15 توت: القديسة أفروسينا راهبة الاسكندرية

عن كتاب: القديسات الناسكات أكسانيا وإفروسينا وأثناسيا . وهذه السيرة مأخوذة عن كتابات القديسن جيروم وميتافراستس.

 فى أيام الإمبراطور ثيئودوسيوس الصغير فى أواخر القرن الرابع، كان يعيش فى مدينة  الإسكندرية رجل اسمه بفنوتيوس، وكان غنياً وذو شأن كبير. وكان بفنوتيوس يخاف الله ويحفظ جميع وصاياه داخل قلبه، ويعمل بها حتى يفرح الله. وكانت زوجته أيضاً تقية وصالحة وتحب الله ولكنها كانت عاقراً، لذلك كانا الزوجين حزينين جداً لعدم وجود وريث لهما ولكل ممتلكاتهما التى سيتركونها بعد انتقالهما.

لذلك كانا دائماً فى حالة حزن، ولكنهما استمروا فى الصلاة لله حتى يرزقهما بنسل صالح، فكانا يتصدقان بأموال كثيرة للفقراء وللكنائس وللأديرة، ولم يكفا عن الصوم والصلاة. وفى يوم ذهب بفنوتيوس إلى دير، وكان قد سمع عن رئيسه أنه رجل قديس فأخذ معه أموالاً كثيرة وذهب ليتحدث مع رئيس الدير ويشكو له أحزانه من عدم الإنجاب.

وعندما وصل بفنوتيوس إلى الدير وقابل رئيسه طلب منه أن يصلى لـه هو وبقية الأخوة فى الدير حتى لو أمكن أن يتحنن الله عليه ويعطيه نسلاً صالحاً، وسمع الله هذه الطلبات والصلوات، وأعطاه ابنة جميلة. فمجدوا الله بميلادها وعمدوها وسموها "إفروسينا ". بعد هذا استمر بفنوتيوس يزور الدير وكان على صلة حب عظيمة مع رئيس الدير، لأنه كان رجلاً يتكلم بحكمة ووقار، ولأنه صلى لأجله من أجل الشئ الذى كان يتمناه طوال حياته.

بعد ميلاد إفروسينا باثني عشرة سنة توفيت الأم فتعلق بها والدها تعلقاً شديداً، واستمر بفنوتيوس يعلم ابنته فى الكتاب المقدس، أما هى فقد كانت مجتهدة فى القراءات المقدسة فتقدمت فى النعمة كثيراً. ولما زاع صيتها فى كل الإسكندرية من حيث جمالها وصفاتها الحميدة، فتقدم لها كثير من الشبان الأثرياء والشرفاء للزواج منها. وكان بفنوتيوس يجيب على كل منهم: "لتكن مشيئة الله".

حينئذ تقدم رجل شريف يطلب من بفنوتيوس ابنته إفروسينا لأبنه، وكان هذا الرجل غنياً وذو صيت حسن، وأعلى مرتبة من الآخرين، فاستجاب لطلبه، واتفقا على ميعاد زفافهما، وقبل مجئ هذا الموعد أخذ بفنوتيوس ابنته وتوجها إلى الدير وهم حاملين هدايا للأب الذين أحبوه كثيراً. فقال بفنوتيوس للأب: "أبى المبارك قد أحضرت لك ابنتى نتاج صلواتك حتى تصلى لها لأننى قررت أن أزوجها". فبارك الأب إفروسينا وجلس مع بفنوتيوس يتحدثون عن أمور نافعة للروح. ونصح الفتاة بأمور كثيرة عن الطهارة والنقاء والاتضاع وخوف وحب الله وحب الفقير، فوضعت إفروسينا التى كانت فى الثامنة عشر من عمرها هذا الكلام فى قلبها، لأنها كانت حكيمة ومتزنة. وطلب رئيس الدير منهم أن يظلوا فى ضيافة الدير، فاستمروا هناك ثلاثة أيام، وفى خلال هذا الوقت عكفت إفروسينا على القراءة والمشاركة فى الترتيل بالكنيسة ورأت وتعجبت من عمل الرهبان وطريقة حياتهم وقالت فى نفسها: "مباركين هؤلاء الرجال لأنهم يشبهون الملائكة وفى الحياة القادمة أيضاً سيسكنون مع الملائكة". وبدأ قلبها يمتلأ بالغيرة السمائية وتمنت أن تتمثل بنفس طريقة حياتهم المقدسة.

