19به:  مار أبرآم القيدونى

كتاب: قديسون باسم أبرآم إعداد الراهب أبرآم السريانى. وقد ذكر قصة مار ابرام القيدونى مار افرآم السريانى  وقد كان معاصراً له ومن وطنه وقد  أحبه مار افرآم جداً لنسكه واتساع قلبه بالحب وشوقه لخلاص كل نفس. وكثيراً ما كان يزوره ويتحدث  معه.

 ولد أبرآم فى مدينة الرها من بيت كريم كثير الغني. هذبه والداه بالثقافة والفلسفة مع التقوى والورع. عافت نفس الصبي كل غنى العالم ومباهجه وإذ أدرك والداه تقشفه الزائد وميله للعزلة، إذ كان يقضى أوقاته في العبادة مع الدراسة والتأمل خشيا أن يتركهما ابنهما المحبوب لديهما إلى الحياة النسكية. فألزماه بالزواج ومن أجل حيائه وتقواه لم يستطع مقاومة والديه، فوجد نفسه قد ارتبط بعروس في الكنيسة.

بقى الوالدان يقيمان الحفلات لمدة أسبوع مثل أهل زمانهم من أجل زواج ابنهما. وقبل أن يتعرف الشاب علي عروسه اتفق معها أنه يريد أن يكون عروساً للمسيح فتسلل ليلاً واختفي وصار الكل يبحث عنه حتى وجدوه بعد غياب 17 يوماً مختفياً فى مغارة خارج المدينة.

حاول السعاة أن يردوه إلي البيت فأبي، إذ وضع في قلبه أن يعيش بتولاً يمارس الحياة النسكية والتعبدية في مغارته التي تبعد عن المدينة بنحو ميلين ولما عجزوا عن إقناعه بالرجوع تركوه ورجعوا إلى مدينتهم. غير أنهم قبل أن يغادروا المكان سألوه عن أي شئ يطلبه منهم فأجابهم بطلب شئ واحد وهو ألا يفتقدوه فى خلوته. فأجابوه إلي طلبه لعلمهم أنه سوف يرحل عن ذلك المكان إلى آخر لا يعلمونه إن خالفوا طلبه.

أغلق القديس باب مغارته ولم يترك غير طاقة صغيرة يتناول منها طعامه وشرابه فى أيام معينة. وكان القديس وقتئذ يبلغ العشرين من عمره ويقال أنه قضى فى توحده ما يقترب من الخمسين عاماً فقد كان مثالاً حسناً للمتوحدين. فكان بسيطاً لا يملك سوى إنائين من الخشب أحدهما للماء والآخر للمأكل. هذا بجانب حصيرة يرقد عليها وثوبه الذى يرتديه، وكان من شعر الماعز وكان يسبح الله بلا هم ولا ثقل ولا فتور وعرف عنه شدة تقشفه ومع ذلك كان وديعاً بشوشاً.

فرح أسقف الرها بهذا الناسك الذى صار بركة للمدينة وتعزية للكثيرين، وسر بناء روحى لنفوس كثيرة. وإذ كان الأسقف متألماً بسبب أهل بيت قيدون فى ضواحى الرها إذ كانوا وثنيين قساة القلب لا يستجيبون لأى عمل كرازى. فألح كثيراً على القديس أن يقبل أن يسام كاهناً ليخدم بين هذه النفوس الوثنية البعيدة عن المسيح. وأمام محبته لخلاص كل نفس قبل السيامة وانطلق إلى المدينة وسط الوثنيين.

لم تكد أقدام القديس تستقر فى تلك القرية حتى بدأ ينادى لهم باسم المسيح ويعلن إيمانه، فتجمع حوله الوثنيون واستهزءوا به ولعنوه بإلهه معلنين عظمة آلهتهم الكاذبة. لكن القديس استمر فى كرازته. فلما رأى الأشرار منه هذه العزيمة القوية، أمسكوه وضربوه بقساوة ووحشية ثم طردوه خارج القرية.

