوحدة لكى يقتنى سكوت القلب.

ثلاثة أبواب مفتوحة إذا أغلقناها جيداً ننظر المسيح داخلها: باب القلاية، وباب الأفكار والحواس، وباب القلب.

بدون الأول لا يمكن الحصول على الثانى وبدون الثانى لايمكن الحصول على الثالث. بوجودنا داخل القلاية نحفظ حواسنا وأفكارنا. وبحفظ هذه يهدأ قلبنا ويتنقى. ومتى حصلنا على نقاوة القلب نعاين الله. ماذا أقول وماذا أكتب؟ يعوزنى الوقت لو أخبرت عن طريق الوحدة التى نحصل فيها على أشياء لا يمكن الحصول عليها بين الناس ولو تعلقنا من جفون أعيننا.

لا تحزن أيها الأخ الضعيف الجالس فى الوحدة على رجاء سيده.

[21] لقد كتب البابا كيرلس السادس  ـ القس مينا المتوحد ـ إلى أبنائه الرهبان الذين سلكوا الوحدة فقال: "عظيمة هى الموهبة التى حصلتم عليها وهى الجلوس فى الوحدة. يا أولادى نعم عظيمة جداً جداً نعمة الجلوس فى الوحدة، ولكن لا ننسى أبداً تلك الحروب الصعبة التى تأتى على من يسلك هذا الطريق، الخوف المرعب فى الليل، الضجر المحزن فى النهار، طغيان وضلالة الشياطين، الرب يحفظ نفسك، الرب يظلل على يدك اليمنى، لا تحرقك الشمس بالنهار ولا القمر بالليل. لا تخف، تشجع وليتقوى قلبك. لأن الرب ناظرك إله يعقوب. الذين معنا أكثر من الذين علينا. الرب نورى وخلاصى ممن أخاف، الرب عاضد حياتى ممن أجزع.

          الشرط الثانى فى سلوك طريق الوحدة بعد الشرط الأول ـ وهو الغرض المستقيم ـ تكميل الأوقات، والشرط الثالث المرشد، هذه الثلاثة لابد منها. نعم وإن لم يمكنا تكميل خدمة الأوقات، ولا وجود للمرشد فى هذه الأيام، نتحفظ جداً جداً بالغرض المستقيم.

          يا أولادى سيروا على بركة الرب فى الطريق ونحترس جداً فى كل خطوة نخطوها، وندرس فى كتب وأقوال القديسين التى تركوها والتى تقوم مقام المرشد فى هذه الأيام. ونسير بهدوء خطوة خطوة، ولا نسرع ولا نجرى ونطمع فى الأشياء التى حصل عليها السالكون فى طريق الوحدة. ونعرف ونتأكد أن الذين حصلوا على هذه النعم إنما جاهدوا حتى الدم، ولم يحصلوا عليها من أول سنة أو أكثر، بل صبروا فى احتمال كل شئ. ونذكر ذلك الشاب الذى ذهب إلى الشيخ القديس واشتكى له ما يقاسيه من التجارب والضنك. ففتح الشيخ عينيه وتأمل فى الشاب وقال: "يا ابنى أنت شاب، والله لا يسمح بوقوعك فى تجربة، فقال الشاب: نعم إنى شاب ولكن تجارب الرجال الأقوياء جاءت علىَّ. فقال له الشيخ: اسكت إن الرب يحبك، فقال الشاب: كيف يحبنى وأنا كل يوم أذوق الموت؟ فقال لى الشيخ: إن الرب سيجود عليك بموهبة. واعلم يا ابنى أنا لى ثلاثون سنة فى طريق الوحدة ما خلوت يوماً واحداً من التجارب والأحزان. ولكن اعلم بعدما كملت ثمانى عشر سنة بدأت أشعر براحة، ولما كملت ثلاثون سنة كثرت جداً، ولم أعرف لها مقدار حتى إنى لما أبدأ فى خدمتى كان يختطف عقلى إلى السماء، وكنت أمكث بالدهش مع الله. أنظر كيف أن جهاد أيام قليلة يحصل بواسطتها على أشياء عظيمة. فتعزت نفس أخينا وابتدأ يجاهد والرب أراحه من أتعابه.