وبعد ثلاثة أيام قال بفنوتيوس لرئيس الدير: "ائذن لنا يا أبى أن نغادر الدير ونعود إلى المدينة". فارتمت إفروسينا تحت قدمى رئيس الدير وقالت لـه: "أرجوك يا أبى صلى لله حتى يخلص روحى". فبارك الأب إفروسينا قائلاً: "يا إلهى الذى يعرف كل إنسان منا حتى قبل ميلاده بارك ابنتك التى بين يديك واعطها سؤل قلبها".

وفى يوم من أيام عيد تذكار الدير أرسل رئيس الدير إلى بفنوتيوس يستدعيه أن يحضر إلى الدير فى هذا اليوم حتى يحتفلوا معاً. وعندما وصل الراهب الذى أرسله رئيس الدير إلى منزل بفنوتيوس سأل عليه فأجابته الخادمة: "أنه ليس هنا بل ذهب لمكان ما". ولكن عندما سمعت إفروسينا أن راهباًَ أتى إلى بيتهم استقبلته وبدأت تسأله قائلة: "أجبنى من أجل محبة الله كم راهباً فى ديركم؟" فأجابها: "ثلاثمائة واثنين وخمسون راهباً". فسألته: "إذا أراد أحد أن يأتي إلى ديركم ويعيش معكم هل يوافق رئيس الدير؟" فأجاب: "بكل تأكيد سيقبله فرحاً طاعة لكلام الرب من يأتى إلىَّ لا أخرجه خارجا ً". فسألته إفروسينا: "هل تتقاسموا الخدمة سوياً؟ وهل يصوم كل منكم حسب قوته؟" فأجاب الراهب: "نعم إننا نخدم سوياً وكل منا يصوم حسب مقدرته".

وبعدما سألته عن كل التفاصيل التى تتعلق بالدير، قالت لـه: "أريد أن أدخل فى مثل هذه الحياة لكنى أخاف عدم طاعة أبى حيث أنه يريدنى حسب طقوس هذا العالم الفانى أن أتزوج". فأجاب الراهب: "يا ليتك تكرسى حياتك للمسيح لـه المجد، فلو ضحيت بهذا العالم الفانى لأجله فسيمنحك أن تسكنى مع ملائكته القديسين فى ملكوت السموات. وإذا أردتِ فيمكنك أن ترحلى سراً وتذهبى للدير ولكن ضعى ملابسك وممتلكاتك الشخصية فى خزينة الدير حتى تتقصى عن الحياة الرهبانية وتتعرفى عليها أولاً". فلما سمعت الفتاة هذا الكلام فرحت جداً وشكرت الراهب وسألته: "كيف أذهب إلى الدير ومع من؟". فقال لهـا: "سيذهب أبوكِ معى إلى الدير ويبقى فى الدير ثلاثة أو أربعة أيام وأثناء رحيله فإنى أستدعى راهباً وهو يساعدك بفرح". وبينما هم يتكلمون دخل بفنوتيوس فقال للراهب: "لماذا تعبت نفسك يا أبى وأتيت إلى هنا؟". فأجاب الراهب: "عيد تذكار الدير قد أتى ورئيس الدير يطلب منك أن تأتى وتُعيد معنا بتذكار الدير لتأخذ بركة".

فلما سمع بفنوتيوس هذا فرح جداً وأخذ معه هدايا كثيرة من منزله لكنيسة الدير ولاحتياجات الآباء هناك وذهب مع الراهب إلى الدير. وأثناء إقامته هناك طلبت إفروسينا من خادمة كانت تثق فيها قائلة: "إذهبى إلى دير ثيؤدوسيوس وادخلى الكنيسة وأتى بالراهب الذى تجدينه هناك". فذهبت الخادمة وبتدبير الله وجدت راهباً كان ذاهباً ليبيع أعمال يديه، فطلبت منه الخادمة أن يرافقها إلى بيت سيدها. فقام وذهب معها، فلما رأته إفروسينا سجدت أمامه قائلة: "صلى لأجلى يا أبى". فصلى لها الراهب كالعادة وباركها وجلسوا.

