4توت: الشهيد كبريانوس أسقف قرطاجنة

كان كبريانوس من أسرة وثنية فى قرطاجنة فى شمال أفريقيا، وقد ولد فى أوائل القرن الثالث الميلادى أثناء عصر الاضطهاد فما إن اعتنق المسيحية حتى اعتزم أن يحيا حياة عفيفة، فهجر دراسة الآداب اليونانية والرومانية وانقطع إلى دراسة الكتاب المقدس. ثم زهد فى الزواج فوزع أمواله على الفقراء ولم يستبق إلا الضرورى لمعيشته. وقد تأثر بكتابات ترتليانوس، ثم بعد ذلك أصبح أسقفاً على مدينة قرطاجنة.
حتى إذا جاء عهد الإمبراطور الرومانى ديسيوس، أصدر هذا الإمبراطور قوانين جديدة تقضى بأن يحمل كل مواطن فى كل أنحاء الإمبراطورية شهادة رسمية تثبت أنه قدم ذبائح للآلهة الوثنية، ومن ثم أصبحت السلطة المدنية تقبض على الأساقفة وتصادر أملاكهم ثم تقتلهم، وقد جرت دماء الشهداء فى نفس المجرى الذى كانت تجرى فيه دماء الذبائح التى ضحى بها الوثنيون للآلهة الكاذبة، فذهب كبريانوس إلى مكان بعيد ولكنه ظل يسوس كنيسة قرطاجنة من ذلك المكان خمسة عشر شهراً بالرسائل التى كان يبعث بها إلى شعبه، وبما كان يرسله إليهم من ماله الخاص، ثم لم يلبث أن عاد إلى قرطاجنة بعد عيد الفصح سنة 251م، وكان الاضطهاد قد هدأ قليلاً.

وقد أصدر كبريانوس مجموعة شهيرة من القوانين التى تطبق على الذين سقطوا أمام بشاعة التعذيب فأنكروا مسيحيتهم، كما تكلم فى هذه القوانين عن قيمة عماد الهراطقة بعد توبتهم.
ثم عاد الاضطهاد مرة أخرى للمسيحيين بعد الاضطهاد الأخير الذى وقع سنة 249م. فلم تمض على الاضطهاد الأخير سبع سنوات حتى قام الإمبراطور فاليريان يجدد على الكنيسة حملة التخريب التى كان قد بدأها الإمبراطور سبتيموس سفيروس فى أوائل القرن الثالث والإمبراطور واسيوس فى أواسط هذا القرن، فأصدر أمراً يلزم كل الذين لا يؤمنون بدين الدولة بأن يعتنقوا هذه الديانة ويجاهروا بذلك، كما أمر بمنع المسيحيين من التجمع ومن الذهاب إلى المقابر، ومن ثم شددت السلطات على مراقبة الأساقفة والكهنة والشعب. فلما اطلع الوالى الرومانى فى أفريقيا على هذه الأوامر الإمبراطورية. استدعى الأسقف كبريانوس فى 30 أغسطس سنة 257م وطلب منه أن يطيع هذه الأوامر، وأن يطيعها كل المسيحيين الخاضعين لـه. فقال على الفور: "أنا مسيحى، وأنا أسقف، ولا أعرف آلهة غير الله الواحد خالق السماء والأرض وكل ما فيها. فهذا الإله هو الذى نعبده نحن المسيحيين نهاراً وليلاً، ونتوسل إليه من أجلنا، ومن أجل البشر جميعاً، ومن أجل الأباطرة أنفسهم." ولم يكن لديه شئ آخر يقولـه. ولا كان من المنتظر أن يرجع فيما قال، ومع ذلك أراد الوالى أن يتحقق من كلامه مرة ثانية. فقال له القديس: "من يعرف الله لا يرجع عما عزم عليه."

وقد كان للوالى بعد ذلك أن يأمر بنفى الأسقف، ولكنه أراد قبل ذلك أن يعرف منه أسماء الكهنة الذين يعاونونه، فقال لـه الأسقف فى تهكم: "لقد حرمتم فى شرائعكم الوشاية والنميمة." ثم قال للوالى: تمم ما أُمرت به." فأصدر الوالى حكمه بنفى كبريانوس وحدد إقامته وراء رأس بون فى أفريقيا حيث أقام سنة .

وقد استطاع كبريانوس أن يكتب من منفاه رسالة إلى جماعة من المسيحيين من كهنة وعلمانيين محكوم عليهم بالعمل فى المناجم، ونعرف من رسالته هذه أن أولئك "المعترفين" كانوا يعاملون معاملة سيئة جداً فكانوا يشتغلون أشغالاً شاقة، وهم يرسفون فى القيود الحديدية، ثم يرقدون على الأرض، ولا يحصلون إلا على القليل من الخبز وقليل من النوم.

ثم فى سنة 258م أقام الإمبراطور والياً جديداً على قرطاجنة فأعاد كبريانوس إلى كرسيه. غير أنه لم يلبث أن جاء أمر الإمبراطور بقتل الأساقفة والكهنة والشمامسة، وكان كبريانوس مذكوراً بالاسم فى هذا الأمر وكان من الأوائل الذين استشهدوا بناء على هذا الأمر سكستوس بابا روما، وقد نال الشهادة فى 6 أغسطس 258م، مع أربعة من شمامسته. وبعد أيام قليلة جاء من ينذر كبريانوس أن الشرطة تتأهب للقبض عليه تنفيذاً لأمر الإمبراطور بقتله، وفعلاً تم القبض عليه فى 13 سبتمبر 258م، وقضى الليل فى منزل أحد الجنود المكلفين بالقبض عليه، فاحتشدت جموع المسيحيين أمام البابا يحوطونه بصلواتهم ثم فى الصباح مضى به الجنود إلى الوالى، فدار بينهم الحوار الآتى:

- أأنت ثاسيوس كبريانوس؟

+ أنا هو.

- أأنت أسقف هؤلاء الناس الفاسدى المذهب؟

+ أنا هو.

- إن جلالة الإمبراطور يأمرك بأن تقدم ذبائح للآلهة؟

+ لن أفعل أبداً.

- فكر جيداً.

+ إفعل ما أُمرت به. فى مثل هذا الأمر لا جدوى من التفكير.

- لقد عشت طويلاً فى مذهبك الباطل، وجذبت كثيرين إلى مؤامرتك الفظيعة، فعاديت الآلهة الرومانية، وخالفت الشرائع المقدسة، فما استطاع الأباطرة الأبرار القديسون المعظمون أن يردعوك أو يردوك إلى الدين الصحيح، لذلك ربما إنك معروف بأنك سبب هذه الجرائم الجسيمة ومدبرها، ستكون عبرة لمن أغويتهم وجلبتهم إلى ديانتك الكاذبة، حتى يسود النظام بسفك دمك. ثم تلى الوالى الحكم قائلاً: "قضت المحكمة بأن يموت ثاسيتوس كبريانوس بحد السيف."

فقال كبريانوس حين سمع هذا الحكم: "الشكر لله." ، ثم أخذه الجنود إلى ساحة الإعدام، يحيط به أبناؤه المسيحيون فى قرطاجنة، حتى وصل الموكب الحزين إلى مكان التنفيذ، فألقى كبريانوس رداءه وركع على الأرض وصلى، ثم أحنى رأسه للسيف، فقطع السياف رقبته. وقد كان ذلك فى يوم 14 سبتمبر 258م فى عهد الإمبراطور فاليريان والوالى جاليريوس مكسيموس.

بركة صلوات الشهيد كبريانوس تحرسنا إلى النفس الأخير.