          فأناشدكم يا أولادى بالمحبة أن تسيروا بهدوء ونتمسك بالتواضع جداً. لأن داود النبى يقول: "اتضعت فخلصنى."، و"أنظر إلى تواضعى وتعبى."، "والرب يعطى نعمة للمتواضعين."

          الرب الإله القادر على كل شئ يهبكم روح الحكمة والفهم. الرب يرسل ملاك السلامة، يحوط بكم وينجيكم من فخاخ العدو الشيطان، وينير أمامكم الطريق. أرجو أن تذكرونا أمام عرش النعمة لكى الرب يرينا إياكم لكى نتعزى معاً بإيمانكم وإيمانى. سلامى لكم ونعمة الرب معكم."

[22] فى رسالة لقداسة البابا ـ القس مينا المتوحد ـ إلى القس مكارى الصموئيلى كتب يقول: "إعلم يا ابنى العزيز إن مبدأ طريق الفضيلة هو أن يغصب الإنسان نفسه فى كل عمل ويجد معونة وقوة خفية تشجعه، لأن ملكوت الله يغصب والغاصبون يختطفونه. إغصب ذاتك فى صلاة الليل وتلاوة المزامير وداوم واكرم القراءة، وإن أمكن أكثر من الصلاة، لأن القراءة هى ينبوع الصلاة الذكية، لأن كما قلت لك إن أول عمل فى الفضيلة هو القراءة بغرض مستقيم، أعنى تقرأ لمعرفة السير فى طريق الفضيلة. فالذى يقرأ فى الكتب لأجل معرفة طريق الفضيلة ينفتح أمامه طريق الفضيلة. والذى يدخل باب طريق الفضيلة ينفتح عليه باب التجارب. وأما الباب الأخير فهى موهبة تعطى من الله، فالرب يقويكم ويرشدكم وينير الطريق أمامكم، ويمسك بيمينكم ويقودكم فى موكب نصرته.."

          وفى رسالة ثانية كتب يقول: "عشمى أن تكون شجاعاً أمام الأفكار ولا تجبن لأن لنا معين ومقوى يساعد ضعفنا. وكل هذه التجارب التى تأتى عليك ليست مستغربة، لأن خمسة أبواب لابد للراهب المجاهد أن يسلك فيها، كما أذكر أنى أوضحت لك فى الرسالة الأولى. فالذى يريد أن يسلك طريق الفضيلة باب التجارب ينفتح أمامه، وفى وسط هذه التجارب تظهر عناية الله وتخلص الإنسان. يقول معلمنا العظيم فى العارفين مار اسحق: لا تظن يا أخى أن القراءة فى الكتب والصلوات الحلوة والمطانيات المنسحقة والدموع هى عمل إلهى فقط؛ صدقنى وحسب رأيى، إن جميع الأفكار والتجاديف والسبح الباطل وكل ما يضايق ويحارب الإنسان، ويندم ويحزن لأجلها هى عمل إلهى. ما خلا فكر العظمة والكبرياء، وليس أعنى تلك التى تمر بفكر الإنسان ولو انغلب منها الإنسان ساعة أو أكثر ثم انتبه وحزن، بل هى التى يدوم فيها الإنسان ويحسب أنها لائقة. هذه هى التى تغضب الله، وإنى أسأله أن يحافظ عليكم منها."