بدأت إفروسينا تقول لـه: "يا سيدى .. أبى مسيحى وخادم أمين لله وغنى جداً ولكن أمى رحلت عن هذا العالم، وأبى يريد أن يزوجنى حتى لا تتبدد أمواله، ولكنى لا أريد أن أفنى نفسى فى هذا العالم الزائف، وفى نفس الوقت أخاف أن أعصى والدى فماذا أفعل؟ ظللت طوال الليلة الماضية أصلى ليرحم الله روحى، وعندما ظهر نور الصباح قررت أن أرسل خادمتى لكنيسة دير ثيؤدوسيوس لأطلب معونة أحد الآباء حتى اسمع منه ليرشدنى ويعلمنى ماذا أفعل. لذلك أتوسل إليك يا أبى أن ترشدنى على طريق الله لأننى متأكدة أن الله قد أرسلك إلىَّ. ففتح الشيخ فمه قائلاً: "قال المسيح فى الإنجيل إن كان أحد يأتى إلىَّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده واخوته حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لى تلميذاً. (لوقا 14: 26) أنا لا أستطيع أن أقول أكثر من هذا الكلام، فإذا كنتِ تقدرين على صد إغراءات الجسد، إذاً اتركى كل شئ واهربى من هذا العالم مثلما فعل شعب إسرائيل من أمام فرعون. إن أبوكِ لـه ورثة كثيرين؛ الكنائس والأديرة والمستشفيات وأماكن ضيافة الغرباء والأيتام والأرامل والذين فى السجون. يستطيع أبوكِ أن يوزع ممتلكاته على من يريد.

فأجابت الفتاة: "أنا أثق فى الله وفى صلواتك. أنا أريد أن أكرس نفسى لأحيا حياة روحية". فقال لها الشيخ: "لا تتأخرى فى تنفيذ هدفك لأن الذين يؤجلون أعمال البر يتراجعون فى فعلها فالآن هو وقت الخلاص والتوبة".

فقالت إفروسينا: "لهذا اتعبتك يا أبى وأتمنى أن تحقق لى أملى فى أن تصلى لى وتباركنى." فقام الشيخ ووضع يده عليها وباركها وصلى لها قائلاً: "يا الله الذى أنعم بخلاصه على جميع قديسيه احفظ عبدتك هذه من كل شر". وبعد ما قال هذا رحل وهو يسبح ويمجد الله.

بدأت إفروسينا تفكر فى نفسها: "لو ذهبت إلى دير من أديرة الراهبات سيبحث أبى عنى ويجدنى وسأضطر أن أترك الدير وأتزوج، وأنقض عهدى، لذلك سأذهب إلى دير للرجال حيث لا أحد يعرف طريقى".

وبعد ما قررت هذا لبست إفروسينا ثوباً رجالياً وخرجت من البيت سراً فى منتصف الليل، وأخذت معها خمسون قطعة من الذهب، وسارت مسافة طويلة ثم أخفت نفسها بقية ساعات الليل. وفى صباح اليوم التالى رجع أبوها إلى المدينة، وبتدبير من الله وبدلاً من أن يعود إلى البيت ذهب إلى الكنيسة فأعطى لإفروسينا بذلك وقتاً أطول حتى تصل إلى الدير. وعندما وصلت إلى المدخل طرقت الباب وقالت لحارس الباب: "إذهب واخبر رئيس الدير أنه يوجد خصى آتى من قصر الإمبراطور ينتظر بالباب ويريد أن يتكلم مع قداستك".

فلما خرج الأب انحنت إفروسينا إلى الأرض أمامه وطرحت نفسها أمام وجهه، فأقامها وصلى بطريقته المعتادة وجلس وبدأ يسألها قائلاً: "لماذا أتيت إلينا يا ابنى؟". فأجابت إفروسينا: "يا أبى .. أنا خصى يعيش فى قصر الإمبراطور، أحببت حياة الرهبنة ولم أجد فى المدينة ديراً يلائمنى سوى ديركم، وعندما سمعت عن حياة قداستكم جئت آملاً فى أن أعيش معكم".

فقال لها الأب: "حسناً إنك أتيت يا بنى. الدير مفتوح لك إذا إردت البقاء معنا". ثم سألها: "ما اسمك؟" فأجابت إفروسينا اسمى ازماراجدس . قال الأب: يا ابنى ازماراجدس أنت صغير السن ولا تقدر أن تعيش بمفردك فى القلاية، من المهم أن يكون لك مرشد ومعلم حتى يعلموك قواعد وعادات الحياة الرهبانية". أجابت الفتاة: "كما تأمر يا سيدى". وأعطت الخمسون قطعة من الذهب إلى الأب قائلة: "خذ هذا يا أبى وان استمريت فى هذا الدير سأعطى الدير جميع ممتلكاتى التى فى المدينة".