صرف القديس الليل كله مصلياً من أجلهم ومتذللاً أمام الله يستعطفه ويطيل السجود أمامه من أجل هؤلاء الوثنيين حتى يفتقدهم الرب برحمته ويعرفهم خلاصه. وكان يشكر الله لأنه حسبه أهلاً لأن يهان من أجل اسمه. ثم طلب من الله أن يقبل منه ذبيحة جسده وينعم عليه بإكليل الشهادة. مضى الوثنيين فى اليوم التالى لينظروا ما كان من أمر القديس، فتعجبوا لما وجدوه يصلى حيث تركوه لأنهم ظنوا أنه فر خوفاً منهم. أما القديس فكان يعظهم بكلام الحياة لعل قلوبهم تتأثر، ولكن حدث أن اشتد غيظهم عليه فضربوه حتى أشرف على الموت. ثم ربطوه وجروه خارج القرية وتركوا ومضوا. غير أن الله نجاه من أيديهم. فلما أفاق من مرضه وقف يشكر الله ويصلى من أجلهم ثانية!  

ولما ذهب الوثنيون فى اليوم التالى إلى مكان القديس آملين أن يجدوه قد فارق الحياة، فوجدوه واقفاً يرتل بالمزامير وهو مبتهج جداً. فاشتد غيظهم غير أنهم مضوا وتركوه هذا المرة فقد تحيروا من أمره. 

عندما اجتمع الوثنيون ذات يوم لأمر ما تذكروا القديس متعجبين من قوة احتماله وصبره العجيب ووداعته، وكانت هذه فرصة ليعمل الرب فى قلوبهم فاتفقوا جميعاً أن يمضوا إلي القديس. ذهبوا إليه ليسألوه عن سر جمال حياته وكيف احتمل العذاب وسعادته رغم ما ناله منهم. ولماذا قابلهم بهذا الصفح العجيب ، واظهر لهم هذا الحب الكثير؟!

أما القديس فخاف لأول وهله من مقابلتهم، ولما اطمأن إليهم رحب بقدومهم فسألوه عمن هو إلهه فظل القديس يكلمهم ويعظهم بكلام الحياة الأبدية حتى نسوا أنفسهم عنده إلي المساء وكانوا منصتين إلى حديثه المؤثر اللذيذ لأنه كان يكلمهم عن محبة الله للخطاة ومحبة الأعداء. فتأثر بعضهم وانطرحوا أمامه باكين طالبين منه أن يصفح عما أساءوا به إليه وانصرفوا نادمين وكانوا يعودون إليه لسماع كلام الحياة. وأخيراً طلبوا منه أن يعمدهم علي اسم الثالوث الأقدس. فأرسل واستدعي الأسقف الذى لما أحضره عمدهم. وكان عدد الذين عمدهم يزيد على الألف. وأقام القديس بهذه المنطقة بعض الوقت ليثبت الذين تعمدوا على الإيمان، ثم أودعهم إلى نعمة الله ومضى. وعند خروجه من القرية رسم الصليب عليها ثلاث مرات.

عاد القديس أبرآم إلى حياة الوحدة بعد أن اطمأن علي رعيته الذين حزنوا علية وبكاه الكل وسام الأسقف لهم كاهنا يرعاهم. وما كاد القديس يستقر في وحدته حتى سمع أصوات كثيرين يطلبونه وكانوا ملحين في طلبه. فخرج إليهم القديس ففوجئ بأنهم يقدمون إليه طفلة صغيرة لم تتجاوز السابعة من عمرها، هي مريم ابنة اخيه، التي مات أبواها وتركها وحيدة ولم يكن لها أقرباء يمكنهم أن يرعوها. فرأى القديس أن أفضل طريقه للمحافظة على هذه الوديعة هي أن تسكن في الغرفة الداخلية لقلايته، وقد  كانت هناك نافذة بين الغرفتين، ومن خلالها كان يعلمها المزامير وقراءة الكتاب المقدس. وكانت مريم مطيعة لعمها وتتمثل به في أعماله. فكانت تسهر معه في تمجيد الله وترتل المزامير باشتياق وسارت على هذه الطريقة حتى نمت في الفضيلة.

