5 طوبة: متاؤس الأول البابا السابع والثمانون

عن كتاب: قاموس آباء الكنيسة وقديسيها مع بعض الشخصيات الكنسية للقمص تادرس يعقوب ملطى.نقلاً عن كامل صالح نخلة: سلسلة تاريخ البطاركة وكتاب القس روفائيل فريد واصف: كشف الأسرار فى تاريخ البطاركة الأحبار جـ 2

 في القرن  الرابع عشر لم تكن الكنيسة تخرج من محنة إلا لتجوز أخرى، وكأن أبواب الجحيم قد فتحها الشيطان ونسى عدو الخير الوعد الإلهى الصادق "أبواب الجحيم لن تقوى عليها".

في نهاية القرن الرابع عشر ترأس الكنيسة عملاق ممن بلغوا الذروة في الكمال والقداسة إذ شابه القديس أثناسيوس بولعه بممارسة الشعائر الدينية في صغره وشابه الأنبا شنودة رئيس المتوحدين في أنه كان يرعى الغنم ويوزع طعامه على الرعاة لينصرف للصلاة وكانت الوحوش ترهبه عند رؤياه أو حتى تسمع صوته، بل وكان بعضها يستأنس به فى البرية. وشابه الأنبا أنطونيوس فى ظهور الشياطين له دون أن يرهبها، ومتقشفا مثل الأنبا بولا أول السواح، كان أشبه بملاك يلبس صورة إنسان، عاش بين الناس أكثر من نصف قرن وكان كما من ظهورات الملائكة.

ترهب البابا متاؤس الأول ـ الشهير بالمسكين ـ في دير بالصعيد وهو في الرابعة عشر من عمره وظل راعيا للغنم يصوم معظم الوقت ولا يأكل سوى أقل القليل في الصيف والشتاء، وقد كان أسقف المنطقة يرقبه دون أن يعرف، ولما بلغ الثامنة عشر كرسه قسا راهبا. وهو غير القديس متاؤوس (متى) المسكين الذي من دير الفاخورى بأصفون المطاعنة شمال غرب مدينة أسنا بصعيد مصر، المشهور بصداقته للوحوش.

هرب من الكرامة إلى دير أنبا أنطونيوس دون أن يعلن أنه كان كاهنا وخدم كشماس ولكن الله كشفه أمام أخوته. تارة إذ كان يقرأ الكتاب المقدس خرجت  يد من الهيكل وقدمت له البخور ثلاث مرات واختفت، ففهم الأخوة مكانته الكهنوتية ومستقبل أيامه.

هرب مرة ثالثة إلى القدس واشتغل بتشييد المباني نهارا والعبادة ليلاً. ولما ذاعت فضائله عاد إلى أحضان أب الرهبان ثانية ووصل إلى رئاسة الدير، وأثناء تضييق الخناق على الأقباط كان من نصيبه ومن نصيب الشيخ مرقس الأنطونى القبض عليهما والنقل إلى القاهرة وسط الإهانات والضرب. ولما لم يسمح لهما الحراس بالماء أسعفتهما السماء بمطر غزير وسط الصيف! وحالما وصلا إلى مقر سجنهما صدر الأمر بإطلاق سراحهما فعاد القديسان إلى الدير، وانتقل أبونا المسكين إلى دير المحرق ليعمل أعمال القديسين من غسل وطهى وكنس وخدمة المرضى والشيوخ والزوار. 

حدث في إحدى المرات أن كان أبونا المسكين في خلوته في الصحراء وإذا بضبعه تقترب منه وتقوده إلى حيث لا يدرى وإذا بها تصل به إلى مغارة فيدخلها معها وينظر فإذا بالضبعه الصغيرة ابنة الكبيرة ساقطة في بئر جاف فينزل وينقذها وسط مظاهر فرح الضبعة الأم.