فطلب الأب من أحد الرهبان وهو أغابيتوس  وهو رجل قديس وعظيم فى الفضيلة، وقال لـه: "استلم هذا الشاب، اعتبره ابنك وتلميذك، علمه وأدبه بالآداب الروحانية".

وبعدما ركعوا وصلوا، رشم الأب علامة الصليب على ازماراجدس وقالوا آمين. فأخذ أغابيتوس ازماراجدس إلى قلايته وبدأ يعلمه الحياة الملائكية.

كان ازماراجدس جميل الطلعة جداً حتى أن الشيطان دخل فى قلب بعض الأخوة بأفكار شريرة تجاهه، لذلك تجمع الرهبان حول الأب قائلين لـه: "لماذا أدخلت هذا الشاب للدير؟ وقد اشتكى منه بعض من الرهبان الضعاف".

عندما سمع الأب هذا الكلام استدعى ازماراجدس وقال لـه: "أنت يا ابنى جميل الوجه، ولا يجب أن يراك الرهبان ضعاف النفوس. أريد أن تبقى بمفردك فى قلايتك، وصلى صلاتك هناك ولا تأتى فى وسط الجماعة وسيعتنى بك مرشدوك ويحضرون لك الأكل هناك ولا تخرج من القلاية".

أجاب ازماراجدس: "سأفعل ما أمرت به يا أبى"، فطلب الأب من أغابيتوس أن يهئ القلاية التى سيجلس فيها ازماراجدس. ففعل أغابيتوس كما طلب منه الأب. وأخذ ازماراجدس إلى قلايته الخاصة، وهناك اعتكف ازماراجدس بالصلاة والصوم، وكان يخدم الله ببساطة قلب نهاراً وليلاً حتى تعجب منه معلمه أغابيتوس وقص على بقية الرهبان أعمال ازماراجدس، فمجدوا الله جميعاً على القوة التى أعطاها لمثل هذا الشاب صغير السن.

ولما رجع أبو إفروسينا إلى المنزل، أسرع إلى حجرة ابنته فلم يجدها هناك، فشعر بالحزن والأسى وبدا يسأل الخدام وحراس المنزل عما حدث لها وكان متأثراً جداً ويريد أن يعرف أين ذهبت. فقال الخدام أنهم رأوها بالأمس أما اليوم فلم يرها أحداً، وظنوا أن أبو عريسها قد جاء وأخذها إلى منزلهم.

أرسل بفنوتيوس مرسالاً إلى منزل خطيب إفروسينا، ولكنه لم يجدها هناك، وعندما سمع خطيبها وأبوه عما حدث حزنوا جداً، وذهبوا إلى بفنوتيوس فوجدوه فى حزن شديد جالساً على الأرض يبكى فقالوا لـه: "ربما أحد أغواها وأخذها معه".

أما الخدم فقاموا يبحثون عنها فى جميع أرجاء الإسكندرية، خرجوا إلى الطرقات العامة، فتشوا فى منازل جيرانهم، سألوا عنها فى كل السفن الراسية على الميناء، سألوا عنها فى كل أديرة الراهبات. امتد البحث فى كل الحقول بل والصحراء والجبال، فى كل الكهوف أملاً أن يجدوها ولكن بدون جدوى. فرجعوا إلى المنزل وهم متأسفين عليها باكين كما لو كانت قد ماتت. بكى خطيبها عليها وأيضاً، حماها كان حزيناً عليها جداً كما لو كانت ابنته. أما بفنوتيوس فكان يبكى عليها كما بكى يعقوب على ابنه يوسف بمرارة. كان يصرخ قائلاً: "وا أسفاه على ابنتى الحلوة.. وا أسفاه على نور عينى وعزاء روحى، من سرق منى كنزى، من انتزع عنى غناي، من أخذ منى كل مالى، من أطفأ مصباح حياتى. لقد كانت ابنتى الجميلة هى سندى فى شيخوختى وعزائى فى حزنى، ليت جسدى لا يتوارى فى الأرض إلا بعد أن أعرف أين ذهبت ابنتى إفروسينا".