مرت الأيام ووصلت الفتاه إلى سن لا يسمح لها بالبقاء ملاصقة لقلاية القديس، فبنى لها قلاية قريبة منه لتسكن بمفردها، ولم يتركها بدون رعاية منه، غير أنه تعهدها بالصلاة من أجلها. إلى جانب ذلك كان يفتقدها في فترات ليتعرف منها علي احتياجاتها وليزودها بإرشاداته. بقيت الفتاة  في عيشتها الهادئة التي تحبها، وكانت تسأل عمها أن يصلى من أجلها لكي تستمر في تلك الحياة المقدسة. فتقدمت سريعا في سلم القداسة وتثبتت في الأعمال الصالحة. وكم كان سكونها ووداعتها ودموعها وطهارتها وجهودها الكثيرة للإلتصاق بالرب. قضت الفتاة علي هذا الحال عشرين عاما كالحمل الوديع والحمامة الطاهرة العفيفة.

حدث في نهاية العشرين عاما الأولى من عمر الصبية أن ابتدأ الشيطان يثير ضدها حرباً شعواء، وينصب لها فخاخه لاصطيادها حتى تقع في حبائله من جهة، وليعذب عمها الشيخ القديس بالحزن والقلق والحيرة من جهة أخرى، فيشتت عقله. فكانت حروبه  موجهة إلي الاثنين.

أما مريم فكانت تحاربها أفكار محبة العالم، وكانت تستدعي القديس وتخبره عن أتعابها وهو كان يصلي من أجلها كثيراً حتى لا ينشغل عقلها بأي أمر من الأمور الأرضية، لأنها شكت له من أفكار تضايقها بشأن الميراث الذى  تركه لها أبواها (وقد كاناغنيين جدا).

فكان القديس يوضح لها حيل إبليس وكان يطلب من الله أن يرفع عنها ثقل الأفكار الشيطانية. ثم اتفق معها القديس علي كيفية استخدام الميراث حسنا. كما بين لها أن الراهب لا ينبغي أن يكون له مقتنيات، بل بالحري أن  يعمل بيديه ليأكل. وطلب منها أن تنفق أموالها علي الفقراء والمحتاجين وبهذا ارتفعت عنها الأفكار الشريرة.

كان أحد الأخوة يتردد علي القديس أبرآم، فحرك الشيطان قلبه بالشر نحو هذه القديسة، وملأ نفسه بأفكار شريرة. فتحركت فيه الشهوة الرديئة ولم يكشف هذه الأفكار لمرشده الروحي. ويقال أنه ظل علي هذا الحال مدة سنة دبر فيها إبليس  طريقة إسقاطه مع القديسة. أما القديسة فبدأت تفتر في طلب معونة الله، ربما نتيجة أفكار شريرة ولم تخبر عمها خجلاً منه. إلى أن أتى الشاب واستطاع أن يخدعها حتى سقط معه في الخطيئة.

ما إن سقطت الفتاة حتى تمزق قلبها حزناً وندماً إذ أحست بفداحة الخطية فمزقت مسح شعرها الذي كانت ترتديه، وابتدأت تلطم وجهها بيديها وازداد حزنها جداً. فأتاها شيطان الكآبة الذي أحاطها بغمامة من الأحزان ليحول دون تفكيرها في خلاص الرب العجيب حتى يعطل توبتها. وكانت تتمنى أن يدركها الموت سريعا فتتخلص من الخزى والعار. ولقد ملأ الشيطان عقلها بأفكار كثيرة منها اليأس والخزى والعار، وماذا تقول لعمها؟ وبعد أن أوقعها الشيطان في الخطية، أوقعها في قطع الرجاء فيئست من إصلاح سيرتها. وإذ استبدت بها الأفكار جداً قامت مسرعة وذهبت إلى إحدى المدن ولم يدعها إبليس تقف عند هذا الحد بل قصدت أحد بيوت الدعارة لتعيش هناك حيث ظلت به نحو سنتين. وكان القديس أثناءها في حيرة يبحث عنها في كل مكان. كان ينتظرها لعلها ترجع إلى قلايتها إذ كان يظن أنها في خلوة روحية في الجبال. ظل القديس في حيرته وصلواته ودموعه طالباً من الله أن يعرفه مكان ابنته وماذا حدث لها، إلى أن تحنن الرب علي شيخوخته وصبره  إذ عرفه في حلم في رؤيا الليل خبرها. حيث أنه شاهد تنيناً ضخماً والرعب يمشى في ركابه وفي فمه حمامة صغيرة وكان قد خرج من بقعة ما وقفز إلى قلاية القديس، حيث كانت هناك حمامة افترسها ثم عاد إلى مكانه.