          وفى رسالة أخرى لراهب كتب له يقول: "أتعشم بنعمة الله أن تكون متمتعاً بالصحة الروحية والجسدية، صابراً فى الضيقات، ومحتملاً كل ما يأتى به العدو بقلب قوى. تقوَّ وليتشدد قلبك وانتظر الرب فيخلصك. واعلم أن هذه التجارب ليست غريبة لأنها لابد أن تكون لاختبار الإنسان. لأنه كما أن الأم عندما تريد تعلم طفلها الصغير المشى تبتدئ تسنده بيدها، وبعدها تجعله يستند على الحائط، وبعد قليل توقفه فى وسط الغرفة وتستدعيه إليها فيقبل إليها، وعندما تراه يكاد يسقط تسرع إليه وترفعه، كذلك النعمة المربية لنا تفعل مع ضعفنا. تبتدئ أن تذيق الإنسان كل حلاوتها وتعزيتها، وبعد ذلك تدخله التجارب التى حسب قوته لكى تمرنه على كل شئ. ولكن عندما تنظره يكاد يسقط أو يضعف تضمه إلى حضنها وتشجعه. فلا تخف لأن سيدك قوى وسوف ينصرك فى جهادك.."

          كما كتب رسالة لآخر يقول فيها: "عند كثرة همومى فى داخلى تعزياتك تلذذ نفسى." فكن واثقاً أن الله معك، ينير لك الطريق، يعلمك ويرشدك ويهدى خطواتك. وإن كانت بعض الضيقات تصادفك تذكر قول السيد المسيح: "فى العالم يكون لكم ضيق ولكن ثقوا. أنا قد غلبت العالم." ويقول: "بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً."، "فتوكل على الله من كل قلبك وعلى فهمك لا تعتمد. إعرفه فى كل طرقك وهو يقوم سبلك."

          وفى رسالة أخرى كتب: "تأكد أن بعد هذه الضيقات سيعطى النعمة لأن كل نعمة تتقدمها محنة فسلم أمورك له وهو صادق فى وعده. لا أهملك ولا أتركك. إن نسيت الأم رضيعها فأنا لا أنساكم. متضايقين ولكن غير يائسين. ملقين كل همكم عليه لأنه يعتنى بكم."

          وفى رسالة أخرى قال: "أما وقد زال كل شئ بنعمة الله الذى يرعانا ويقودنا فى موكب نصرته، الذى أمر قديماً البحر والريح فصار هدوء عظيم، هكذا هو قادر الآن أن يأمر بحر التجارب والريح التى للآلام أن تهدأ فيصير هدوء عظيم. لأن بيده كل شئ، وكل شئ خاضع لأمره. وقد سمح تبارك اسمه باشتداد هذه الآلام وهذه الزوابع قصاصاً على الخطايا القديمة التى ارتكبها الإنسان فى الأيام الأولى، فهو يجرح ويعصب ويسحق ويداه تشفيان. وأى ابن لا يؤدبه أبوه. فلا تكره تأديب الرب لأنه يؤدب كل ابن يحبه. فإن كنا نقبل التأديب يعاملنا الله كالبنين. فشكراً له على مراحمه العظيمة وعطاياه الجزيلة، لأنه فى وسط الضيق يظهر لنا عطفه وحنانه، وهو لا يدعنا نجرب فوق ما نستطيع." أخيراً يكتب قول مار اسحق: "سحابة صغيرة تحجب كورة الشمس، وبعد أن تمر تظهر الشمس كما كانت، كذلك التجارب للراهب ولو أنها صعبة إلا أنها تنير نفسه بعد مرورها. فشكراً لله الذى أجاز التجربة بسلام وكل ما يعمل يعمل للخير للذين يحبون الله. وتجدنى أمام هذه التجارب كما تعلم حصلت على فوائد روحية كثيرة، وهذه نعمة من نعم الله."

[23] كتب البابا كيرلس ـ القس مينا المتوحد ـ رسالة يقول فيها: "عزيزى من جهتى لله الحمد والشكر، بل ألف حمد وشكر بل مليون ألف حمد وشكر لذلك الفادى العظيم، الذى دائما يتعطف علينا ولا يعاملنا حسب كثرة خطايانا، ولم يجازنا حسب أثامنا.