لم يجد بفنوتيوس عزاءً فى حزنه، فذهب إلى الدير الذى كانت ابنته تعيش فيه وتقيم صلواتها. وعندما رأى الأب وقع عند قدميه باكياً وهو يقول: "يا أبى قد اختفت ابنتى ولا أعرف هل اختطفها أحد، وأنا أطلب منك أن تصلى حتى نجد ثمرة الصلاة ويعلمنا الله أين طريقها". فلما سمع الأب هذا الكلام اضطرب جداً وجميع الرهبان أيضاً، وقال لهم: "لأجل المحبة يا أخوة صلوا لله، حتى يعلمنا ماذا حدث لأبنة صديقنا بفنوتيوس".

فصام كل الرهبان وصلوا لمدة أسبوع، ورغم أنه فى بعض الأحيان كان الله يعلن لهم برؤيا عن الأشياء التى يريدون أن يستفسروا عنها، إلا أنه فى هذه المرة لم يعلن لهم الله شئ، لأن صلاتها كانت أسمى من صلواتهم جميعاً. فلما لم يعلن لهم الله شئ عن غياب إفروسينا حاول الأب أن يعزى بفنوتيوس وقال لـه: "يا أبنى لا تحتقر تأديب الرب ولا تخر إذا وبخك لأن الذى يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله. (عبرانيين 12: 5) لأنه حتى الطائر لا يسقط على الأرض إلا بأمر الله. لذلك لن يحدث شئ لإفروسينا إلا بإرادة الله. ولا شئ يحدث بدون أمره، لذلك أنا أعتقد أن ابنتك قد اختارت شيئاً صالحاً، ولأجل هذا لاسبب لم يعلن لنا الله أى شئ يتعلق بها. ولو ـ لا قدر الله ـ قد سقطت فى خطية فإن الله لن يضيع تعب كل هؤلاء الرهبان وبالتأكيد كان قد أعلمهم أى شئ عنها. وأنا أثق فى الله أنه فى وقت معين سيعلن لك عن طريقها".

فتعزى بفنوتيوس عندما سمع هذا الكلام من الأب، وعاد إلى البيت شاكراً الله. وكان فى كل يوم يصلى ويعمل أعمال صالحة ويعطى مساعدات للمحتاجين.

بعد عدة أيام ذهب بفنوتيوس إلى الدير يسأل أن يصلى الرهبان عنه. وسجد أمام الأب قائلاً: "صلى لأجلى يا أبى لأنى لا أستطيع أن أتوقف عن الحزن على ابنتى، وما زالت روحى تؤلمنى وجرح قلبى يزداد مما يزيد ألمى يوماً بعد يوم.." فرأى الأب مدى الحزن العميق الذى فى قلب بفنوتيوس، وأراد أن يعزيه بأى طريقة ممكنة. وبينما هو يتحدث معه فكر فى ازماراجدس وقال: "من بين الرهبان يوجد أخ جاء من قصر الإمبراطور ثيؤدوسيوس، وهو رجل قديس وحياته تُعتبر قدوة لنا جميعاً. أتريد أن تتحدث معه حتى يرتاح قلبك؟ إنه ممتلئ بروح الله". فأجاب بفنوتيوس بالإيجاب، فطلب الأب أغابيتوس قائلاً "خذ بفنوتيوس ليتحدث مع ازماراجدس. فذهب أغابيتوس وبفنوتيوس إلى قلاية ازماراجدس. فلما رأت إفروسينا أباها جرت الدموع من عينيها، فاعتقد بفنوتيوس أنه بكى حزيناً عليه، ولم يتعرف الأب على ابنته لأن جمالها ونضارتها كانت قد اختفت من كثرة التقشف والسهر الذى كان يمتد طوال الليل. غطت إفروسينا وجهها بالشال حتى لا يتمكن أبيها من أن يتعرف عليها. بعدما صلوا جلسوا وبدأ ازماراجدس يتحدث لبفنوتيوس فيما يتعلق بالملكوت السمائى وحياة المجد الأبدى الذى سيناله الإنسان باتضاعه ونقاءه وقداسته وعطاءه وحبه. تكلم أيضاً عن العالم الفانى وكيف أنه لا يجب أن نحب أولادنا أكثر من الله الذى خلقنا جميعاً، ورددت كلام بولس الرسول: "الضيق ينشئ صبراً والصبر تزكية والتزكية رجاء. (رومية 5: 3، 4)