 ولما استيقظ  القديس علي أثر ذلك الحلم أخذ يبكى وازدادت حيرته لأنه ظن أن الشيطان ربما أثار الاضطهاد علي الكنيسة وخرج كثيرون عن الإيمان وحادوا عن الطريق لذلك سجد القديس علي الأرض مصلياً بلجاجة قائلا: "أنت أيها الرب الإله العارف بكل شئ محب البشر وحدك عالم بما تعنيه هذه الرؤيا".

بعد يومين من الحلم الأول كان لا يزال ساهراً منذ اليوم الأول مما اضطره إلى الرقاد فنام ورأى في نومه نفس الوحش السابق في حلم وقد دخل القلاية ووضع رأسه تحت مخلبيه وانشق إلى نصفين فوجد الحمامة حية داخله، فمد الأب يده بسرعة وأخرجها من جوفه.

وعندما استيقظ القديس من نومه مضى لوقته إلى قلاية القديسة آملا أن يجدها هناك فناداها أولاً من الخارج قائلاً أيتها الصبية مريم، ما الذى يؤلمك؟ هوذا لك الآن وقت طويل لم أسمع صوت تسبيحك لله. ولما لم يسمع صدى صوته دخل المغارة فلم يجدها ففهم أن هذه الرؤيا تخص القديسة. لذلك صرخ مولولاً ونادباً ابنته قائلا: "الويل لي لأن ذئباً مفترساً قد سرق الحمل، ابنتي الوديعة أُخذت في الأسر". وكان يصلى وينتحب حتى كانت الدموع تخنق كلماته، وكان يستغيث بالله قائلا: "يا مخلص العالم أرجع ابنتي مريم الحمل إلىَّ مرة أخرى واختطفها للحياة الأبدية لكي لا أموت كمداً عليها فتحدر شيخوختي بحزن إلى الهاوية. لا تهمل طلبتي يا سيدي لكن اللهم أسرع وأرسل رحمتك لمعونتها وإنقاذها حتى تردها سليمة من جوف الوحش.

  مضى أسبوع علي الشيخ وكان طواله حزيناً صائماً مصلياً من أجل الفتاة. ثم لما لم يحتمل أكثر من ذلك طلب من أحد أصدقائه القديسين وهو مار أفرآم السرياني أن يبحث معه عن مكان القديسة لعله يأتيه بأخبارها وما انتهت إليه.

وبعد عدة أيام عاد مار أفرام السرياني وأخبر الشيخ بما رآه حيث أنه شاهد الفتاه في منزل لارتكاب الخطيئة. وكان القديس يقرأ في العهد القديم فتوقف عند الآية القائلة: "أنت أشفقت علي  اليقطينة التي لم تتعب فيها فكيف لا أشفق أنا علي نينوى المدينة العظيمة" (يونان 4: 10). فقد أقشعر بدنه من هول ما سمع!! فلم يجب إلا بكلمات قليلة متقطعة.

قال القديس أبرآم لصديقه مار أفرآم السرياني أذهب وأعد لي ملابس عسكرية وحصاناً ولما أحضرها لـه لبسها لوقته وغطى رأسه بقبعة كبيرة تخفى سماته كما حمل معه مبلغاً من المال وقال لـه صديقه: "إلى أين أنت ذاهب؟ فأجابه جاهد معي هذا اليوم في الصلوات من أجلى ومن أجلها فقال له ليكن الله معك.