كان الأراخنة والأساقفة يتباحثون في من يعتلي السدة المرقسية، وحالما سمع أن اسمه ذكر هرب واختفى في قاع مركب فأنطق الله طفلا يرشد الباحثين عنه، ولما قبضوا عليه قطع لسانه لكي يظهر ناقصا ولكن الكرامة الإلهية أكملت ضعفه في الحال وعاد لسانه سليما فلم يجد مفرا من القبول بعد استشارة شيوخ الدير، وهكذا انتقل من رعاية الغنم إلى رعاية القطيع البشرى في ملكوت السموات وسط  الضيق، وتمت مراسم السيامة في المرقسية بالإسكندرية في 25 يوليو سنة 1378م.

لم تغيره رتبه البطريركية عن تواضعه ونسكه وسهره وصلواته وخدماته للكل خصوصا الرهبان والراهبات، إذ كان حنانه قويا عليهم كأب. وقد وضع جرسا في منارة القلاية البطريركية بحارة زويلة لينبه به المؤمنين إلى الصلاة ولا يزال هذا الطقس موجودا إلى الآن في الأديرة خصوصا في تسبحة نصف الليل.

مع محبته لشعبه وتواضعه كان يعاون العمال في أدنى الأعمال، لكنه كان مهوبا للغاية. حين يقف أمام الهيكل يسطع وجهه بنور سماوي وتلمع عيناه جدا، متطلعا إلى السيد المسيح الذي كثيرا ما كان يظهر له.

ليس غريبا أن نجد أن المخازن تمتلئ وسط الضيقة والمجاعة وتتحول البطريركية إلى مصدر لإطعام الجميع في مصر دون تفريق، والعجيب أن الذي "أكل خبزي رفع علي عقبه" فكان الذي يشبعون من خير القبط يتحولون  ليخربوا الكنائس.

امتاز هذا البطريرك بالشفافية العجيبة ورؤية الأحداث قبل وقوعها. فقد حذر الرهبان من المجاعة كما حذر كثيرين من سوء أفعالهم. وسقط شماس ميتا عندما كذب وأخفى وثيقة ملكية حديقة ليتامى.

كان صاحب المشورة الصالحة للحاكم ولكل من يلجأ إليه، وقد حدث ذات مرة أن أحد البناءين في كنيسة حارة زويلة وقع من أعلى الكنيسة، ووقع عليه الحجر الذي يحمله فمات، ولما علم البابا رفعه إلى حيث أيقونة القديسة العذراء مريم شفيعته وصلى ورش عليه الماء فكان كل جزء ينزل عليه الماء يتحرك وقام الميت.

حاول الرعاع كالعادة ـ رغم تدخل الوالي ـ أن يحرقوا كنيسة العذراء المعروفة بالمعلقة وكان البابا بالدير، ورموا جمرة متقدة وعندما هم الرهبان بإطفائها ساعدتهم السماء إذ أمطرت بغزارة. وحاول المعاندون مرة أخرى حرق  دير شهران فسارع البابا إلى الدير وواجههم بذاته وحده صارخا: "من منكم له سلطان فليقتلني أولا فهرب الجميع."

كان ساهرا على رعيته، يزورهم ويقضى حاجات المعوزين منهم ويوصى رجال الحكم علي أولاده فنالوا بفضله إكراما وتكريما، ومن كان منهم في ضيقة أمام رئيسه كانت تتحول إلى نعمة بفضل صلواته.

أنكر أحد الرهبان الإيمان وكان عنيفا يفتري علي الرهبان لدى الحكام فسأل البعض البابا أن يدعو عليه، أما هو فقال لهم أنه يدعو له ليرده الله إلى الإيمان ويمنحه إكليل الاستشهاد، وقد تحقق له ذلك.

وهبه الله أيضا نعمة إخراج الشياطين لأن من كان طعامه الصلاة والصوم فالشياطين تخافه.

كان الشعب يأتي إليه للاستشارة في كل أمورهم الخاصة من أجل حكمته السماوية حتى السلطان برقوق لم يقبل السلطنة إلا بعد استشارته، الذي بدوره طلب صلوات الأب مرقس الأنطونى.