ولما رأت ازماراجدس أن أبيها حزين جداً عليها أرادت أن تعزيه فقالت لـه: "صدقنى إن الله لن يتركك، لو كانت ابنتك قد سلكت بطريق الخطأ كان الله قد أعلن للآباء القديسين الذين صلوا بقوة من أجل هذا الأمر، ولكن  أنا اثق فى الله أن ابنتك قد أطاعت الله الحاكم الصالح الذى قال فى إنجيله: "من أحب أباً أو أماً أكثر منى فلا يستحقنى" (متى 10: 37) ، و"كل أحد منكم لا يترك جميع أمواله لا يقدر أن يكون لى تلميذاً" (لوقا 14: 33). الله قادر أن يعلن لك عن طريقها وإذا كانت هذه إرادته فلابد أن تتوقف عن الحزن والأسى. إنك تكاد تقتل نفسك من كثرة حزنك. اشكر الله على كل شئ ولا تفقد الرجاء، عندما علمت بمجيئك إلى الدير من معلمى أغابيتوس صليت لك أنا ايضاً بكل قوتى حتى ينظر الله لك فى هذا الموضوع ويعطيك أنت وابنتك المنفعة ويريحك، وأنا أثق فى الله رب كل عزاء لأنه لن يتركك فى حزنك ولكن فى وقت معين سيعلن لك ما حدث لابنتك التى حزنت لأجلها كثيراً".

وخافت أن تطيل فى حديثها أكثر من هذا حتى لا يتعرف عليها ثم قالت إفروسينا لأبيها: "ارحل الآن فى سلام يا سيدى".

شعر بفنوتيوس بالاطمئنان بما قاله ازماراجدس، وكان كلامهما قد أعطاه منفعة عظيمة وتعزية، فذهب إلى الأب الرئيس وقال لـه: "الله وحده يعلم يا أبى مقدار النعمة التى أخذتها من هذا الأخ، بنعمة الله كلماته ملأتنى بالفرح وأحسست كما لو أننى وجت ابنتى المفقودة". ورجع بفنوتيوس إلى بيته بعدما طلب من كل الآباء الصلاة لأجله.

استمر ازماراجدس فى هذا الدير مدة ثمان وثلاثون سنة، وهو يعيش عيش الملائكة وفى النهاية مرضت وكانت تحتضر وقبل أن تموت حضر بفنوتيوس إلى الدير حتى يصلى ويزور الرهبان. وبعدما تحدث كالعادة مع أب الدير قال لـه: "هل يمكننى يا أبى أن أرى الأخ ازماراجدس لأن روحى متعلقة به كثيراً".

فاستدعى الأب أغابيتوس وقال لـه خذ بفنوتيوس إلى قلاية ازماراجدس. فلما دخل بفنوتيوس قلاية ازماراجدس وجده راقداً فى فراشه مريضاً جداً، فوقع أمام فراش ازماراجدس وهو يبكى وينوح: "وا أسفاه ماذا حدث لكلماتك الحلوة؟ أين هى وعودك التى تريحنى قائلاً إننى سأرى ابنتى الغائبة؟ إننى لن أراها هى وحسب بل لن أراك أنت أيضاً، من يستطيع أن يقدم إلىَّ التعازى، وا أسفاه من سيريحنى فى شيخوختى يا إلهى؟ لمن أذهب لتتعزى نفسى الآن؟ أنا أبكى الآن لأن مصيبتى أصبحت اثنتين. مدة ثمان وثلاثين سنة لم أر ابنتى ولم أسمع عنها شيئاً أبداً، والآن سأفقد ازماراجدس الحبيب الذى فرح قلبى وأشعرنى كأننى وجدت ابنتى المفقودة. لماذا أنتظر الآن؟ أين أجد عزائى؟ إننى أكاد أغرق فى حزنى!".

فلما وجده ازماراجدس غارقاً فى حزنه قال لـه: "لماذا تيأس ولماذا تقتل نفسك من الحزن، أليست يد الرب قوية؟ أيوجد شئ مستحيل لدى الله؟ ضع نهاية لأحزانك أتتذكر كيف أعلن الله ليعقوب عن يوسف ابنه الذى كان يظن أنه مات؟ إن الله سيعطيك كما فعل مع يعقوب حتى يعطيك نفس التعزية. أرجوك أن تبقى هنا فى الدير مدة ثلاثة أيام".