 يقول القديس مار أفرآم: "ثم رأيته وقد أمتطي الجواد بسرعة وقلق شديدين وانطلق به كما لو كان غازياً يريد أن يتجسس مدينة أو مملكة ليفتحها، ويخشى أن يعرف أمره فيهلك. ثم لم يلبث أن اختفي عن بصره. أما أنا المسكين أفرآم فجثوت علي الأرض منذ ساعة انطلاقه وظللت باسطاً يدي في حزن شديد نحو الآب السماوي وكانت دموعي تهطل علي الأرض وأنا لا أدرى بذلك وقد هالنى ما حدث وتأسفت لأمر الفتاه، كما أثر فيَّ حزن الشيخ وحيرته وجهاده الشديد لخلاصها".

توجه القديس إلى الفندق الذى كانت تقيم فيه ابنة أخيه المفقودة وكانت عيناه ترقبان جميع من في الفندق لعله يجد مريم. مرت الساعات ولم يتيسر للشيخ أن يراها، مما اضطره أن يتصنع المزاح مع صاحب  الفندق قائلاً: "لقد سمعت يا صديقي أنه توجد لديك صبيه جميلة!" فأجاب صاحب الفندق، وهو ينظر إلى هيبة الشيخ ومركزه: "بالحقيقة كما سمعت توجد فتاه تدعى مريم". فقال لـه الشيخ: "إذهب واحضرها مع العشاء". ولما حضرت مريم كانت ترتدى ملابس عديمة الحشمة. فأقشعر بدن الشيخ وتفككت كل أعضاء جسمه من الآسي والحزن، لكنه جاهد وأخفى مشاعره مقاوماً دموعه، وذلك لئلا تكشف الفتاه أمره فتهرب.

ابتدأ القديس يرفع من داخله صلاه من أجل الفتاه التي قامت واقتربت من الشيخ، فلمحت المسوح التي كان يرتديها تحت الملابس العسكرية، كما اشتمت رائحة البخور ورائحة عرق النسك المقدس. فوقفت الفتاة جامدة لا تقدر علي الحركة لأنها ثارت فيها حياتها الأولى وتأثرت بصلاة الشيخ وهطلت دموعها وصرخت بدون وعي قائلة: "الويل لي لأني أتعس كل البشر". لقد تذكرت الفتاة أيام عفافها وأثرت فيها رائحة القداسة التي لهذا القديس..

أما صاحب الفندق فقال لها وهو مذهول من الموقف: "يا مريم ما الذي يؤلمك حتى تنفرين هكذا بالبكاء؟ لأن لك الآن مدة طويلة لم يُسمع منك تنهداً ولا أنيناً". أجابت الفتاة: "كنت أبقى سعيدة للغاية لو أنني تركت العالم مدة طويلة". 

وهنا تدارك القديس الموقف فخشى أن ينكشف أمره. فابتدأ يحول فكرها عن هذا الحديث المحزن وكان في أعماق قلبه يصلى، وبعد أن انتهي القديس من صلاته أخرج قطعة نقود ذهبية من جيبه وصرف بها صاحب الفندق قائلاً: "أعدد لنا عشاء فاخر لنسلى هم هذه الفتاه لأنني أتيت من سفر بعيد". وقد أكل القديس مع الفتاه لكي ما يخلص نفسها من مخالب الأسد ويطلقها من أسر اليأس والشعور بفقدان الأمل في إصلاح سيرتها.

أستغل الشيخ الفرصة وابتدأ يخاطب نفسها قائلاً: "يا قديسة يا ابنة المسيح هل أنت مسرورة ومقتنعة بما أنت فيه!! أو أنك غير فاهمة؟ لقد كنت كل أيامك ترقدين علي الحصير فكيف ترقدين على هذا السرير.. ! انظري لقد أتيت وتحملت هذه الأتعاب وأكلت وشربت معك، كل هذا لكي أعرفك كم يحب الرب رجوعك، ويعمل لكي ما ترجعى إلى رتبتك الأولى وتخلُص نفسك التائهة. ثم أعقب كلامه بصوت معروف لها (يا ابنتي مارى). ثم جذبها من يديها خالعاً قبعته التى كان يرتديها ثم قال لها يا ابنتي ألم أكن أنا الذى ربيتك. ما الذى أفسدك؟ وكانت كلماته مختلطة ببكاء مر. وكانت الفتاة تسمع هذا الكلام وهى جامدة كالحجر من الخوف والخزى.