لما خلع المملوكان الأميران منضاش ويلبغا السلطان برقوق ونفوه إلى سوريا حاولا أن يعبثوا فسادا في مصر عامة ومع الأقباط خاصة ولم يسلم من أيديهم. قام الأول بتعذيب البابا الذي احتمل بشجاعة أخجلت الأمير. أما الثاني فكان عنيفا في اضطهاده فتحدث معه البابا بشجاعة. فقام بحبسه وأمر بضرب عنقه بالسيف. وإذ قدم البابا رقبته قائلا: "اضرب سريعا" ذهل الأمير وأطلقه. وقد سُجن يلبغا ومات سجينا بالإسكندرية.

لم تنقض فترة وانقلب المتآمرون على أنفسهم وعاد برقوق إلى مصر وسط تهليل الجميع وعلى رأسهم البابا القبطي وكهنته. وعندما أراد السلطان برقوق توطيد العلاقة مع أثيوبيا لم يجد سوى البابا القبطي وسيلة لإحلال السلام، فلم يكتب البابا إلى الملك الذي كان علي العرش، وكان يدعى "ويدم أصغر" وكان شريرا، بل كتب لأخيه داود، وعندما تحير حاملو الرسالة نصحهم بعدم التسرع بالحكم عليه، فلما وصلوا إلى أثيوبيا وجدوا أن الملك المغتصب كان قد عزل وحل محله من كتب إليه البابا الخطاب. ففرح بالرسالة وسألهم: "أين هديتا البابا الصليب والمنديل؟" وإذ تعجبوا كيف عرف ذلك قال لهم أنه رأى البابا داخلا عليه وقد أعطاه صليبا ومنديلا هدية، وقد كانت رسالة البابا إليه بالحقيقة كما رأي في رؤياه.

مات برقوق وتولى ابنه الناصر فرج فسلك مسلك أبيه، لكن الأمير سودون اغتصب منه الحكم، وكان عاتيا، وقد تآمر من رفاق الشر على القضاء علي الأقباط. فاعتكف البابا في كنيسة الشهيد أبي سيفين لمده سبعة أيام بأصوام وصلوات حتى ظهرت له القديسة مريم وطمأنته، فخرج وجهه يسطع كملاك، وإذ طلبه سودون صارحه بكل ما كان ينوى عليه ضد الأقباط ثم أطلقه.

تكرر الضغط على القبط فوجه إلى الأمير العاتي الملاك ميخائيل فأرداه قتيلا. وعندما حاول أمير المماليك جمال الدين الفتك بالبابا شخصيا وأرسل في طلبه صرف البابا الرسل مكرمين طالبا أن يمهلوه إلى اليوم التالي، وعندما عادوا إليه في اليوم التالي كان قد لبي نداء السماء وفاضت روحه الطاهرة. لكن الله سمح بغضب السلطان عبد العزيز بن برقوق على الأمير فأخذ ماله وأمر الجنود بضربه حتى مات.

حسب وصية البطريرك، الذي كان قد أعلن لتلاميذه موعد انتقاله دفن في دير الخندق (الأنبا رويس حاليا)، وكانت فى اليوم الخامس من شهر طوبه.

من العجب أنه في ليلة وفاة البابا سمع من رفات القديسين في دير الأنبا مقار صوت قائل "قوموا افتحوا الباب لأن متاؤس قد حضر."  ولما عرف الرهبان الخبر علموا بالروح أنه انتقل إلى الأمجاد. هذا وقد رؤى البابا يبخر بين الموتى بعد رقاده وكأنه يجول مفتقدا أولاده بعد رقاده، وبالحقيقة فإن خدام الله يخدمونه في كل وقت حتى وبعد انتقالهم، فإنهم أرواح خادمة.

بركة صلواته تكون معنا أمين.

هذا التاريخ هو المذكور فى كتاب تاريخ البطاركة للأنبا ساويرس ابن المقفع وكتاب تاريخ الآباء البطاركة للأنبا يوساب أسقف فوه.