          إنى مبسوط جداً جداً جداً، ولا يوجد شئ تحت السماء يقدر يكدرنى أو يزعجنى لأنى محتمى فى ذلك الحصن الحصين داخل الملجأ الأمين، مطمئن فى أحضان المراحم، حائز على ينبوع من التعزية من النعمة التى هى أم الكل التى فى كل وقت ترفرف بأجنحتها على الإنسان وتطرد عنه كل كدر وحزن وقلق، وتبلسم قلبه ببلسمها الذى لا يوصف. آه ما أحسن وما أجمل ترددها على القلب، تزيل منه كل هم من هموم الحياة. تظهر معونتها محسوسة لكى يتشجع ويتقوى فى جهاده. وأنه ليس بحرصه ولا بقوته يستطيع يقف فى الجهاد بل بمعونتها. هذه النعمة التى يدعوها الآباء القديسون مثل المربية التى تعلم وتدرب ابنها الصغير. عندما يبتدئ فى المشى تبعد عنه قليلاً لكى يأتى إليها، وعندما يرى نفسه أنه سوف يسقط يبتدئ يبكى ويمد يديه فتسرع إليه وتأخذه فى أحضانها وتقبله وتمسح كل دمعة من عينيه. كذلك النعمة الإلهية تفعل بالإنسان. وسط الجهاد تظهر أنها تبتعد عنه قليلاً لكى تدربه على السير فى طريق الفضيلة، وعندما يحزن أو يتضايق أو يضجر حالاً تسرع إليه وتشجعه. يا لهذه المراحم العظيمة والنعم الوافرة التى يتمتع بها الإنسان من لدن نعمة الله. نتضرع إليه تعالى أن يديم نعمته ويحفظنا فى إيمانه ويجعلنا أن ندوس على كل شئ فى الوجود حتى نتحصل عليها وحدها. الله قادر على كل شئ.."

          فى رسالة أخرى كتب يقول: "أيها الأخ العزيز كما وعدت محبتك أن أكتب لك قليلاً عنه؛ أى الطريق التى بنعمة الله وعونه وإرشاده أسلك فيها. فقبل أن ابتدئ أعترف فى السر والعلن أن كل هذا هو فضل من آبائى وإخوتى الذين فى الدير. لأنى أقل وأحقر واحد فيهم، وهذا من كل قلبى وليس لأجل المراياة، كلا بل هى الحقيقة واضحة جلية، وما سلكت هذه الطريق إلا لكونى كلب عقور خوفاً من أن أعقر أحداً، ولذلك السبب هربت للسكون.

          عزيزى أنا أعلم علم اليقين أن لك إيماناً ثابتاً فى يسوع المسيح وتعرف تماماً أن كل شئ بإرادته وحده، وليس يحدث شئ فى الوجود إن لم يكن ذلك بإرادته وتدبيره. الله يعلم أن سعيى ليس عن دراية فى هذه الطريق لأننى لم أعرفها. نعم إن الآباء القديسين وضعوا لنا علامات، والذى يريد الوحدة يطلب من الله بلجاجة لكى يهئ له من يرشده. ومن منذ ثلاث سنوات كنت أطلب لكى يرشدنى فى هذه الطريق، ولكن لعدم المعرفة ولعدم الدراية تهيبنا وقبلنا طعنات كثيرة من العدو فى ضيق وكآبة، واستولى علينا اليأس وقطع الرجاء، وأحسسنا بالكآبة،  وضنك جسمنا وهزل من كثرة أفكار الخوف التى حوربنا به فى كل هذه المدة الطويلة. ولكن الله الرحوم الذى لا يشاء بأن يسقط الإنسان فى مثل هذه الأمور ساعدنى بيده القوية وأرشدنى إلى الطريق وفتح أمامى الباب. وهناك تنفست الصعداء مما لحقنى من جراء الأعداء، وأضاء عينىَّ وأبصرت النور، وشعرت كم كنت فى ظلام وقتام. فابتهج قلبى وتهللت روحى وأخذت أرتل مع داود النبى: "إن قلت قد زلت قدمى فرحمتك يارب تهدينى، عند كثرة همومى فى داخلى تعزياتك تلذذ نفسى." فشكراً وحمداً ومجداً وكرامة وسجود ووقاراًَ لذلك الفادى العظيم الأمين الصادق فى مواعيده الذى دائماً يرعانا بعين عنايته، الذى يقودنا فى موكب نصرته، القائد الأعظم الذى أعطانا السلاح الكامل لنقدر نقف أما الأعداء، الذى بدونه لا نقدر نفعل شيئاً. نسأل من جوده أن يكلل جهادنا بالفلاح والنجاح ويهب لنا القوة من لدنه حتى نكمل السعى حسناً، وأخيراً ننال ما أعده لنا، ليس لاستحقاقنا، بل بنعمته له المجد إلى الأبد أمين.