قال لها القديس: "لماذا لم تخبريني عندما أخطأت بأمرك حتى تركت نفسك في يدي الذئب المفترس ليفترسك هكذا !! كيف أوصلت نفسك إلى هذه الخسارة الفادحة".

وعاد الأب يبكى بحرقة وهو يقول: "دعي عنك هذا الحمل واتركي هذا الآثم لمن هو قادر وحده أن يحتمل عنا، واتركي تعب  الطريق علىَّ فسوف أحتمل عنك تعب الصوم والجهاد حتى ترجعى إلى رتبتك الأولى".

وظل القديس يكلمها ويعزيها إلى منتصف الليل، حتى أقامها من بالوعة اليأس والكآبة التي حلت بها، فتشجعت الفتاة رويداً رويداً حينما أحست بمحبة الشيخ العميقة لها والتي كانت تعكس لها محبة الرب للخاطئ الراجع، فتجاوبت معه أخيراً. وكانت كلماتها تنساب من فمها كأنها تنزلق مع دموع التوبة فقالت: "لا أستطيع يا أبى أن أنظر إلى وجهك من فرط خزيي وعاري، بل كيف أرفع عينيي الشريرتين إلى السماء نحو الله وأنا ملوثة بكل الأوحال الدنسة؟!"

وأخيرا أخبرت القديس بخطاياها، حينئذ قال لها الشيخ كاشفاً عن عظمة سر الاعتراف، "خطيتك عليَّ أنا يا ابنتي أنا يا ابنتي أنا المسئول عنك أمام الله. وهلم بنا الآن نعود إلى البرية وأرجو أن تكوني مؤمنة بمراحم الله ومواعيده الثابتة في قبول الخاطي الراجع". فأجابته والانسحاق يملأ نفسها والخزي يغطى وجهها: "إذ كنت واثق أنني أستطيع أن أتوب وأن الله سوف يقبل توبتي سأعود معك كما تأمرني". ثم أنها لما انتهت من كلامها المر، ارتمت تحت رجليه باكية، وكانت دموعها تندفع بغزارة من عينيها كأنها مياه محجوزة منذ زمن طويل، واجتاحت نفسها موجة من الخشوع ولكنها مع ذلك كانت تشعر بالراحة والتعزية.

قال لها القديس: "ليس بالجديد أن تميل طبيعتنا إلى الخطية، بل الغريب أن نبقي في خطايانا بعدما سقطنا". ثم أقامها ماسكاً بيديها وقاما مسرعين قبل أن يطلع النهار وانصرفا من الفندق.

كانت الفتاه تتباطأ جداً، ولولا دفع الشيخ لها بقوة ما كانت قد خرجت معه بسرعة. ثم احتجت له بأن لديها بالفندق بعض الذهب والملابس التي اكتسبتها من الخطية. فقال لها القديس ينبغي أن تتركي هذه الأمور لكي تكمل توبتك لأنها اكتسبت عن طريق الشر، كما أنها تذكرك بحياة مريم الشريرة. ثم أردف قائلا لنترك ما وراء وهلمى بنا، ثم اركبها علي جواده وانطلقا معا.

رجعت الفتاة إلى مغارتها وهناك أمضت بقية حياتها في انسحاق وخشوع ودموع في الصلوات تبكى خطاياها وآثامها لأن الرجاء بدأ يملأ قلبها والانسحاق بدأ يعود إليها. فبدأت تمارس التوبة مع النسك والاتضاع والدموع .