مكث بفنوتيوس فى الدير ثلاثة أيام آملاً فى أن يعلن لـه الله أى شئ يتعلق بإفروسينا عن طريق ازماراجدس. وبعد ثلاثة أيام عرفت إفروسينا أنها سترحل إلى الله، فاستدعت أباها بفنوتيوس وقالت لـه: "الله شديد القدرة أرشدنى إلى طريق قد اختاره لى وحسب طلبى، والآن قد أتت النهاية، إننى عبرت طريق الرهبنة بأتعابه، وليس بقوتى ولكن بنعمته التى حفظتنى من شرك الشيطان. أنا لم أرد أن يستمر حزنك على ابنتك. أنا ابنتك.. أنا إفروسينا وأنت أبى. أنا هو التى بحثت عنها كثيراً طوال هذه المدة. لأجل حب الله تركت ميراثى وخطيبى وأنت أيضاً يا أبى، ولهذا جئت إلى هنا ولم أكشف لأى أحد إننى امرأة . والآن  أرجوك يا أبى لا تترك أى أحد يغسل جسدى للدفن. واطلب منك أن تحقق لى وعدى الذى وعدته لأب الدير لأنه عندما طلبت منه أن يقبلنى  فى الدير قلت لـه إننى أملك أموالاً كثيرة وإننى سأعطيها كلها للدير. فحقق لى يا أبى وعدى الذى وعدته وكل ميراثى اتركه للدير وعندما تفعل هذا  لاتنسى أن تصلى لأجلى".

وبعدما قالت هذا استودعت إفروسينا روحها فى يد الله، وعندئذ وقع بفنوتيوس على الأرض من شدة الصدمة كما لو كان ميتاً. فدخل أغابيتوس إلى القلاية ووجد ازماراجدس قد تنيح وبفنوتيوس مستلقياً على الأرض ولكنه حى، فرش ماء على وجهه وأقامه من الأرض، وقال: "يا إلهى ماذا حدث لك يا بفنوتيوس؟" فأجاب بفنوتيوس: "اتركنى هنا أموت لأننى رأيت أعجوبة غريبة!".

وقام بفنوتيوس وارتمى على إفروسينا وهو يبكى بدموع غزيرة قائلاً: "وا أسفاه على ابنتى الجميلة! لماذا لم تكشفى عن نفسك أمامى قبل هذه الساعة حتى أموت معك؟ وا أسفاه مِن مَن أخفيتِ نفسك يا ابنتى العزيزة؟ لقد اختفيتِ حقيقة وهربتِ من شراك العدو، وفررت من حكام هذا العالم المظلم ودخلتِ إلى الحياة الأبدية!".

ولما سمع أغابيتوس هذا فهم ما حدث وذهب وقال للأب رئيس الدير، فأسرع الأب إلى القلاية ووقع على الأرض أمامها، وقال وهو يبكى: "إفروسينا عروس المسيح وابنة القديسين لا تنسى أخوكِ ولا تنسى هذا الدير! صلى لأجلنا أمام ربنا يسوع المسيح حتى يمنحنا القوة لنجاهد حسناً حتى نصل إلى سماء الخلاص وننال نصيباً مع قديسيه".

أمر أب الدير أن يجتمع كل الآباء حتى يدفنوا جسد إفروسينا بكل وقار وإجلال. وعندما جاء بقية الرهبان وقفوا متعجبين من هذه الآية العجيبة ومجدوا الله الذى أظهر قوته الإلهية خلال ضعف الجسد. وكان أحد الرهبان أعمى بعين واحدة، عندما اقترب من الجسد وبكى وقبل جسدها المقدس فتحت عينيه ورأى بها.

فلما نظروا الآباء الرهبان هذه المعجزة عظموا الله على رحمته ومجدوا وبجلوا القديسة التى أفرحت الله. وبعدما تأملوا وانتفعوا جداً بحياة هذه القديسة، دفنوها مع أجساد الآباء القديسين الذين جاهدوا فى هذا الدير، وكانوا يعيدوا لها بفرح كل سنة.

أما بفنوتيوس أبوها فرجع إلى المنزل، ووزع كل ممتلكاته على الكنائس والأديرة والغرباء، والباقى من أمواله الذى كان ليس بالقليل أحضره إلى الدير الذى جاهدت فيه ابنته، وعاشت فى وسطهم. ثم طلب أن يمكث فى نفس القلاية التى تنيحت فيها ابنته وعاش فيها مدة عشر سنوات، وأرضى الرب فيها وتنيح بنفس الطريقة التى تنيحت بها ابنته القديسة إفروسينا ودفن بإجلال بجانب ابنته.

بركتهما المقدسة تكون معنا أمين.