[24] والد القمص ميخائيل داود

[25] كان الراهب مينا أثناء وجوده مع الرهبان بمصر القديمة بعد أن يقوم بخدمتهم اليومية يصعد الجبل المبنى عند سفحه دير الملاك ميخائيل، يتجول ويمضى وقتاً للتأمل والعبادة. فصادفه خفير الآثار هناك يتأمل الطواحين، ويتنقل من واحدة إلى أخرى. فسأله عن خبره، فقال له: "أريد الإقامة فى هذا الجبل فى إحدى هذه الطواحين." فقال له: إن المكان منطقة آثار ومحظور على أى إنسان الإقامة فيه. إلا إذا حصل على تصريح بذلك من مدير الآثار العربية، وأنه لم يسبق لإنسان أن حصل على مثل هذا التصريح." فسأله: "وأين إدارة الآثار هذه ومن هو مديرها؟" فعرفه عنوانها واسم مديرها فتذكر ذلك الاسم وأنه هو الذى زاره فى سنة 1933م بالمغارة بوادى النطرون.

          فتوجه إلى دار الآثار العربية، ودنا من ساعى مكتب المدير، وسأله عنه، فظنه يطلب مساعدة. فقال له: "ياعم اقعد هنا جنبى لما يخرج يمكن ربنا يحنن قلبه عليك." فجلس برهة وتجاذب معه الحديث. فارتاح الساعى إليه وطمأنه أنه سيساعده فى مقابلة المدير عند خروجه من مكتبة، ولكن القس مينا أقنعه بأن يدخل له، ويخبره أن العابد الذى زاره مع الباحث الأمريكى بالمغارة بوادى النطرون يرغب فى مقابلته. ذهب الساعى وأخبر المدير بذلك، فقام لفوره وخرج لمقابلة القس مينا، وعانقه وأخذ بيده ليدخله مكتبه. وقص على إخوانه الذين كانوا فى مكتبه حكايته العجيبة، وطلب منه أن ينزل داره ضيفاً كريماً، فشكره، وقال له: "لى عندك أمر أرجو أن تساعدنى فيه." وعرض عليه الأمر. وما إن أتم كلامه حتى طلب سكرتيره، وأمره أن يحرر عقد إيجار الطاحونة التى حددها القس مينا، ودفع من جيبه الإيجار لمدة طويلة، ونبه مفتش أثار المنطقة أن يزوره فى الجبل، ويعطى أمراً لخفير الآثار أن يرعاه، ويقضى له كل احتياجاته. فشكره القس مينا على حسن صنيعه، وانصرف مسبحاً الله. 

[26] الطوب النى

[27] القمص

[28] المتنيح الأنبا توماس مطران عطبرة

[29] الأنبا مكسيموس مطران القليوبية المتنيح

[30] الأنبا يوساب أسقف البلينا المتنيح

[31] اشعياء 45: 2

[32] اشعياء 54: 7

[33] يوحنا10: 10

[34] اشعياء 62: 6

[35] أعمال 20: 24