عاش القديس إبراهيم، بعد رجوع ابنة اخيه إلى حظيرة الخراف، وبعد ما رأي صدق توبتها ومجد اسم الرب فيها ففرح ورقد في الرب بسلام بالغاً من العمر 85 عاما وكان ذلك في 29 أكتوبر الذى يوافق 19 بابه .بركة صلاته تكون معنا .أمين

عاشت القديسة بعد نياحة عمها خمس سنوات في سهر ويقظة دائمة مواصلة الليل بالنهار في صلاة وانسحاق أمام الله لعله يقبل توبتها ودموعها. وكان كل من يعبر أثناء الليل علي مغارتها ويسمع صوت البكاء يتحول هو الآخر إلى البكاء من فرط تأثره. وأعطاها الرب علامة غفران خطاياها، فأنعم عليها بمواهب شفاء في نهاية أيامها فكان المرضى يأتون إليها وكانت تصلى إلى الرب من أجلهم فينالون الشفاء. وظلت هكذا حتى دنت ساعة انطلاقها من العالم، فكان وجهها يضيء كالمصباح، وانطلقت إلى مكان الأبرار.

بركة صلاة هذه القديسة فلتكن معنا آمين.

يختم لنا القديس مار أفرآم السرياني كاتب السيرة بهذه الصلاة:

"أما أنا أفرآم فحالما كتبت كل ما حدث من أمر هذه القديسة، وضعت قلمي وجثوت  أمام الله صارخا قائلا الويل لي أنا المسكين. إن أولئك المحبوبين انطلقوا من العالم ونفوسهم متقدة بالله، أما أنا فقد هجم عليَّ الشتاء وهبت العواصف وأنا عريان… إنى متعجب من نفسي كيف أتوب ثم أخطئ. أبني وفي المساء أنقض ما بنيت. في المساء  أصمم علي التوبة وإذا ما أتى الصباح أصرف نهاري  في اللهو. أرجو الرب بدموع أن يغفر زلاتي وأعده بأن أسهر علي  حياتي وفي وقت الليل أثقل بالنوم. ويلي لأن أولئك تاجروا بالوزنات وأنا خبأتها في الأرض. هؤلاء كانت لهم فرصة التوبة أما أنا فربما لا يكون لي. لذلك ارحمني يارب وخلصني أيها الشفوق وحدك محب البشر، فأنا لا أعرف آخر سواك. أخرج نفسي من حبس الخطية. احمني تحت أجنحتك في ذلك اليوم العظيم المخوف آمين".

وللقديس مارأفرام السريانى مرقاة (منظومة سريانية  ملحنة ) مستوحاه من توبة مريم ابنة أخت مارابراهيم قام بترجمتها إلى العربية غبطة مار أغناطيوس زكا عيواص:

"مبارك هو المسيح الذى يفتح باب رحمته للخطاة التائبين، ألا فلأتنهد باكية على حياتى!

الويل لى، ماذا أصابنى؟ وكيف سقطت؟ يارب  ارحمنى…

لقد اختارنى ابن الملك (السماوى) ودعانى لأفرح بوليمته، إلااننى فضلت فرح البشر. فيارب ارحمنى.

          ويلاه ! فإن الدير الذى اتشحت فيه بالاسكيم الرهبانى يندبنى الآن،

          وإن الشيخ الذى ألبسنى الاسكيم ينتحب علىَّ بحزن عميق،

          أه منك أيها الشرير ماذا  فعلت بى؟!

          لقد  نزعت عنى الاسكيم المقدس، وارتديت حلة زانية…

          الويل لى… يارب ارحمنى…

          لقد نسيت مطالعة الكتب المقدسة، فالويل لى.

          وأبدلتها بصوت مزمار منكر. فيارب ارحمنى.

          ويلاه! فقد  كنت حمامة طاهرة ووديعة،

          وسقطت بين شدقى إبليس، وصرت له لقمة سائغة،

          آه منك أيها الشرير ماذا فعلت بى؟!

          أيها العلىّ الذى طأطأ سماء مجده ونزل إلى الأرض لينقذ الغرقى أمثالى،

          انتشلنى من هوة  الظلام التى سقطت فيها،

          آه ارحمنى يارب.

          السماء والأرض ترجوانك من أجلى يارب…